في الصميم

بقلم
شكري سلطاني
الكابوس والفانوس
 لواقع الحال ركزا ووقعا على نفوسنا وعقولنا وقلوبنا ولتاريخنا ألما وأملا يخالج وجداننا، بإنكسار جذوة عطاءنا وبإنعطاف مسار حضارتنا وبترسّب حركة عقولنا وحركيّة سيرنا وسياقنا التاريخي بضغط المحيط وقهر الإحاطة بظلم القريب وحقد البعيد بتحدّيات الآخر وفرض ثقافة الغالب إنتصر علينا أعداؤنا بمكائدهم ودسائسهم ومكرهم وعبقريتهم الخبيثة، فإنحبس تقدّمنا وتطوّرنا في شرنقة الجهل والتعصّب والتخلّف، وأناخ الواقع العربي والإسلامي بضلاله على حال الوطن والأمّة فاستهلك أجيالا وأنتج فواجعا وأهوالا ومحى آثارا وأقام أحوالا.
إنّ مواصفات زماننا لا تخدم طموحات ومصالح عالمنا العربي ولا تلائم متطلبات ومقتضيات مبادئنا ومثلنا الإسلاميّة، لقد تاه من تاه في التمثّلات الماديّة والحسيّة والوقائع الموضوعيّة الشرطيّة، إذ لم تحل إشكاليات ومشاكل النهضة بعد ولم نغلب بالعلم ولم نفقه أحوال منازلاتنا لغياب فقه الموازنات، فهلاّ نتجاوز سقف الوعي والمعرفي الذّي بنته مجتمعاتنا والسّقف الأخلاقي الذي تحبو تحته لكي نتخلّص من كابوس ضغط المكان وسيف الزّمان .
بالعلم والوعي التّام المطابق والعمل الفعلي على إرساء تقاليد وأعراف ثقافيّة تتحدّى العدوّ وتضئ الطريق للأجيال القادمة لرفع التحدّي وبحتميّة الإنجاز تحقيقا وتمكينا.
القلم وما نسطر به، الّلسان وما ننطق به، والجوارح وما نعمل بها، والواقع وما انطبع منه في نفوسنا صورا وفي أذهاننا رسوما، وبالخطاب ووقعه وتأثيره، فلقد وقفنا في عمل البدايات عمل الجوارح وارتهنا بعالم الحسّ وعمل حواسنا فألجمتنا نفوسنا برعونتها وكمائنها ودفائنها وقويت مدار كثائفها. إنّها الظلمانيّة بتعدّد أوجهها، هي الكابوس ظلمة النفس وظلام الواقع فضعفت بذلك القوّة النفسيّة القائمة على إبداع الجمال حقيقة لا مظهرا وتحقيقا للفائدة من العلم والعمل لا من الوهم وسوء الفهم. كان من الأجدى القفز إلى عمل النهايات جهد النفوس رويّة العقول وعمل القلوب لقلب واقعنا وعالمنا بترسيخ قيمنا ومبادئنا وأخلاقنا الساميّة بسموّ لطائفنا.
بالبناء العقائدي القويم على أنقاض أوهام النّفس وغرورها وسوء الفهم وبطء الفعل وذلك بمناقشة الواقع، إشاراته، مفاتيحه وعلاماته وتحقيقا للتاريخ نظرا وتدبيرا وتدقيقا لعالمنا الموضوعي إطارا مرجعيّا معرفيّا وعملياته العقليّة وذلك بالإعتقاد الأمثل بالحقيقة المحمديّة والإهتمام الجدّي بالطريقة المثلى والإستناد الواعي للشريعة السمحاء .
ألا إنّ المستميت في واقعنا المميت هو المقاوم في زمن المظالم، فلا نعتبنّ على الواقع وشروطه وظروفه ولكن لنجتهد أن نحكم أمورنا وأن نتحكّم في مصيرنا، فإذا أصابتنا العقبات والويلات وتتالت الصعوبات فعلينا بالعزم الثابت واليقين المستبصر فذلك القبس والشّعلة، إذا كان الكابوس ظلمة النفس وظلام الواقع الذي منه الضلال والعمى فلا بدّ من ضياء ودليل يقين وهدى، إذ اليقين كتاب الله عزّ وجلّ والهدى سنّة نبيه المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام .
لأمّة تتسامى بتراثها وتعتزّ بموروثها لا بدّ لها من جذر معنى لرفع الهمّة وتحرير الإنسان والأمّة، فالحقيقة المحمديّة والصّراط المستقيم بعدان متلازمان لكل ناج وكادح صادق مخلص لنصرة دين الله والوطن، فلا إعتبار للعبادة إلا من خلال التّجربة الروحيّة للذّات وذلك لتلازم المعنى بغايته، العبادة متلازمة غير منفصلة عن التّجربة الروحيّة طريق التّواصل الوجداني العاطفي القلبي حبل الودّ مع الخالق جلّ جلاله.
القلوب أوعية وهي الأسيرة بالعوائق والعلائق، نتجاوز ونتقدّم بخطاب الرّوح والعقل والقلب، خطاب يفرغنا ثمّ يملئنا خطاب ولغة نتخلّى بها عن أخلاق الجاهلية بمعانيها ومفرداتها وحالها ونتحلّى بأخلاق راقيّة بجواهرها ولطائفها ومقاماتها السمحاء. أن نسمع قد ينتهي بنا الإستماع إلى النسيان وبالمشاهدة،  قد ينتج عنها  فهما  وأمّا أن نعمل فقد يؤدي ذلك إلى أن نتعلّم ونعمل ونحسن الأداء ونرتقي. إنّها حلول إجرائية لمسائل مصيريّة فلنعمل لنتعلّم ونفعل.
أرضنا ليست بسبخة وصخر لا يكاد يثبت فيه الماء وتنبت فيها الأشجار ويتربّى فيها الزرع والثمار، لا بدّ إذن من غرس وبذر ثابت لشجرة إيمان مورّقة، مثمرة، غضّة، مضللة، متفرعة «تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها». غرس الأعمال لشجرة إيمان وذلك لا يكون إلا بالقوى العلميّة والعمليّة وكما قيل « البراكين تحرق الحجارة، أما الثّورات فإنها تحرق الرّجال» فلا بدّ من صهارة لأفكارنا وعقولنا تذيب تكلّّسها وطاقة لإنجاز أعمالنا وجسارة لتحقيق أفعالنا «فما نالها إلا الشّجاع المقارع».
انفعال يفسح المجال إمّا للتفاعل والفعل الإيجابي بالتجاوز والتحقيق أو بالتفاعل السلبي والقفز على الموضوع وعدم التّدقيق وركوب صهوة الخطأ والسقوط في جبّ الفشل وحتى لا تقتل النفس بسيف اليأس فعلينا بالسّير الحسن الجيّد لتقاطع وتضايف كل طرق وأساليب التغيير والبناء والتشييد لكي نقطع مع سيرنا السيئ الردئ الباطل .
«أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض»