في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
أيّ مُقاربة نحتاج كإطار لأنموذج تنموي مُتوازن؟
   ما لفَتَ انتباهنا، عند دراسة أبرز نماذج التّنمية المُعتمدة ضمن المُقاربة النّفعية المادّية والفئويّة، في العدد السّابق لمجلة «الإصلاح»(1) ، الكيل بمكيالين في التّعامل مع الإنسان، في طُغيان بيّن في الميزان، ميزان التّساوي بين النّاس، ممّا يجعلها نماذج تنمويّة غير متوازنة، وما لفت الانتباه أيضا أنّها كلّها ثمرة مقاربة واحدة، ممّا يدفعنا للبحث عن مقاربة جديدة كإطار لأنموذج تنموي متوازن، ولكن لنُفَصِّلْ أوّلا في عدم توازن النّماذج التّنمويّة التي هيمنت قبل أن نحدّد بعضا من ملامح المقاربة الجديدة.
1 - أوجه عدم توازن نماذج التّنمية المُهَيْمنة
 نجد في نموذج الاحتلال العسكري إنسانا مُحْتَلّا وإنسانا واقعا عليه الاحتلال في عنصريّة مُخلّة بالمساواة بين النّاس، والتي أقرّتها الشّرائع السّماويّة ورفعتها «الثّورة الفرنسيّة» التي أفرزت نخبا سياسيّة محتلّة لجيرانها من الشّعوب.
وفي النّموذج الّذي عُرِفَ بـ «النّازل» (TOP - DOWN)، تمّ الاعتماد على قوّة المال، وكان التّعامل من طرف قِلّةٍ قليلة من النّاس مع أغلب النّاس على أنّهم كلفة اقتصاديّة، أمّا في النّموذج المُسَمَّى بـ «الصّاعد» (BOTTOM - UP) تمّ النّظر إلى النّاس على أنّهم موارد بشريّة وجب تنميتها، وفِي كِلاّ النّمُوذَجَين طُغيان في الميزان، ميزان الإنسان، فبدل ميزان الكرامة والتّفضيل في تقييم الإنسان تمّ اعتماد ميزان الأعباء الماليّة في الأوّل بالنّظر إلى الإنسان ككُلْفَة وميزان الإيرادات في الثّانية بالنّظر الى الإنسان على أنّه مورد.
أمّا في النّموذج النّيو ليبيرالي الجديد، فقد نُظِرَ إلى الإنسان على أنّه سلعة تُباع وتشترى، الى أن وصل بالنّموذج السّائد الآن الى الاعتماد على الإنسان الآلي مِمّا أخلّ بالنّظرة إلى الإنسان فتحوّل من قيمة ثابتة معنويّة واجتماعيّة وهدف أيّ نشاط اقتصادي إلى قيمة ماليّة مُتغيّرة ووسيلة للكسب المالي في النّشاط الاقتصادي لقلّة من النّاس لا هدف له. 
وحتّى النّموذج الذي يحمل تسمية (THE EMPOWERMENT) وتمّت ترجمتها إلى اللّغة العربية بـ «التّمكين» أخلّ بجوهر «التّمكين» حين اختصره في حصول الفقير على موطئ قدم في السّوق من خلال تمكينه من الموارد الماليّة الكافية، دون تحقيق جوهر التّمكين بما هو مسار تحوّل اجتماعي ينتج عنه تعديل في موازين القوى في المجتمع لصالح ضحايا القلّة المتمكّنة، وقد اكتفى ذلك النّموذج بالتّعويل على القروض الماليّة الصّغيرة المقدّمة أصلا ممّن يحرصون على الحفاظ على موازين القوى السّائدة.
وبالنّظر الى اتساع دائرة الفقر في العالم وتعدّد أبعاده وتفاقم حجمه كظاهرة عالميّة، يمكن استنتاج أنّ هذه النّماذج لم تُعِرْ النّوع البشري الاهتمام الذي يستحقّ، ولم تحافظ على كرامته ولم تُقِرّ بأفضليته، ممّا يدفع الى البحث عن نماذج جديدة للتّمكين له، ليس فقط اقتصاديّا بل اجتماعيّا وذاتيّا أيضا، فكما فقر الإنسان متعدّد الأبعاد فالحدّ منه يحتاج الى تمكين للإنسان متعدّد الأبعاد أيضا حتّى لا يقع فريسة لأي بعد من أبعاد الفقر، ولأنّ الفقر يستهدف الأفراد ويستهدف أيضا الدّول والمجتمعات، فإنّنا في حاجة الى منهجين في التّحليل الأول جُزئي والثّاني كُلّي، لإدراك سلوك كلّ منهما تُجاهه والاهتداء الى كيفيّة تمكين كليهما. 
