تجلّيات

بقلم
الحبيب المعلول
القواعد التي تراعى في فهم النصوص الدينية.
 إنّ الذي يتلو ما عرضته في المقال السّابق بهذه المجلّة الغرّاء، في عددها السادس والأربعين، هو مقالي هذا الذي يتناول القواعد التي أكّد عليها علماء أصول الفقه(1) لفهم النصوص الدينية واستنباط الأحكام الشرعية منها. وإنّ من أبرز هذه القواعد ما نجده ضمن مبحث «دلالة الألفاظ على المعاني» وهو في أصله يستند إلى علم المنطق(2).
فقد قسّم علماء المنطق دلالة الألفاظ على المعاني إلى ثلاثة أقسام. سمّوا الأوّل:دلالة المطابقة، ويعنون به دلالة اللفظ على تمام ما وضع له. وسمّوا الثاني: دلالة التّضمّن، ويعنون به دلالة اللّفظ على جزء ممّا وضع له. وسمّوا الثالث: دلالة الالتزام، ويعنون بهذا القسم دلالة اللّفظ على لازم ذهني لا ينفكّ عن معناه. كما ذهبوا في سياق التعريف بهذه الأقسام الثلاثة إلى بيان أنّ دلالة المطابقة لا يلزم منها دلالة التضمن ولا دلالة الالتزام. لكن يلزم في المقابل من دلالة التّضمّن أو دلالة الالتزام دلالة المطابقة، لأنّ الجزء لا بدّ له من كلّ، واللاّزم لا بدّ له من ملزوم. 
وقد استفاد علماء أصول الفقه من علماء المنطق(3)، وكانوا أكثر منهم دقّة واحتياطا  بجمعهم بين دلالة الألفاظ على المعاني وبين مراد المتكلّم منها، وبهذا فرّقوا بين «النّص» الذي هو تصرّف في الكلام من جهة المتكلّم وبين «دلالة النّص» الذي هو تصرّف في الكلام  من جهة المستدلّ. ولهذا فقد استنبطوا أربعة طرق لبيان دلالة الألفاظ على المعاني وللكشف عن مراد المتكلّم(4). هذه الطرق هي دلالة العبارة ودلالة الإشارة ودلالة الدلالة ودلالة الاقتضاء. واعتمدوا في طرقهم هذه ما اعتمده علماء المنطق، إذ نجدهم على سبيل المثال  يعرّفون «دلالة العبارة» بأنّها تعني دلالة اللفظ بإحدى الدّلالات الثّلاث على المعنى الذي سيق الكلام له أصالة وقيل تبعا. وبهذا ، فدلالة العبارة شاملة لدلالة العبارة بالمطابقة وشاملة أيضا لدلالتها بالتّضمّن وكذلك لدلالتها بالالتزام. واهتمّوا في مجال دلالة العبارة بالكشف عن المعنى الذي سيق الكلام من أجله، فبيّنوا أنّ المعنى المقصود أصالة بسوق الكلام قد يكون مطابقيا وقد يكون تضمّنيّا وقد يكون التزاميّا. 
وعرّفوا «دلالة الإشارة»بأنّها دلالة اللفظ على معنى غير متبادر منه لكنّه لازم للمعنى المقصود أصالة أو تبعا لزوما عقليّا أو عاديّا قد يكون واضحا وقد يكون خفيّا. وقد قيل أيضا في تعريفها بأنّها تعني: «دلالة اللفظ على معنى التزامي غير مقصود بسوق الكلام يحتاج إدراكه إلى شيء من التّأمّل»، ولهذا يتفاوت النّاس في إدراك هذا المعنى. وكذلك الشأن بالنسبة لدلالة الإشارة، فهي كسابقتها قد تكون مطابقية أو تضمّنية أو التزاميه.
وعرّفوا «دلالة الدلالة» بأنّها «دلالة اللفظ على تعدّي حكم المنطوق به إلى مسكوت عنه، لاشتراكهما في علّة تفهم من كلّ عارف باللغة بأنّها مناط الحكم». كما تعرّضوا في هذا الطريق من طرق دلالة اللفظ على المعنى والكشف عن مراد المتكلم إلى  مسألة «متى يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به؟» وهي مسألة تندرج ضمن ما يسمّيه الشّافعية «فحوى الخطاب» ويطلق عليه بعض المالكية(5) «المفهوم الأولوي» وبعض الحنفية يطلقون عليه «القياس الأوّلي» أو «القياس الجليّ» أو «القياس في معنى النّص». كما تعرّضوا إلى مسألة ثانية وهي مسألة «مساواة المسكوت عنه للمنطوق به في الحكم» وهذا قسم يسمّيه الشّافعية(6) «لحن الخطاب» وبعضهم يطلق عليه «القياس المساوي»، ويسمّيه الأحناف(7): «المساوي الجليّ».
