مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
العجز عن مواجهة الفقر ليس قدرنا

 تعود الإخفاقات المتتالية التي عرفتها البشرية في معالجتها للفقر إلى أسباب عديدة نذكر من بينها ما نراه رئيسيا كالقصور في تصور هاته الظاهرة والذي يفرض تصور آخر أكثر عمق نسعى لبلورته بين طيّات هذا المنتج رغم الثّراء الحاصل على مستوى المقاربات التي اعتنت بمواجهة الفقر كما أسلفنا البيان في مقال سابق (مقاربات لمواجهة الفقر- مجلة الإصلاح العدد 37) وكذلك الاختلافات على مستوى تحديد خطّ الفقر الذي سنقوم بتوضيحه في هذا المقال، فضلا عن محدودية المؤشر المعتمد للوقوف على مستوى معيشة الناس وتقييم مدى النجاح في مواجهة هذه الظاهرة رغم التطورات التي حصلت سواء على مستوى الكيفية التي يقاس بها هذا المؤشر طيلة العقود الماضية أو على مستوى طرق قياس مستويات المعيشة الإجمالية بشكل عام إذ برزت طرق إضافية لذلك كمؤشر التنمية البشرية (الذي يعتمد الإحصاءات الخاصة بالصحة والتعليم إضافة إلى الناتج المحلي الإجمالي) ثم مؤشر الفقر المتعدد الأبعاد والذي يضم عشرة مؤشرات من ضمنها التغذية والصرف الصحي والقدرة على الحصول على وقود الطهي والمياه ...

فتقليديا كان الاعتماد على نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي (وهو قيمة السلع والخدمات التي تنتجها دولة ما في عام مقسومة على عدد سكانها) للوقوف على مستوى معيشة الناس وتقييم مدى النجاح في مواجهة ظاهرة الفقـــر وقد سبق أن بينا في نفس المقال السابـــق أن الناتــــج المحلــــي الإجمالــــي لا يمكـــن أن يكون مؤشرا دقيقا حتى يعتمد لمعرفة مستوى عيش سكان بلد ما نظرا للزاوية النقديـة (vision monétaire) المتسمة بضيق الأفق و التي يرى من خلالها الأمور بدون الأخذ  في الحسبان الاعتبارات السياسية والفلسفية والاجتماعية.
وإن كان هذا المؤشر لا يعبّر في الدول الغنيّة عن النمو بشكل كامل فإنه في الدول الأشد فقرا غير دقيق بالمرة. ففي العديد من الدول الإفريقية، لا يقاس حجم اقتصاديات الكفاف وكذلك الأنشطة الاقتصادية الأسرية وغير النظامية مما يجعل من الصعب إن لم نقل من المستحيل احتساب على سبيل المثال  إنتاج المزارعين الذين يستهلكون محصول ما يزرعون.
ولقد سادت لعقود نظرية اقتصادية تقليدية تعتبر النمو هو الأداة المثلى لمحاصرة الفقر في الدول النامية، وقد اعتمد أنصار هذا الرأي على حجة أن النمو الاقتصادي وسيلة لا غاية، وسيلة يمكن من خلالها تحقيق الأهداف الحقيقية المرتبطة بالحد من الفقر وتحقيق الرفاه  لأفراد المجتمع من خلال طريقتين :
أولا: يوفرالنمو للفقراء فرص عمل، وبالتالي ينتشلهم من هوة الفقر إلا أن تلك الفرص  في نظرنا تبقى محدودة .كما يحسن النمو مداخيل الفقراء مما يمكنهم من الإنفاق بصورة أكبر على التعليم والصحة، والحجة في ذلك ما حصل في الهند خلال الفترة الأخيرة حين شهدت نموا اقتصاديا كبيرا إلا أننا نرى أن عدد الذين بقوا على هامش الحياة الاجتماعية في العالم فاق المليار نسمة رغم ما قيل من تحقيق نسب نمو معتبرة في أكثر من دولة.