وبما أنّ كلّ النّماذج السّابقة عكست طُغيانا سافرا في ميزان الإنسان علينا أن نبحث عن كيفيّة إقامة الوزن بالقسط حسب مقاربة جديدة نستخرج منها نماذج للتّمكين، لعلّنا نهتدي لما يمنعنا من الوقوع فريسة لأيّ بعد من أبعاد الفقر، فما هي المُقاربة البديلة التي تحتاجها البشريّة لإفراز سياسات هيكليّة جديدة قادرة على الحدّ من الفقر لا مُفاقمة له؟ 
2 -ملامح مُقاربة بديلة:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحديد :25)  آية من آيات كتاب اللّه للنّاس أجمعين، تُحدِّدُ ما بهما يقومون بالقِسط، ألا وهما الكتاب والميزان، كما تؤكّدُ من خلال الإحالة على الحديد على أهمّية موارد الطّبيعة للبأس الشّديد ولمنافع للنّاس، على عكس بأس الحروب في عصرنا، التي يُشعلها باستمرار أناس يُعادون حرّية الشّعوب وتمكين أفرادها، مِمّا يُؤَدِّي حتما لاتساع دائرة الفقر، وكلّ الحروب المشتعلة تُؤكّد هذه الحقيقة، سواء في غزّة من طرف كيان يهودي صهيوني غاصب، في إطار تصفية القضيّة الفلسطينيّة أو في أوكرانيا في إطار الصّراع العالمي على طبيعة النّظام الدّولي المستقبلي أو قبلهما الحروب التي شهدتها منطقتنا العربيّة في سياق إعاقة رغبة شعوب المنطقة في الحرّية والتّمكين من الخليج واليمن مرورا بالعراق وسوريا وصولا الى ليبيا وآخرها السّودان.
وأمام إرادة إشعال نار الحرب لدى أعداء حرّية الإنسان والتّمكين له، وفي مواجهة تداعياتها الخطيرة على معيشة النّاس ومستوى حياتهم، تحتاج البشريّة للّه القادر الوحيد على إطفائِها، كما تحتاج الى هدي كتابه الدّاعي الى إقامة الوزن بالقسط، بعيدا عن المُقاربة المادّية النّفعيّة الفئويّة والتي أفرزت سياسات هيكليّة وأخرى مُتعدّدة الأبعاد جعلت أغلب النّاس تتخبط في دائرة الفقر مُتعدّد الأبعاد حتما(2)، فالفقر ما هو إلاّ نتاج سياسات وهو واقع جعل نماذج التّنمية الدّوليّة سابقة الذّكر في قفص الاتهام، ممّا يجعل البشريّة في أمس الحاجة الى سياسات هيكليّة جديدة والى نماذج أخرى يُمكِنُ الاعتماد عليها لتمكينها، حدّا لظاهرة الفقر وحفاظا على كرامة أفرادها وحريتهم.
ومن هَدي كتاب اللّه للبشريّة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾(الرعد:11)  فالبشريّة تحتاج للحدّ من الفقر الى اتباع سياسات هيكليّة نابعة من إرادة تغييريّة لما بالأنفس، خاصّة إذا علمنا أنّ تفاقم ظاهرة الفقر يعود الى سياسات هيكليّة(3) وأخرى مُتعدّدة الأبعاد(4)، نابعة من نفوس راغبة في تحقيق نفع فئوي ضيق وإن أدّى ذلك الى تفقير أغلب البشر وانتشار الحرمان في مختلف المجتمعات وظهور الفساد في الأرض، في استعلاء بَيِّن على الهدي القرآني، الدّاعي الى الدّخول في السّلم كافّة شرط التّمكين الاقتصادي ، والى الاخوّة والتّعاون شرط التّمكين الاجتماعي، وعدم الفساد في الأرض شرط التّمكين البيئي.
وقد أنتج ذلك الاستعلاء على هدي كتاب اللّه واقعا من التّفاوت الصّارخ بين الأفراد والفئات والجهات والدّول والمجتمعات، نتيجة الطّغيان في الميزان وخاصّة ميزان الإنسان، طُغيان عكسه إهدار كرامة الإنسان وفقدانه للتّفضيل الذي منحه اللّه إياه(5).
وأمام تفاقم ظاهرة الفقر والفشل في تحقيق الأهداف المعلنة من «رخاء مشترك وقضاء على الفقر»(6)  على مستوى العالم البشري، وخوفا من تداعيات ذلك على مصالح الفئات والجهات المستعلية على هدي كتاب اللّه والمهيمنة على المُقدّرات في الأرض، أطلقت هذه الأخيرة نهجا أطلقت عليه (ترجمة للعربيّة) مصطلح «التّمكين الاقتصادي» لعلّها تحتوي ظاهرة الفقر خوفا من ثورة الجياع، إلاّ انّ النّتائج بقيت مُخيّبة للآمال، وبقيت موازين القوى في الأسواق مختلّة، بل تعزّزت لصالح الفئات النّافذة والمتمكّنة وازدادت دائرة الفقر اتّساعا، ممّا يدفع الى تغيير المقاربة ككلّ وإن لا يتم تسليم مصير الأغلبيّة السّاحقة للبشريّة الى فئة قليلة مُتمكّنة من خلال ما تضعه من استراتيجيّات وما ترسمه من سياسات خاصّة الهيكليّة منها، والتي تريد من خلالها ضمان ديمومة مصالحها وتفوّقها عبر تعزيز النّظام العالمي القائم والعلاقات السّائدة غير المتوازنة، مِمّا يعكس طُغيَانا سافِرًا على مستوى موازين القوى وعلى مستوى العلاقات الدّوليّة، وذلك في تناقضٍ صارخٍ مع هَدي كِتاب اللّه للنَّاسِ جميعًا، الدّاعي الى عدم الطُّغيان في المِيزَان ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾(الرحمان:7-8)  .