واتّفق علماء أصول الفقه على أنّ من خصائص «دلالة الدّلالة»، امتناع تخصيصها واختلفوا في سبب المنع. فقال بعضهم: إنّ امتناع تخصيصها هو لعدم عمومها، لأنّ العموم والخصوص من عوارض الألفاظ، ودلالة الدّلالة من قبيل المعاني. فإذا لم تعمّ لم تخصّص، لأنّ التخصيص فرع العموم. لكن هناك من يرى أنّ العموم ليس من عوارض الألفاظ بل يتعدّى أيضا إلى المعاني، كما قيل أنّ سبب تخصيصها يعود إلى معنى النّص إذا ثبت علّة للحكم في بعض الصور دون الأخرى.
أمّا الطريق الرّابع من طرق دلالة الألفاظ على المعاني، فهو «دلالة الاقتضاء» وتعني عندهم «دلالة الكلام على مسكوت عنه يتوقّف صدق الكلام على تقديره أو لا يستقيم معناه إلاّ به». وذهبوا إلى أنّ هذا المسكوت عنه، أي المحذوف الذي يجب تقديره لصحّة الكلام ثلاثة أنواع: النوع الأوّل ما وجب تقديره لصدق الكلام، والنوع الثاني ما وجب تقديره لصحّة الكلام شرعا، والنوع الثالث ما وجب تقديره لصحّة الكلام عقلا. كما تعرّضوا في إطار هذه الدلالة إلى مسألة «عموم المقتضى»، فذهب الشّافعية إلى القول بعموم المقتضى لأنّه إذ تعيّن تقديره فإنّه يكون بمنزلة النصّ فيكون الحكم الثابت به  بمنزلة الحكم الثابت بالنّص لا بالقياس. فقالوا بجواز العموم فيه كما يجوز في النّص. واحتجّوا أيضا بأنّه إذا تعدّد الإضمار، انعدمت القرائن لترجيح مقتضى دون آخر، فليس إضمار البعض أولى من غيره. وذهب الحنفية عموما ومن وافقهم من غيرهم إلى أنّ المقتضى لا عموم له، وذلك لأنّ ثبوته كان للضّرورة وما كان كذلك يقدّر بقدرها، فيكتفي من أفراده ما يجعل الكلام سليمًا. ولقد كان لهذا الاختلاف بين المدارس الفقهية وحتى داخل كلّ مذهب أثر كبير في الاختلاف في كثير من الفروع، ومهما يكن من هذا الاختلاف في الفروع الفقهية، فإنّه يبقى لهذا المبحث الأصولي  «مبحث دلالة الألفاظ على المعاني» وما اشتمل عليه من هذه الطرق الأربعة التي ألمحنا إليها الدّور البارز في تركيز التفكير المنطقي وفي ضبط الميزان الشرعي، ووضع الأسس التي يقوم عليها الفهم والاستنباط والقراءة الواعية للنصوص، والذي يتجلّى كذلك أنّ الذي يجمع بين علماء المسلمين أكثر ممّا يفرّق. فنذكر في سياق مبحثنا هذا الذي قدّمت فكرة عامة بخصوصه، أنّ من إيجابيات هذه الطرق الأربعة التي اعتمدها جميع  علماء الأصول هو حسم ما يظهر عند تعارض معاني الألفاظ وذلك بترجيح الأقوى من هذه الطرق. فقد ذهب علماء أصول الفقه جميعا إلى ترجيح مدلول العبارة على مدلول الإشارة عند التعارض لأنّه هو المقصود بسوق الكلام أصالة، لكن عند عدم التعارض، فلا خلاف عندهم في حجّية كليهما أي النّص الدال بعبارته وكذلك الدّالّ بإشارته. وذهب بعض الأيمّة إلى أنّ الإشارة قسمان: قسم يكون موجبا للعلم قطعا، وهو من حيث أصل الوضع في هذه الحالة بمنزلة العبارة، وقسم يكون موجبا له ظنّا وذلك عند اشتراك معنى الحقيقة والمجاز في احتمال مراد المتكلّم من اللفظ. وذهب سائر المتأخّرين إلى أنّ الإشارة من حيث هي كالعبارة لأنّ دلالة كلّ منهما لفظية وهي تفيد القطع.