ثانيا: يعزّز النموّ الاقتصادي مداخيل الدولة وهو ما يعني أنه يصبح بوسعها أن تنفق أكثر على تعليم الفقراء وصحتهم، إلا أن ذلك في نظرنا ليس حتمي التحقق ويمكن لنا أن نجزم أن ذلك لن يتمّ ما لم تحاصر آلة الفساد ( التي تعمل بانتظام في جل دول العالم النامي كما أشارت إلى ذلك احصاءات عديدة) وما لم تتوفر الإرادة العامة وتلتزم الحكومات بخدمة مواطنيها عامة والفئات الضعيفة بصفة خاصة وكل هذا  لم يتحقق في أغلب دول العالم النامي فضلا عن أن تجارب أخرى تؤكد أن الإنفاق على التعليم والصحة لم يكن عامّا فقط كتجربة بنك قريمن «Grameen Bank» الذي أسسه محمد يونس سنة 1983 بالاعتماد على التمويل الأصغر والذي ساهم في انتشال الملايين من الفقر وساهم مساهمة لافتة في إحداث مواطن شغل على نطاق واسع مما زاد من النمو في بنغلاداش وفي كثير من دول العالم( انظر نفس المقال السابق ).
وفي المقابل يعتقد معارضون لهذه النظرية من اليساريين أن سياسيات تعزيز النمو الاقتصادي تعزز في الواقع الناتج القومي الإجمالي ولا تساعد في التخفيف من حدة الفقر، ويرون أن إعادة توزيع الثروة هو المفتاح الحقيقي لاحتواء آفة الفقر.
 وإذا احتكمنا للواقع الحديث لاحظنا عدم تحقيق الهدف الرئيس الإنمائي للألفية والمتمثل في خفض معدّل الفقر العالمي إلى النصف نسبة إلى مستوى عام 1990 بحلول عام 2015 حسب عدد كبير من الخبراء رغم ما صرح به  في أوائل عام 2012  رئيس البنك الدولي المنتهية ولايته «روبرت زوليك» من تحقق لهذا الهدف في عام 2010، أي قبل خمس سنوات من الموعد المحدد..
فقد طعن العديد من المحللين حسب «جومو كوامي سندرام» المدير العام المساعد لإدارة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة في روما في هذه التقديرات التي تعتمد على خط الفقر الحالي الذي حدده البنك الدولي، والذي ارتفع في عام 2008 من دولار واحد إلى دولار وربع الدولار يوميا، وفقاً لمعادل القوة الشرائية (الذي يقيس تكاليف نفس السلة من السلع والخدمات في دول مختلفة).  فما هي أسباب ذلك؟
 أسباب عدم تحقيق الهدف الرئيس الإنمائي للألفية
وضع برنامج الأمم المتحدة للألفية الإنمائية  مجموعة أهداف في طليعتها خفض معدل الفقر العالمي إلى النصف نسبة إلى مستوى عام 1990 بحلول عام 2015 بالاعتماد على خط الفقر الذي حدده البنك الدولي بدولار واحد يوميا والذي ارتفع في عام 2008 إلى دولار وربع دولار وفقا لمعادل القوة الشرائية كما أسلفنا الذكر.
ولا يزال تحقيق هذا الهدف بعيدا لعدة أسباب أهمها الأسباب المنهجية إذ أن تحديد خط الفقر على أساس معدل القوة الشرائية يحرف حقيقة انتشار الفقر على المستوى العالمي.
وفي هذا السياق رأى  «جومو كوامي سندارام» المدير العام المساعد لإدارة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة في روما، أنه « في الجولات الثلاث التي أجريت حتى الآن لبرنامج المقارنات الدولية التابع للبنك الدولي نجد تعريفاً مختلفاً لخط الفقر» مما جعله يخلص  للتأكيد على ضعف القياسات الحالية. وإذا وضعنا في الاعتبار التضخم في الولايات المتحدة، فإنه يرى أن «خط الفقر كان من الواجب أن يرتفع إلى 1.45 دولار يومياً منذ عام 2005».
كما أشار أن «للبنك الدولي بداية من عام 1981 وعلى مدى ثلاثة عقود تجربة طويلة  في تحسين تقديرات الفقر العالمي إلا أن عملية التحسين تلك بقيت محدودة وفي الكثير من الأحيان كانت خاطئة» الأمر الذي يتطلب حسب نفس المصدر «التغلب على ثلاث مشاكل رئيسية : نقص بيانات المسح، والسبل المعيبة لتنفيذ المسح، والتحويل الخاطئ وفقاً لمعادل القوة الشرائية» وعبر عن أسفه من «أن النهج الذي يتبناه البنك الدولي تجاهل هذه القضايا أو عالجها بشكل غير كاف».
