قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
المفتري عليهم
 يصنّف الباحثون والسّياسيّون عادة بحسب المدرسة الفكرية أو السياسية التى ينتمون إليها فإذا أنكر أحدهم انتماءه الى مدرسة أو مرجعية ما فلن يكون عسيرا على المتلقى تبيان انتماءه وكشف ما أخفاه، أما ما يدّعيه البعض من حياد أو استقلاليّة فهو السّبب عادة فى إخفاء اللّون السّياسي أو المرجعيّة الفكريّة للكثير من مدّعي الاستقلاليّة بل إنّ هناك من يذهب إلى كون الحياد لا معنى ولا وجود له، ومن ثمّ لا يمكننا القول بحياد فلان من الناس ولكن يمكننا الكلام فقط عن درجة موضوعيّة طرحه الفكري ومدى اتّفاقنا أو اختلافنا معه.
اذا سلّمنا جدلا بما سبق فمن نافل القول حينئذ أنّ التّفاعل بين أيّ شخص ومرجعيّته هو تفاعل دائم وحينيّ لا يمكن فصمه وهو تفاعل منشأه الأساسي الإيمان العميق الذي يربط ذلك الشّخص بالمرجعيّة التى يحملها حتى تغدوا بالنسبة إليه عقيدة يحملها بين ظلوعه لا يمكنه الحياد عنها ولو بداعي الموضوعيّة، إذ الموضوعيّة لا تعني الحياد.هكذا هو الأمر أمّا إذا تعلّق الشأن بالإسلاميّين فلا تكون الموضوعيّة إلاّ سبيلا  لنفي المرجعيّة تماما عن صاحبها ورفض حقّه فى التّفكير بداعى كوننا جميعا مسلمون ولا يجوز احتكار طرف للإسلام دون غيره من عموم المسلمين. أما الحياد فيختفي تماما عند مقاربة علاقة الإسلامي بمرجعيّته التى اختارها، فيرفع الجميع ذات الشعار وهو ألاّ حياد تجاه احتكار أيّ فئة للإسلام. فإن قلنا لهم مثلا بأنّه لا أحد من الإسلاميّين يدّعي أنّه النّاطق الرّسمي باسم الإسلام وإنّما هي حرّيّة الرّأي وتعدّد المقاربات والتّأويلات للنّص والتّراث الديننين، زادت مغالاتهم نافين عن الإسلاميين أيّ حقّ في اعتمادهم للدّين كمرجعية فكريّة ومنهج حياة وهم بهذه الصّرامة لا يأسّسون فقط لنفي فكري وإنما يتجاوزون ذلك متى استطاعوا إلى نفي من الحياة والوجود وهذا مبلغ الإفتراء. 
إذا أردنا تعريف الماركسيين مثلا فإننا سوف نقول ببساطة بأنهم من يتخذون الماركسيّة مرجعيّة لهم، فإذا وجدنا الماركسيّين كثر قيل لنا تلك اجتهادات واختلافات فى التّأويل والتّطبيق ولا أحد يستطيع مصادرة حق الآخر في التأويل أو في الإختلاف وإذا أردنا أن نعرّف الليبراليّين فلن يختلف الأمر، فإذا سألنا عن الفرق مثلا بين الليبراليّة التقليديّة والأخرى الجديدة قيل لنا إنّما هو التطوّر الطّبيعي وتلك سنّة الحياة، وهكذا حتى يصل الأمر إلى الإسلاميّين وحينها لا فرق بين الإخواني والسّلفي والنّهضوي والمنتمي الى الحركة الإسلاميّة فى تركيا أو ماليزيا، فكلّهم «إخوان مسلمون» وكلّهم صنيعة الغرب والإمبرياليّة والصّهيونيّة للتّصدي لقوى التّحرر ومقاومة آخر موجات الحداثيّين. أمّا من يريد أن يدّعى شيئا من الإحترام للقيم الكونيّة التى يؤمن بها، فإنّه لا يصنف الإسلاميين عملاء للخارج وإنّما يجعلهم فقط عملاء للتّاريخ وكتلة من البشر يمّمت وجهها شطر الماضى السحيق ليس بينها وبين قيم العصر أي التقاء.
لم يكن هذا الإستأصال الفكري إلا مقدّمة للإستأصال السّياسي ولم تكن الحروب التى قادتها أنظمة سياسيّة كثيرة على امتداد رقعة الوطن الإسلامي إلا حربا فى هذا السّياق حتى صار جهد الإسلاميّين موجّها بالكامل نحو معركة واحدة هي معركة إثبات الوجود والدّفاع عن الحقّ الطّبيعي فى الحياة .ولعلّنا لا نخطئ الى الآن أتون هذه المعارك المشتعلة وكم نتمنى أن يجيبنا أهل التّنوير من نخبتنا عن سؤال واحد نراه مدخلا ضروريّا لأي حوار: «متى ستعترفون بحقّ الإسلاميين فى اتخاذ الدّين الإسلامي مرجعية لهم ؟» 
إن الإدعاء بكون المقدّس مشترك بين النّاس لا يجوز أن يكون محلّ اختلاف بينهم إنّما هو ادّعاء باطل، فكل القيم الإنسانيّة هي مشترك بين النّاس، الحداثة والدّيموقراطية والوطنيّة وكذلك كلّ المدارس الفكريّة، ومن ثمّ فإنّنا مثل غيرنا نملك كل الحقّ فى اتّخاذ ديننا مرجعيّة لنا نولد منه ما نراه من قيم وأفكار ونظريّات ورؤية للكون والإنسان، كما نحفظ للآخرين حقّهم المقدّس فى اعتماد أي مرجعيّة يشاؤون والدّعوة الى ما يعتقدونه من قيم وأفكار.
ليس شأن الإسلاميين التقوقع ضمن رؤية واحدة لمدرسة فكريّة أو سياسيّة واحدة ولا جدوى من ذلك أصلا ونحن نلمس الإختلاف بين الحركات الإسلاميّة باختلاف المنشأ والتّجربة، ومن لا يطوّر نفسه يتآكل بفعل الجمود أو يمضي فى طريق الغلوّ. ولكن ليس شأن مدّعي الحداثة الحكم على أطروحات الإسلاميّين ومدى مواكبتها لروح العصر إذ يصدر كلاّ الفريقين عن مرجعيّة مختلفة ولو كان شأننا أن نكون مثلهم لاتّخذنا مرجعيتهم سبيلا نهتدي به. وإذا كان لهم من حقّ عندنا فإنما هو المجادلة بالتى هي أحسن ضمن الإعتراف المتبادل بحق كلينا في الوجود وفي اختيار مرجعيته بكل حرية ودون مصادرة، أما ما يدّعيه بعض الإسلاميين من ضرورة التماهي بين ما يدعون إليه وما يجب أن ندعو نحن إليه أيضا، فلن يؤدّي إلاّ الى انسلاخنا من قيمنا دون أن نحقّق رضاءهم عنا.
سوف يضلّ الإسلاميّيون يكابدون نخبة حمقاء تفتري عليهم وتجهر بعداءهم ليلا ونهارا وتصوّرهم خطرا على المجتمع والدّولة والعالم والكون وتصمهم بكل ما تستطيع من وصم بغية التحقير من شأنهم ولعلّ إطلاق صفة الإرهاب على بعضهم هنا وعلى جميعهم في أمكنة أخرى وأزمنة مختلفة، ليس أكثر من سلاح جديد بعد أن صدءت الأسلحة الأخرى ولكن لا بأس فسوف ينقلبون شرّ منقلب.
--------------