مرايا

بقلم
د.محرز الدريسي
أنسنة المدرسة. التربية على التوجيه وتنمية الذات
 اشتغلت كباحث في كتابي «أنسنة المدرسة. التربية على التّوجيه وتنمية الذّات» للإجابة عن سؤال محوري: كيف يساهم التّوجيه في بلورة أدوات بيداغوجيّة وتربويّة تساهم في تنمية الذّات التّلمذيّة وتربية المتعلّم على معرفة الذّات وتنشيط مهارات حلّ المشكلات وتطوير قدرات بلورة المشروع الشّخصي؟ وهي عناصر ثقافة مدرسيّة جديدة في مرافقة المراهق /التلميذ تسهم في استحضار الأبعاد التّربويّة والإنسانيّة للمدرسة. 
كان من المفروض أن يُنشر هذا العمل التربوي قبل سنوات، إلاّ أنّ كامل الفترة المنصرمة توارى فيها الخطاب التّربوي/المدرسي خلف كثافة الجدل السّياسي وسمك «معركة» بناء الدّيمقراطيّة ثقافة ومؤسّسات. وتأكّد لدينا بعد -عدّة تجارب- أنّ حقل التّربية يمثّل «معركة» لا تقلّ أهمّية عن غيرها من المعارك، بل لعلّها في أسس كلّ تغيير بنيوي، في الفرد وفي المجتمع. وعلى وقع تحديات جائحة الكوفيد 19 استعادت أقانيم التّعليم والتّربية كثافة حضورها في نقاشات الفضاء العام وصلب النّخبة وخاصّة التّربوية منها، وما أفرزته من رغبة حقيقيّة في تغيير منظومة التّعليم من حيث طبيعة أهدافها ونمط اشتغالها. فالتّربية هي التي تنشئ الأجيال وتبني القيم، والمدرسة بزخمها ورمزيتها لدى التّونسيين قادرة على تطوير المجتمع. مثلما أنّ المجتمع مطالب بالارتقاء بالمدرسة وتجويد أدائها، وأضحى من الضّروري تبديل زوايا النّظر وربط إصلاحات الحقل المدرسي بإمكانيّة ترقية العقليّات والسّلوكات. وتفعيل شبكة قيم الشّباب وتطوير المدرسة وفق ثقافة تحفّز وتحرّك بناء طاقات بشريّة تسهم بفاعليّة في بناء الإنسان/المواطن وتنمية البلاد وتوضيح بوصلتها نحو المستقبل.
هذا الكتاب نتاج تمشّ علمّي وثمرة خبرات مربّ، خبر المدرسة من الدّاخل واشتمّ رائحة طباشيرها وتفاعل مع مختلف المتدخّلين التّربويّين ومع ناشئتها من المتمدرسين واحتكّ بمشاعر مراهقيها من انتصارات واِحباطات. جعلته يزداد إيمانا بمحوريّة المؤسّسة التّربويّة وحيويتها، واعتبار التّعليم والتّربية «الثّروة» الحقيقيّة، وأنّه بإمكان التّربية المدرسيّة أن تكون رافعة الأمل في المستقبل وحاملة آفاق رحبة لأجيال من الشّباب الفاعل والإيجابي. وعلى خلاف «نهاية المدرسة»، النّظرية التي ظهرت خلال العقود الفارطة مستندة على ترهّل مؤسّسات التّنشئة الاجتماعيّة عموما ومنها على وجه الخصوص المدرسة، ذهبت في عملي العلمي هذا إلى تأكيد حياة  المدرسة وحيويتها، إنّها ليست دربا للحياة بل هي الحياة أصلا. الحياة مدرسة تتيح لكينونتنا أن يكون نبضها مضبوطا على إيقاع نبض حياة إنسانيّة يجدر ببشر هذا القرن الواحد والعشرين أن يحياها.
وعلى الرّغم من المؤشّرات السّلبيّة، بإمكان المدرسة تحسين أدائها ولعب دور متقدّم في نحت الإنسان/الشاب/التلميذ، ما يصبغ عليها طابعا إنسانيّا (أنسنة المدرسة) واستثمار الجهود المبذولة في التّكوين والتّأطير والتّدريس لضخّ قيم الاستقلال والمبادرة والحسّ النّقدي. وأشرت إلى رغبة صادقة من الفاعلين في ميدان التّوجيه المدرسي ومن مختلف الأسلاك التّربويّة بإيلاء التّوجيه الأهمّية التّربويّة والتّفطّن إلى أدواره التّأطيريّة، والسّعي الحثيث إلى تفعيل مساحة مدرسيّة تهمّشت سنوات عديدة لأسباب موضوعيّة وذاتية، والعمل على الاستفادة من الخبرات والطّاقات المعطّلة. وأنّه آن الأوان لوضع اليد في اليد بين المربّين ومختلف الأسلاك التّربويّة من أجل إزاحة العوائق وزحزحة المثبطات وتدقيق محوريّة التّلميذ، بالحرص على أن تتجاوز المدرسة ثقافة التّعلّمات واختزال اشتغالها في «مهنة» التّلميذ من معرفة وتحصيل مدرسي، وأن تفتح نوافذها وروافدها للاهتمام بالبعد الإنساني والشّخصي، وتنمية مهارات الحياة ومعرفة الذّات وترسيخ ثقافة الاختيار والجرأة وأخذ القرار. 
يقيني كباحث بأنّ المدرسة هي الحياة دفعني إلى مقاربة أخرى لا تخلو من مغامرة وجرأة، اخترت أن أدلف إليها من باب علوم التّربية وهي العلوم التي تؤلّف بين علوم مختلفة: البيداغوجيا، فلسفة التّربية، علم نفس التّربية، علم اجتماع التّربية، علوم التّعلميّة الخ... إدراكا منّي لتعقّد الظّاهرة وتداخل أبعادها تجنّبا للنّظريّات الآحاديّة التي تختزل المدرسة في بعد واحد ممّا يعيدنا إلى الحتميّات التّربويّة التي وقفنا على قصورها خلال العقود الماضية. لا يمكن مطلقا أن نطمئن إلى اعتبار المدرسة فصلا لتلقّي المعارف أو ورشة للتّدريب المهني، ولا أيضا فضاء للعب فحسب، إنّها تجربة حياة تحتاج ترفّقا بالتّلميذ وذلك معنى الإرشاد (الرّشد، الوعي، الإدراك والعقلانيّة ...). لذلك جدير بنا أن نقارب المدرسة مقاربة تفهميّة بعيدا عن التّصورات الوضعانيّة التي تنتهي إلى ابتسار المدرسة في أدوات وتقنية ومعارف وذلك ما يفيد الأنسنة التي أنادي بها.
وتتجلّى في صفحات الكتاب بأنّ كلّ تلميذ قابل للتّربية، ويتوفّر على طاقات إيجابيّة واستعدادات لا حدّ لها، ويمكن إنقاذه من انطباعات اليأس والضّلال الوجودي وانسداد الأفق وثقافة الأزمة، وكابوس «المعدّلات» والعلامات وتمكينه من أسباب النّمو الجسدي والقيمي والارتقاء إلى عالم المثل والقيم من خلال ما يتعلّمه في الموادّ المختلفة والأنشطة المرافقة والإصغاء. هذا الكتاب حول التّربية على التّوجيه وتنمية الذّات التّلمذيّة بهدف أنسنة المدرسة وإدراج ثقافة معرفة الذّات والتّخطيط والمهارات الأفقيّة، أُنجز وفق المعايير الأكاديميّة وجمع بين البحث النّظري والعتاد المفاهيمي والانخراط الميداني والتّربوي، مع تدقيق بروتكول التّمشّي المنهجي بضبط المتغيّرات المستقلّة والمتغيّرات التّابعة والمراقبة، وإبراز الصّدقيّة الدّاخليّة والخارجيّة للأدوات البحثيّة المعتمدة في مختلف مراحل البحث. 
عبرت التّخصّصات العلميّة تلك حتّى تتضافر لديّ من أجل فهم أفضل للمدرسة وهو فهم لا تتشكّل شروطه إلاّ إذا عدنا إلى «المهمل»  في مدرستنا أي كل تلك«البداهات الخادعة» التي تمّ طردها من المدرسة : الذّات بما هي انفعال وذاكرة ومشاعر وأشواق و تحاور وحوار باطني. هذه القارة المختفية في مدرستنا حرصت على «إنقاذها» من أعماق التّناسي حتّى أعيدها شرطا لإنسانيّة المدرسة. 
يصاب العديد من التلاميذ ( ولا يختلف الأمر مع المدرّسين أحيانا ) برهاب المدرسة phobie scolaire  فضلا عن حالات مختلفة ومعقّدة من «كره المدرسة وجفائها» الذي يصيب الجميع : تلاميذ ومدرّسين وأسر. لا يعود الأمر في اعتقادي إلى  مجرّد نقص فادح في الإمكانيّات بل إلى تقصير فادح في الإرادات، وتحديدا إرادة أنسنة المدرسة التي حين يتّسع صدرها إلى من يؤمّها ستغدو كلّ تلك النّقائص تفاصيل لا معنى لها. هناك تجارب رائدة في هذا الميدان لا يتّسع المجال لاستحضارها. مدارس زهيدة ولكنّها عميقة وثريّة بما يجري بين جدرانها وخارجها من تجارب إنسانيّة  راقية.
يقدم الكتاب إضاءة عن الإمكانات التي يختزنها نشاط التّوجيه من مجرّد إعلام عن شروط التّوجيه المدرسي والجامعي إلى إتاحة فرص الحوار والتّحادث، والمساهمة في إخراج التّلميذ من قوقعته وإعلان مشكلاته والتّفاعل الحيّ مع المربّين. 