وخلص  المدير العام المساعد  إلى القول «بالحاجة الشديدة إلى مؤشر أفضل لقياس الفقر، مؤشر يتعامل مع تلك المشاكل الرئيسية الثلاث التي اعترضت التقديرات العالمية، ولا يتجنبها أو يلتف من حولها».(المصدر : بروجيكت سينديكيت)
 سبب العجز الرئيسي في مواجهة الفقر
رغم تنصيصنا على الأسباب السابقة و التي كانت وراء الإخفاقات في معالجة الفقر إلا أن السبب الرئيسي الذي نرجحه هو تصور الفقر ذاته الذي ساد رغم الثراء الحاصل على مستوى المقاربات التي اعتنت بمواجهته والذي نحسب أنها مقاربات تتطور نحو الأفضل وخاصة تلك التي تعتمد على القدرات للاقتصادي الهندي المتحصل على جائزة نوبل للاقتصاد «امارسيا سان» عام 1998 نظرا لانطلاقها من الإنسان كمحور ولحريته  كوجه آخر للتنمية.
وما نراه أساسي في صياغة أي تصور يعنى بالإنسان والتحديات التي تواجهه وخاصة تلك التي تستهدف كرامته هو تحديد أصل الإنسان وطبيعة العلاقة التي تربطه بهذا الأصل وما تفرزه من دور له في الوجود ببعديه الطبيعي والاجتماعي، كما يستوجب هذا التمشي ضبط المفاهيم (CONCEPTS) وتحديد المنهج نظرا لمنطقه العقلي ولإرادتنا في إحداث تغيير حقيقي يحفظ للإنسان كرامته ويقيه الفقر.
ولا يسعنا إلا أن نعتمد على بعض حجج القرآن لمعرفة أصل الإنسان وطبيعة العلاقة التي تربطه بالله خالقه خاصة إذا سلمنا بوجود هذا الخالق الذي يحتمه وجود المخلوق ويدل على وجوده وانطلقنا من صفاته(أسمائه الحسنى) التي عددها القرآن إذا آمنا(ثقنا) بأن هذا الأخير كتاب واحد أحد نظرا لافتقاده لأي اختلاف « أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» (الآية  82 من سورة النساء) - وأن القرآن هدى لكل الناس خاصة بعد ما وقفنا عند فشل  نخبتهم في معالجة  ما يستهدف كرامتهم ويمثل خطرا حقيقيا على وجودهم.
يعتبر الوعي من قبل الانسان بالفقر إلى الله الموصوف إطلاقا بالغني الحميد في موضوع حديثنا والشعور العميق بحالة الفقر إليه ركن أساس يقوم عليه التصور الإسلامي للفقر وتختص به العلاقة بين الإنسان والله «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (الآية 15 من سورة فاطر).
فالله هو :
* الغني الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، والله غني بذاته وبالتالي لا يتخذ من « تفقير» الإنسان وسيلة ليستغنى بها كما هو حال الإنسان في كثير من الأحيان وكما تثبته شواهد عديدة أنه أحد أسباب فقر الإنسان. فمن جهة نجد كثيرا من الأفراد استغنوا باستغلال الفقراء وكثيرا من الدول زادت ثرواتها بإفقار دول وشعوب أخرى ومن جهة ثانية كثير من الفقراء تسبّبوا في إفقار ميسورين في حالات الأزمات والانتفاضات والثورات.
* والله هو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه الغني في حمده.
أما الناس فهم جميعا فقراء إلى الله ، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا فهم فقراء إليه :
* في خلقهم ، فلولا خلقه لهم ، لم يوجدوا وهم فقراء إليه
* في إعدادهم بالقوى النفسية والعقلية والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم بها، لما استعدوا لأي عمل كان 
* وفقراء إليه فيما جعل لنفعهم من تذليل للأرض وإنزال للماء وجعل للسماء سقفا وللشمس سراجا و للقمر نورا.
* كما أنهم فقراء إلى هديه وعلمه وبيانه وإلى نوره ورحمته وحلمه وإلى سلمه وكرمه وعفوه وفقراء إلى عدله وإحسانه وأمنه وفقراء إلى قضائه للحاجات وتفريجه للكر بات ورفعه للازمات.