وممّا يجدر كذلك  لفت النظر إليه في خاتمة هذا العرض المختصر لمبحث مهمّ من المباحث الأصولية الفقهية أنّ لفهم النصوص الدّينية قواعد منطقية تمنع من التّعسّف في تحميل النّص ما لا يتحمّل من المعاني، كما تهدف إلى تحقيق الموضوعية في استنتاج معاني النصوص واستنباط الأحكام الشرعية منها. وإنّ هذه النّتائج الموضوعية الحاصلة عن اعتماد هذه الطرق والقواعد المنطقية في الفهم والاستنتاج تكشف بطلان من يزعم أنّ معاني القرآن ليست هي المعاني التي تدلّ عليها الألفاظ العربية بحسب دلالتها، وإنّما هذه الألفاظ في زعمهم رموز مستعملة في معاني غير معانيها الأصلية، أي في زعمهم معاني باطنية لا يعرفها الناس ولا يمكن أن تعرف بالدّلالة اللغوية لأنّها بحسب تصوّرهم سرّ يعطيه الله تعالى لمن يريد من عباده. 
إنّ من أسّس لهذه العقيدة الباطلة في حضارة المسلمين ما يطلق عليهم اسم «الباطنية»(8)وقد أنكر البعض منهم التّكاليف الشرعية الواردة في القرآن كالصّوم والصّلاة والجّهاد وغيرها، فخرجوا بهذا عن جوهر العقيدة لإنكارهم ما هو معلوم من الدّين بالضرورة وتكذيبهم لنصوص القرآن. وممّا يلحق بهؤلاء الباطنية من الشّيعة فرقة أخرى ضالّة يطلق عليها اسم «الحشوية»(9)، زعم روّادها أنّ القرآن ليس له دلالة، أي معنى وألفاظه ليست مؤدّية إلى معلوم أي إلى أمر يقنع العقل . وحصروا العلم والمعرفة في ظواهر ألفاظ نصوص القرآن والسنّة، فبقوا مذبذبين في الفكر والسّلوك والاعتقاد ومتردّدين لا يعزمون على شيء، فضلّوا وأضلّوا، مخالفين ما أجمع عليه علماء المسلمين بأنّ القرآن يدلّ على معان وليس فيه لفظ ولا تركيب بدون معنى يدركه العقل ويطمئنّ إليه القلب. 
والسؤال الذي يثار بعد كلّ الذي تقدّم:هل أدلّة الشّريعة اللفظية تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية؟ الجواب عن هذا في عدد مقبل إنشاء الله تعالى.
الهوامش
(1) أصول الفقه: مجموعة القواعد التي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الفقهية. فهي المنهاج الذي يبيّن ما يجب أن يلتزمه الفقيه في استخراج الأحكام الشرعية، كترتيب الأدلة بحيث يكون القياس بعد النصوص مثلا وكطرق استخراج الأحكام من الألفاظ وكالمنهاج السليم في القياس. وقد كثرت الكتابة في هذا العلم بعد القرن الثالث هجري.(شهاب الدين القرافي، شرح تنقيح الفصول،المقدمة...) 
(2) علم المنطق: قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعرّفة للماهيات والحجج المفيدة للتّصديقات.هذا العلم لم تهذّب طرقه ولم تجمع مسائله حتى ظهر في اليونان أرسطو الذي هذّب مباحثه ورتّب مسائله وفصوله وجعله أوّل العلوم الحكمية وفاتحتها، ولذلك سمّي بالمعلّم الأوّل، وكتابه المخصوص بالمنطق يسمّى «النّصّ».(ابن خلدون،المقدّمة، ص541)
(3) يقول الإمام الغزالي (ت:505هجري) «دلالة اللفظ على المعنى تنحصر في ثلاثة أوجه، وهي المطابقة والتّضمن والالتزام» (الغزالي، المستصفى في علم الأصول، الفصل الأول في دلالة الألفاظ على المعاني، ج1ص30)
(4) انظر كتاب «فواتح الرّحموت بشرح مسلم الثّبوت، لابن عبد الشكور، فصل دلالة اللفظ عندنا أربعة، ج1ص406) 
(5) المالكية: مذهب فقهي يعود إلى مؤسّسه مالك بن أنس الأصبحي، ولد سنة 93 هجري بإحدى ضواحي المدينة المنوّرة، يعود نسبه إلى ذي أصبح الحميري وهو أحد ملوك اليمن. نشأ بالمدينة المنوّرة وتلقى فيها العلم عن عدد من أيمة التابعين مثل نافع الذي تربى في بيت الصحابي عبد الله بن عمربن الخطاب رضي الله عنهما.توفي رحمه الله بالمدينة سنة 179 هجري الموافق لسنة 796ميلادي.