والكتاب محاولة للدّفاع عن مدرسة مختلفة و«صديقة» للمتعلّم والمراهق، بجعل فضاءاتها وممارساتها جاذبة تلامس مشاغله وصعوباته النّفسيّة والمعرفيّة والاجتماعيّة، ففيها يتعلّم التّلميذ حروفه الأولى ويختبر سلوكاته ويصنع وعيه ويجرّب علاقاته ويحلم فيها. نعتبره مشروعا تربويا يسهم ولو -جزئيا- في أنسنة المدرسة، وأن تصبح أكثر إنسانيّة وأقرب لاهتمامات التّلاميذ وتطلعاتهم، وأن تنافح عن قيم الإنصاف والعدالة ولا تكون مجرّد فضاء للتّنافس والاستحقاقات المدرسيّة الجافّة، وإنّما فضاء التّدرّب على المهارات الأفقيّة ونحت الشّخصيّة البنّاءة والفاعلة. فالتّلميذ إنسان، يحمل في دواخله جملة من المؤهّلات والاستعدادات، يتعيّن على المدرسة/المربّي تنميتها وتزكيتها، وهو ما يتوافق مع «كانط» من أنّ غاية التّربية «التّنوير» وإعانة المتعلّم على النّمو والتّفتّح وتنمية شخصيته واحترامها وبلوغ كماله الإنساني. 
إنّها الوظيفة الجوهرية للمربّي، فكلّ مربّ يحترم رسالته يصبو إلى تكوين شخصيّات حقيقيّة وأفراد أحرار وذوات فاعلة، وجعل المجتمع أرسخ قدما في الدّيمقراطيّة والإنسانيّة، ويعمل ضدّ ثقافة الانقياد والامتثال. إنّ المراهق الذي ينقاد لك دائما لن يصير رجلا أبدا كما ذكر «كلاباريد». وعلى المدرسة أن تكون فضاء تحقيق الانتظارات والنّجاحات لا الخيبات، وتحويل حالات الإخفاق إلى انتصارات بالإصلاح والمعالجة، ومن مؤسّسة العقل الصّارم إلى مؤسّسة العقل المتعدّد، ومن الذّكاء النّمطي إلى الذّكاءات المتنوّعة باستحضار الجوانب التّربويّة والوجدانيّة. 
المدرسة التي تعتني بالتلاميذ/الشبان ممّن يعيشون أزماتهم وصعوباتهم بصمت وأنين داخلي (الإحساس بالقهر والتّبخيس واليأس المعرفي والمدرسي..). هؤلاء من نبحث عن سبل إسعافهم، فالدّروس التي يزجّ بها عنوة في الصّدور لا تلبث أن تتلاشى كما يقول «أفلاطون»، في حين أنّ التّربية على التّوجيه واعتبار التّلميذ محور كلّ عمل تربوي يهدف إلى تنمية مهاراته الأفقيّة، ويفتح المجالات أمامه حتّى يمكّنه التّفكير والتّطوّر وتعلّم كيف يتعلّم وكيف يفكّر وكيف يعمل وكيف يعبر عن مواقفه وأرائه. وهو مسار تربوي يرنو إلى اجتراح رؤية مختلفة في التّعاطي مع قضايا التّوجيه، ويرى فيها منطقة تربويّة يمكن استثمارها في تأطير التّلاميذ ومحاورتهم وفتح قنوات الإصغاء والمرافقة، وهي أداة مرافقة في التّجسير بين ماورد في النّصوص القانونيّة وممارسات وسلوكيّات منشودة في البيئة المدرسيّة.  
لا يقدّم الكتاب وصفة جاهزة، بل رؤية في تنشيط التّربية على التّوجيه وفكرة تنمية الذّات، وهي مفاهيم بكر في ثقافتنا التّربويّة رغم مرور أكثر من عقدين عليها، ولكن ظلّت مفاهيم نبيلة دون أن تتحوّل إلى نصوص تشريعيّة أو ترتيبيّة وبالأحرى إلى ممارسات في الواقع التّربوي، ومحاولة زرعها في التّربة المدرسيّة. وتشكّلت قناعة راسخة بأنّ المدرسة التّونسيّة تطلب من جميع المربّين تخطّي الضّوابط «المهنيّة» والأداء الصّناعي باستنبات معاني التّضامن والتّعايش المشترك في المناخ المدرسي. وأن تتظافر جهود الفاعلين في تطوير المرافقة وتأطير التّلاميذ والإصغاء إلى أفكارهم ومشاعرهم والارتقاء بكلّ تلميذ إلى فاعل يحبّ شخصيّته ومدرسته ووطنه. وتزداد قاعدة أنّ العقل المصقول أفضل من العقل المشحون كما يقول «مونتاني» رسوخا. ففي سياق موضوعي بدت تتكثّف فيه أدوار الخصائص الفرديّة في حلّ المشكلات واستشراف المستقبل وتقديم الاحتمالات، باستطاعة المؤسّسة التّربوية بالفعل وبالقوّة أن ترسي مقابل مظاهر الخيبات وتعبيرات «الجيل الخطأ» تصوّرات جديدة تنتشل الشّباب من حالات الضّياع والانحراف وهو ما انطلقت فيه بعض المشاريع التّربويّة.