وسيضل الإنسان سواء كان ميسورا أو فقيرا في حاجة إلى الغني الحميد لعدة إعتبارات نذكر من بينها :
 حاجة الإنسان الميسور للغني الحميد
يحتاج الميسور للمحافظة على مستوى معيشته وكذلك للزيادة في ماله وهذه الزيادة تحتم وجود غني يهدي إلى الغنى وهذا ما يضمنه إتباع هدي الله الغني العالم بمنهج الغنى والمعلم له بالحثّ على :
* اتقاء النفس التي قد تتسبب في إفقار صاحبها لجهل أصابها أو لبخل تمكن منها مما يستوجب تقوية القدرات الذهنية بالعلوم والمعارف والمهارات العملية بالتدريب والتكوين وصقل القدرات النفسية بمكارم الأخلاق والقيم النبيلة كالعطاء والإيثار( altruisme) والإحسان.
* اتقاء الفقر أيضا بالاستجابة لحث الله (الذي بذاته غنى عن الإنسان وعن فعله مما يجعل حثه خالصا لمصلحة الإنسان) للجهة الميسورة  فردا كانت أم جماعة على العمل وإتقانه لصالحها وحسن إنفاق المال لمضاعفته أضعافا مضاعفة باجتناب الرّبا لأنه ظلم وإعطاء الصدقات لأنها عدل باعتبار أن صاحب المال الأصلي والذي استخلف الإنسان فيه لتوظيفه إعمارا للأرض وما يقتضيه من عدل تأسيسي كما قال ابن خلدون «العدل أساس العمران والظلم مؤذن بخرابه» حذر بالقضاء على المداخيل المتأتية من الرّبا وبشّر بمضاعفة المردوديّة الماليّة للصّدقات، زكاة كانت أم تطوعا «يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم» (الآية 276من سورة البقرة).          .
* اتقاء الفقراء كذلك بالإحسان لهم بالصدقة و/أو الزكاة موفرا لهم موارد تمكنهم من التخلص من التهميش الذي يتعرضون إليه من طرف النظام البنكي التقليدي لافتقارهم لضمان أو لدخل قار وبالتالي يحمي الجهة الميسورة فردا كانت أم جماعة كيانا ومالا من مخاطر الاضطرابات التي عادة ما يلتجأ المهمشون والمقصيون إليها ولو بعد حين.
وتعتبر الصدقة والزكاة  من ضمن الآليات الرئيسية التي يضعها الإسلام لإعادة توزيع الثروة وهي منقوشة في صدر الوصفة الإسلامية التي بها يمكن احتواء آفة الفقر وقد ترك الأولى تطوعا لتمكين الجميع من المشاركة والمنافسة في عملية التمويل ولإمكانية إعادة توزيع  أكبر مبلغ ممكن من المال مهما كان المبلغ المتصدق به اعتمادا على عدد المتصدقين وفرض الثانية لتوفير نصيبا ماليّا معلوما لإحداث التوازن بين فئات المجتمع في المجال الاقتصادي وحتى لا يعمق التفاوت الاجتماعي حرصا على تجذير معاني الوحدة والتآخي بين أفراد المجتمع الواحد واجتناب عوامل الفرقة والضغينة بينهم.  «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم» ( الآية 26 من سورة التوبة) –
أما ثان نوع من الأدوية التي تتضمنها الوصفة الإسلامية لمعالجة الفقر فهي دعوته للعمل « وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون» (الآية  105  من سورة  القصص) و كذلك إتقانه تمثلا لـ  «صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون» (الآية 88 من سورة النمل).  كل ذلك تعزيزا  للنمو الاقتصادي كمّا ونوعا باعتباره شرط من شروط تحقيق التنمية التي من أهم تجلياتها انحصار ظاهرة الفقر بمختلف أبعاده النفسية و الذهنية والمادية والأمنية والقيمية وتحقق الرفاه لأفراد المجتمع.