(6) الشّافعية: مذهب فقهي يعود إلى مؤسّسه محمد بن إدريس الشافعي الذي يرتفع نسبه إلى عبد مناف جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فهو عربي قرشي الأصل، ولد بغزّة بفلسطين سنة 150هجري، انتقلت به أمّه بعد وفاة والده إلى مكة وهو ابن سنتين فعاش فيها يتيما ثم خرج إلى البادية ولبث فيها سبع عشرة سنة تعلم خلالها الفصاحة والبلاغة والشعر ثم رحل إلى المدينة فتلقّى العلم عن مالك  الذي لازمه ملازمة لصيقة ووثيقة إلى أن توفي مالك، فسافر إلى مكة ثم ارتحل إلى العراق فأخذ الكثير عن فقهائها ثم إلى  مصر سنة 199هجري وفيها ظهر مذهبه حتى توفي بها سنة 204هجري، ودفن في مقبرة بني زهرة المعروفة بتربة ابن عبد الحكم بمصر.                                                              
(7)الأحناف أو الحنفية: مذهب فقهي يعود إلى مؤسّسه الإمام أبو حنيفة النعمان، وهو من أسرة أفغانية موطنها كابول بأفغانستان. كان جدّه قد اعتنق الإسلام عند فتح المسلمين لمدينة كابول. ولد بالكوفة بالعراق سنة80هجري ونشأ بها وترعرع وتلقى العلم عن الكثير من علماء عصره بالكوفة والبصرة وغيرها من بلاد العراق ثم في مكة والمدينة. كانت وفاته سنة 150هجري الموافق لسنة767 ميلادي.                                                       
(8)الباطنية: سبب تسميتهم بهذا الاسم حسب الشهرستاني لحكمهم بأنّ لكلّ شيء ظاهرا وباطنا، ولكل تنزيل تأويلا. تؤوّل نصوص الشريعة في منهج تفكيرهم تأويلا باطنا يتوافق مع معتقدات زعموا أنّهم اختصوا بها وبمعرفتها دون سواهم، وتنسب نفسها إلى التّشيّع وحبّ آل البيت، وتتّخذ من ذلك ستارا وغطاء لخداع المسلمين ، وهي فرق متعدّدة وليست فرقة واحدة. بدأ ظهورها زمن المأمون، الخليفة العبّاسي وانتشرت زمن سلفه المعتصم بالله العبّاس. ,من مؤسسي  الباطنية:حمدان بن قرمط وعبد الله بن ميمون بن مهران. «انظر الملل والنحل للشهرستاني(ت:584هجري)ج1ص196 والفصل في الملل والنحل لابن حزم(ت:456هجري)ج1ص277» .                                                                       
(9) الحشوية: سميت بهذا اللقب لأنّ كلامهم حشو لا يعتدّ به ولا يعتمد عليه، ولأنّهم من حشوة الناس أي من رذائلهم (انظر لسان العرب ج3ص180 والمعجم الوسيط ج1ص177 وكتاب تهذيب اللغة للأزهري,ج5ص90) والحشوية عند كثير من الباحثين في تاريخ الفرق، طوائف لا طائفة واحدة، يدّعون الانتساب إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل(ت:241هجري) ويرون العلم والمعرفة بالنقل والرواية لا بالعلم والدراية. وهم أشد النّاس تعصّبا، يجعلون ما فهموه من اللفظ معلوما وليس بمعلوم لما في الأدلّة اللفظية من الاحتمال. ومن الحشوية: الكرامية والسالمية والوهابية، وهم أصناف المجسّمة الذين يرفضون النّظر في غير ظاهر النّص، وإن قام ألف دليل من العقل على المجاز والتأويل. ويرمون كل من يخالفهم بالكفر.ويضيقون معنى الإسلام ويتوسعون في مفهوم الشرك .