قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
عجلة الحياة
 فرّ العرب من سكّان الأندلس بعد هزيمة ملوك الطّوائف تباعا وعجزهم عن حماية ملكهم ورعاياهم ولم يعد للجميع مكان في أرض سادوا عليها واستوطنوها لأكثر من سبعة عقود. كانت هزيمة مرّة والأمرّ منها أنّ الرّاحلين تركوا أطفالهم وانتشروا في بقيّة بلاد العرب دون أيّ أمل في العودة أو في لقاء جديد. سقطت مدن غرناطة واشبيليّة وغيرها من حظائر العرب والمسلمين من دون أن تستطيع أمّة بأكملها إنقاذ مجدها وكانت تلك بداية السقوط. 
ليست الأندلس أوّل ما أضعناه بغباء حكّامنا واستبدادهم وتخلّف شعوب لم تعد بينها وبين السّمو والتّحضر أواصر قربى ولكن هزيمتنا هناك كانت هزيمة لا شفاء منها إذ خرجنا صاغرين بعد أن دخلنا فاتحين محرّرين. ألم يأتنا التّتار في جحافل لم يكن لنا قبل بردّها ؟ ألم يدخل التّتار بغداد ويستبيحوها ويقتلوا أهلها ويلقوا بكل كنوز الحكمة في نهر دجلة حتى اختلط الحبر بالدّم؟ ألم يستبح التّتار الهمّج مدننا وقرانا ونساءنا ؟ هل نستطيع أن ننسى سقوط القدس الشريف بيد الصّليبيين وما رافق ذلك من مجازر؟ قرون طويلة مرّت ونحن نتجرّع هزيمة إثر أخرى لنتحوّل من أمّة تهابها الأمم إلى أمّة ذليلة تحقرها الأمم ولا تقيم لها وزنا، إذ لم يعد لنا باع في العلم أو العمران بل لم يعد بمقدورنا أن ننتج ما نأكله ودولة الاستقلال تقودنا منذ حوالـــي القـــرن إلى أبشع الهزائم.
استقلت مصر عن انكلترا منذ عقود طويلة وبدل أن تتحول إلى قاطرة تقود العالم العربي إلى عصرالأنوار بدأت استقلالها بخسارة السودان وفصله نهائيا ثم انقادت إلى هزيمة نكراء أمام الصهاينة لتخرج من حضنها غزّة وسيناء وغيرهما ممّا لم تستردّه إلا باتّفاقية مذلّة حوّلتها إلى دولة خانعة وعراب عند الصهاينة. أما الحديث عن الرّقي والنهضة، فسوف يتولّى العسكر الجديد تحويله إلى تهمة عقوبتها الإعدام وليس أسهل من القتل فى مصر الآن وما أسوأ أن ينقاد المعارضون الى المخطّط الشيطاني الذى يسعي العسكر نحوه بالإمعان في القتل والتفنّن فيه، فيحملون السلاح بغاية الدّفاع عن أنفسهم وحينها لن يعود بوسعنا أن نرى حجرا على حجر في تلك الربوع التى صدّت عنا فى زمن العزّ زحف التّتار والمغول وقهرت الصّليبيين ودحرتهم عن أرضنا بعد أن جرّعتهم أبشع الهزائم .
لم تكن دمشق عروس الشام فقط بل أقدم العواصم وحاضنة الملك الإسلامي قرونا عديدة، فأين هي الآن من كل ذلك؟ إنّها سجن لأهلها، حرب على ريفها، مرتع للقتلة والمجرمين، لا تنفك عن ارسال الطائرات المحمّلة بالقنابل والبراميل المتفجّرة لقتل الإرهابيّين من الأطفال والشّيوخ والنّساء. مدينة مستباحة لقلّة داخل قلّة ليس لها من هم سوى الحكم والإنتفاع بخيراته. حاكما يرث حاكما ولا بأس في تدمير البلد كله من أجل هذه القلة، ولا ضير ما دمنا نقتل أكثريّة أهل الوطن من أعدائه الارهابيين لنبقي على الصفوة من مخلصيه وإن يكونوا قلّة.
دمشق وقبلها بغداد وبلاد الشام كلها وما بين النهرين لا تنتشر فيهما الا رائحة البارود والجثث المتعفّنة والمقابر الجماعية، مدن تصنع بنفسها ما صنعه بها أعداءها من قبل، لنتحول من خير أمة أخرجت للناس إلى أمّة تبحث عن دمارها بأيديها وتقتل أطفالها بشماتة وليس بين هذه المدن وبين بيروت إلا أمد قصير، وهل نسينا بعد ما لحق بلبنان على مدى عقدين بما كسبت أيدى ساكنيه؟ من منّا نسي حصار المخيمات ومجازر صبرا وشاتيلا و تلّ الزعتر وغيرها ؟ من منّا استطاع أن ينسى دموع الثكالى ولهفة الباحثين دون جدوى عن أهلهم الذين فقدوا في الحرب الطويلة ؟
أضاع أجدادنا برعونتهم وقلّة حيلتهم أندلسا كانت جنّة فخرجوا منها، وكم حفلت كتب التّاريخ بالمآسي المروعة التي عاني منها أجدادنا القدامي والبعيدون وها نحن الآن نشهد ضياع مدن وحواضر جديدة إن لم يكن بالإستعمار فبالحروب الأهلية التي تحصد الأخضر واليابس وكأننا عاجزون عن إدراك المأساة التي نعيشها أو لكأنّنا لم نعد نملك أي شعور بالنّخوة . لقد تحوّلنا في عقود قليلة من أمّة تنشد استرجاع الأرض المسلوبة من الصهاينة الى أمّة تدمر بأيديها كل أسباب العزّة وتصنع بجهدها كل أسباب الهزيمة والمذلّة، أمة تقتل أطفالها وتشرّد نساءها وتغتال كل شئ فيها من أجل لا شئ سوى وهم تعيشه النّخب الحاقدة ومن رعاها من الحكّام الموتورين، ولا أمل لدينا في أن تتوقف عجلة القتل عن الدوران لتدور عجلة الحياة من جديد . 
--------------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com