خواطر

بقلم
شكري سلطاني
وَهْم الحقيقة
 الحياة الدّنيا فرصة البشر لعيش تجربة وجوديّة نوعيّة، وإستثمار وإستغلال كلّ الإمكانيّات والطاقات والظّروف والحظوظ لقضاء فترة الحياة في السعيّ والكدّ دون تسويف أو تفريط أو إفراط، لكي لا يضيع العمر هباء، فيصبح الماضي مجرّد زمن عابر وقد انقضى وولّى دون رجوع. فإذا لم يكن الزّمن الحاضر زمن السعي وبذل الجهد والعمل، فما حيلة الإنسان في ترقّب مستقبل في حكم الغيب ولا علم له به؟ومن لم يزرع بذور سعيه في أرض كده وجهده، فكيف يترقّب ثمار كسله وتراخيه وإنبساطه؟!
 إنّ تصرّف الشّخص وتوجّهه وسلوكه نتاج دمج وتركيبة وتوليفة منطقيّة لرؤية فلسفيّة للحياة إجمالا ولذهنيّة عاقلة مُدركة للواقع كما تراها من زاوية النّظر والبصر الذّاتي وكذلك للبُعد الأنطولوجي الشّعوري والنّفسي للوجود. فهل أحسن الإنسان النّظر والشّعور والسّلوك لكي يرى صائبا وتُحمد عقباه؟ وهل عاش حياته حقيقة أو تمسّك بوَهْم الحقيقة وضلالها؟
1 - الحقيقة والوهم :
الحياة الدّنيا فانيّة زائلة وتنتهي واقعيّا بمغادرة الإنسان مسرح الحياة، والنّاس سائرون وهم منغمسون ومنهمكون ومنهكون ومثقّلون بشواغلهم ومشاغلهم، فهمّهم ما أهمّهم وما أكثر همومهم.يحتويهم زمانهم ويؤطّر وجودهم، يُغيّر أحوالهم وحالهم بتأثيراته المباشرة في ذواتهم. كل يوم لهم فرصة وهو شاهد عليهم ونقص من أعمارهم.
طرق وسُبل عديدة يسلكها الفرد، ومن انصرف دون بوصلة سير تاه وتغشاه أوهام اللّحظات والخطرات، لتفلت منه معاني الحياة والوعي بما يجب أن يفعل، إذ النّفس مقيّدة بغشاوة الحياة.
تكمن الحقيقة خلف الصّورة، من وراء حجاب الظّلمة، يجهلها الأحياء بلباسهم الحسّي وغشاوة الكثائف، فكلّها حجب ساترة لحقائق ومعاني الوجود، أليس«الدنيا ظاهرها غرّة وباطنها عبرة»؟ولكن هل من مدّكر؟
 من يرفع همّته إلى أعلى وينزع طوعا وتجريدا بجهده وكدحه وعرفانه غشاوة الوهم وغلاف الصّورة وحجاب الظّلمة المانع لمطالعة الغيوب؟ من يسمح لنفسه أن يجزم ويقول أنّه يرى صائبا؟وهل هو متأكّد حقّا ممّا يرى ويُعاين ويعتقد في صوابه صواب؟ وما أدراه أنّ كلّ ذلك وَهْم وليس إلاّ إنعكاسا لعالمه الدّاخلي من شعور وأحاسيس وتمثّلات ومن عقد نفسيّة ومن نقص وقلّة حال؟ كيف نتأكّد أنّ ما نشعر به وما نأتيه حقيقة وليس وَهْمًا؟ وكيف نخرج من أوهام الحقيقة وسُحب الأوهام وغشاوتها؟ أليس الإنسان محاطا مغلّفا بقشور صور خادعة ومحاصرا بالمظاهر والظّواهر أقوالا وأفعالا؟
غالبا ما ينخدع الإنسان الغافل بما يرى ويسمع، ويتّبع هوى نفسه وما يجذب له الإنبساط والرّخاء. إنّ التّلقائيّة وعقليّة «من تحصيل الحاصل» مع العادة والسّذاجة كلّها تمنع الإنسان لكي يرى صائبا والولوج لحقيقة واقع آخر مغاير حيث إتّساع الرّؤية ورفع الهمّة عن المخلوقات، ومخالفة هوى النّفس وما اعتادته في  زمن الصّبا من  غرور وسطحيّة تفكير ونرجسيّة.
الإنسان هو من يتوجّه للفعل ويتحكّم في زاوايا رؤيته وشعوره ومقصد سلوكه، فهو الذي يملك نظرته ورؤيته للأشياء من محسوسات وملموسات ويملك قراره وإرادته .فليتشغل من وعى بضرورة الوعي بالتّغيير على قيّمه وعلى تطوير ذكائه العاطفي تنمية لشعوره. وليتّصل وجوبا مع كيانه الدّاخلي فطرته، وكذلك ليستمدّ من مصدر الذّكاء الهائل في داخله القوّة والعزيمة، فلا يكترث وينغمس أليّا بما يحيط به.