ولإقامة الوزن بالقسط، على مستوى النّظرة للإنسان وعلى مستوى موازين القوى والعلاقات الدّوليّة، يحتاج الحدّ من الفقر الى وضع سياسات تغييريّة، تنطلق من تصديق بوعد اللّه بالفضل والإحسان للمؤمنين به وبقدرته وعدم الاستسلام لوعد الشّيطان ولا لاتّباع ما يأمر به من فحشاء وما يعنيه من انحراف سواء في التّصوّر والهدف والغاية أو في النّهج والوسيلة، فالحدّ من الفقر يحتاج الى القطع مع سياسات الطّغيان في الميزان، ميزان التّعامل مع الأفراد والفئات والجماعات مهما كانت جهاتهم أو انتماءاتهم العائليّة أو مستوياتهم الاقتصاديّة والماليّة، والتي عكستها ظاهرة التّهميش والاقصاء المؤدّية للاستضعاف والتّفاوت.
 كما يحتاج الحدّ من الفقر الى القطع مع نهج وضع السّياسات الفوقيّة الفرديّة المركزيّة واتباع سياسات تكون ثمرة نهج تشاركي جماعي تشاوري، يُقام من خلاله ميزان يُساوى من خلاله بين الجميع في صياغة المستقبل وتقرير المصير.
ولإقامة الوزن بالقسط، وزن نفع كلّ النّاس، يحتاج الحدّ من الفقر اتخاذ سياسات تهدف الى نفع كل النّاس بدون استثناء بشكل مُتَساوٍ وذلك عبر اتباع سياسات للتمكين لهم اجتماعيّا واقتصاديا وما يتطلبه ذلك من تمكين على مستوى التّصور والنّهج، تحقيقا لغاية التّعارف وإعمار الأرض لا الفساد فيها.
فالبشرية تحتاج الى سياسات توحيديّة لا مُفرّقة، وتشاركيّة لا مركزيّة، تهدف الى تحقيق النّفع لكلّ النّاس لا لفئة بعينها، ولن يتمّ ذلك الاّ من خلال تمكين كلّ النّاس اجتماعا وهداية واقتصادا، كلّ ذلك من أجل تحقيق الغاية من الوجود البشري ألا وهي التّعارف وإعمار الأرض، لا التّقاتل والفساد فيها.
وتشمل تلك السّياسات الهيكليّة سياسات إعادة هيكلة النّفوس والعقول، ومن ثمّ إعادة هيكلة الأهداف والغايات وكذلك إعادة النّظر في الممكن وفي نهج التّمكين والمعنيين به، ليكون وفق هدي كتاب اللّه للنّاس جميعا، ومن خلال اتباع أسبابه ونهجه المبين في آياته، وليشمل الجميع دون استثناء أفرادا وجماعات، دولا ومجتمعات، وألاّ يقتصر على النّساء المهمّشات أو الفقراء والمقصيّين، وألاّ  يعتمد على مقاربة ماليّة حصرا عبر قروض صغيرة كما يروّج له البنك العالمي، وبإعادة هيكلة النّفوس والعقول والاهداف والغايات وإعادة النظر في نهج التّمكين يمكن الحدّ بل القضاء على الفقر لدى الأفراد والجماعات وكذلك لدى الدّول والمجتمعات.
فالمقاربة البديلة التي تحتاجها البشريّة لمعالجة الفقر هي مُقاربة النّفعيّة العالميّة: إطار لسياسات هيكليّة تغييريّة، ولكن ما هي نماذج التّمكين الّتي يُمكِنُ تَقْديمَها لتمكين أغلب سكّان المعمورة، حدّا لظاهرة الفقر وحفاظا على كرامتهم وحريتهم؟ هذا ما سنُقَدّمه لجمهور القُرّاء في العدد القادم من مجلة الإصلاح إن شاء اللّه.
الهوامش
(1) راجع مجلة «الإصلاح» الالكترونية عدد 200 ، مارس 2024 من ص 30 الى ص36 الرابط: www.alislahmag.mag
(2) راجع مقالاتنا السابقة في الاعداد 196 و197 و198 و199 و 200 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية www.islah.mag
(3)  راجع مقال لنا في العدد 199 السابق لمجلة الإصلاح   www.islah.mag 
(4) راجع مقالات لنا في العدد 196 وفي العدد 197 وفي العدد 198 لمجلة الإصلاح www.islah.mag
(5) «ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا» الآية 70 من سورة الاسراء (6)راجع الاستراتيجية العالمية للقضاء على الفقر في حدود 2030 عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ومنشورات البنك العالمي.