 لا بدّ من التّجريد واتخاذ الإنسان مسافة الآمان خطوات إلى الوراء للنّظر والتّدقيق والتّحقيق فيما يرى، ويُعاين ببصره حتّى يُتيح لبصيرته وصفاء ذهنه فرصة التّقييم والحكم والفعل والعمل النّافع. فكيف نُحسّن الأداء بتصحيح زوايا الرّؤية؟
2 - زوايا الرّؤية :
إنّ التّغيّير والتّحوّل من وَهْم الحقيقة إلى الإستبصار بحقائق الوجود مسألة ترتبط بالشّخص نفسه، ومن لا ينظر لذاته نظرة موضوعيّة ونقديّة سكن في مقام غفلته وجهله، لأنّ وهم المعرفة يغرق الإنسان في الجهل، فتراه غير مبال بما يقع له من حصائد أقواله وأفعاله، فلا هو قادر على أن يمسك لسانه ولا أن تسعه داره، ولا أن يهتمّ لحاله وما يعنيه، فيعجز عجزا تامّا عن إصلاح عيوب نفسه وتصحيح مساره، فهيهات أن ينهض لحاله. ومن الزّوايا المحبطة أو المحفّزة لتحويل الحال إلى مقام الصّحوة والحركة أو إلى مقام السّكون والسّبات نجد:
أ-الزّاويّة الأنطولوجيّة :
إنّها الصّياغة والتّرميز العاطفي ذات البعد الذّوقي الشّعوري الحدسي، معاني الوجود في وجدان الموجود كيفما يستشعرها ويتحسّسها. تلعب إنطباعاتنا الحسيّة دورا هاما في تفكيرنا، أليس بحضورنا نتذوّق طعم وجودنا؟ وقد يتمّ ملاحظة الشّخصيّة من زاوية الحالة العاطفيّة ومستويات الطاقّة لدى الفرد، فإنطباعاتنا الحسيّة من تحدّد وجوبا مجال تفكيرنا.
ب-الزّاوية الفلسفيّة :
لكلّ شخص رؤية لحياته وللوجود، وتمثّلاته وتصوّراته لواقعه وللنّاس وأحوالهم، وكلّ وبضاعته، عُدّته ثقافته وخبرته عقليته ونشاطه الذّهني. فلا يخلو إنسان من فهمٍ وإدراكٍ، فله إطار تفسيري لما يلاحظ، فإمّا يتعامل مع دنياه بسطحيّة أو بعمق. إنّها الزّاوية المعرفيّة التي تعكس مدى إلمامه بالمواضيع وإستيعابه لها وكذلك المسائل المتاحة أمامه للدّراسة والتّمحيص والتّدقيق قصد التّجاوز والتّحقيق والتّي بها يحكم ويقرّر ويتوجّه ويتصرّف بمحض إرادته.
ج- الزّاوية السّلوكيّة :
الجانب العملي الفعلي يُبرز نشاط الإنسان وحركته وسعيه، فإمّا حريص عجول أو متريّث بطئ. ومن دوافع السّلوك ومحفّزاته المبادئ والقيّم لأصحاب المبادئ والمُثُل، وقلّة من النّاس من تلتزم بالقيم السّليمة، أمّا الغالبيّة فتُحرّكها المصالح والحاجات.
إنّ مواجهة الذّات ومعالجتها هي أصعب رحلة يخوضها الإنسان في تجربة حياته الدّنيويّة، فالتّجارب هي معيار ومقياس أساسي للنّضج. والحياة ليست فسحة في أرض منبسطة مروجها خضراء، بل لا بدّ من السّير على الأشواك وبذل جهد الطّاقة وأداء فروض الطّاعة لمن خلق فسوّى وقدّر فهدى.
3 - نسبيّة الواقع والأحوال ومطلق الفكر:
من المفارقة العجيبة في حياة البشر أنّ واقعهم وأحوالهم نسبيّة، محدّدة بشروط وظروف موضوعيّة وذاتيّة، فكلّ ما هو واقعي معقول بمعقوليّة البشر، وكلّ ما هو معقول منهم واقعيّ في حلّهم وترحالهم وسكونهم. ولكن رغم ذلك، فتفكير غالبية النّاس ذو صبغة مطلقة غير مقيّدة بنسبيّة فهم وإدراك وتقييم ونقد، فهم يطلقون جزافا أحكاما قيميّة لا تراعي نسبيّة الذّات وظروفها، وذلك لغشاوة مثاليّة مفرطة تُعمي بصيرتهم لكمال يستشعرونه في ذواتهم النّاقصة العليلة.
من فهم عن الحياة الدّنيا عَلِم أنّها حَلّ وعمل لمغالبة الصّعوبات والتّجاوز، وليست وهما وكسلا وإنبساطا. والماضي لا يُعاد والحاضر حضور البشر بتعلّقاتهم وسعيهم وإنصرافهم وتصرّفاتهم، والمستقبل في حُكم الغيب. فلا كسب مضمون ﴿...وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا...﴾ (لقمان:34) فالجهل والعجز والضّعف صفة البشر، وتلك حكمة الأقدار من الملك الجبّار سبحانه وتعالى.
قد أفلح من نهض بنجاح وسعى في طريق الفلاح والصّلاح، يحدوه الأمل ويشحذه علوّ همّته وعزيمته، وقد خاب من حاد عن هدف وجوده وتاه في السُّبُل .
﴿  أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون:115) صدق اللّه العليّ العظيم.