وبالعودة لما نصت عليه الآية 26 من سورة التوبة «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم» نلاحظ تصدير الفقراء قائمة المستفيدين من الصدقات التي فرضت على القادرين على دفعها وما يعنيه ذلك من دليل على محورية كرامة الإنسان في التعاطي الإسلامي مع المال والاستثمار فالصدقات التي هي «جزء من المال مقدر معين» كما عرفها كل من الشافعي وأحمد بن حنبل وهي نصيب مما زاد عن حاجة المعطي و بلغ نصابا محددا يكون صاحبه  في غنى عنه طيلة عام كامل تعكس :
* أولا وجود فائض يؤشر على نجاح النشاط الاقتصادي في المجتمع الذي يعي جيدا معنى الفقر إلى الله والذي يترجم على أرض الواقع رفعة وعزة يضمنهما الاستثمار حين تقع الاستجابة للحث القرآني على الإنفاق وعدم اكتناز الأموال ولا تتعطل  حركة الاستثمار فيزداد المال تبعا لذلك.
* وتعتبر ثانيا آلية لإحداث التوازن الاجتماعي وبالتالي تماسك المجتمع عبر توفير المال اللازم لتحسين فرص الفقراء في الوصول إلى الخدمات التعليمية والصحية، كي تتحسن فرصهم الاقتصادية وأوضاعهم الاجتماعية بتحسن قدراتهم تجسيدا لقيم الأخوة وترجمة لأحد معاني الإيمان بالله الرازق على مستوى العلاقات الاجتماعية إذا أنه : « والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع» كما نص على ذلك الحديث المروي عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم. ويمكن للصدقات أن تكون موارد ضخمة للتمويل الإسلامي الأصغر الذي يقوم بدوره في توفير موارد مالية للفقراء الذين هم في أشد الحاجة إليها عبر عرض خدمات مالية متعددة ومتنوعة تحتوي القروض الصغرى والادخار والتأمين وتحويل الأموال وغيرها والتي سنخصص المقال القادم إنشاء الله لإبراز دور التمويل الأصغر في المساهمة النوعية في معالجة آفة الفقر حفاظا على كرامة الإنسان وتفضيله على كثير من الخلق «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا» (الآية 70 من سورة  الإسراء).       
حاجة الإنسان الفقير للغني الحميد
يعرف الفقير بالاستئناس بالتعريفات التي قدمها كل من مالك والشافعي وهم من علماء  المسلمين و فقهائهم بأنه «الإنسان المحتاج الذي لا يملك شيئا والمتعفف عن المسألة» وهو في حاجة إلى غني ليس من المخلوقات حتى يولد لديه إحساس بالغنى عنهم ويشعره بالمساواة مع بقية أفراد المجتمع  ويجعله يحافظ على قدر من التوازن يستطيع به التعاطي بأكثر حكمة مع وضعه في اتجاه تلمس طريق الغنى بالتوكل على الغني وإتباع منهجه في الغنى الداعي للتخلص من العجز النفسي والكسل العضوي والثقة في الذات ويبني علاقته التبادلية بالإنسان  وبالآخر على مفهوم «التسخير»( العطاء الدائم) «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ» (آية رقم 32  من سورة الزخرف). هذه الحاجة تقي الإنسان سواء المحتاج الذي لا يملك شيئا والمتعفف عن المسألة أو المسكين الذي يعرف على أنه محتاج يبحث عن إعانة  من: 
* نفسه أولا حتى لا يزداد وضعه سوءا عبر إحباط يصيب نفسه أو انهيار عصبي يقع فيه أو انسداد أفق يدفعه لارتكاب حماقات.
* ومن الجهة الميسورة ثانيا، بعدم الاعتقاد في أنها الرازق وبالتالي يحمي ذاته من عدم الوقوع في قابلية الاستعباد حتى لا يعمق فقره بفقدانه لحريته التي تعتبر شرط تحقيق كرامته وعنوان تنميته.  
إن إحساس الإنسان ميسورا كان أم فقيرا بتلك الحاجة لله الغني يمنع كلاهما من أن يكون متسببا في فقر حاله أو في فقر فرد آخر من نفس النوع الذي ينتمي إليه أو إلحاق الضرر به فضلا عن أن شعور كلاهما بالحاجة إلى الله وفقرهم إليه يدفعهم إلى المحافظة على كرامتهم فالغني حين يتصدق أو يقدم زكاة ما يملك يجسد بكرمه هذا معنى الكرامة في نفسه ويحافظ على كرامة النوع الذي ينتمي إليه أما الفقير فتدفعه ثقته في «الغني الحميد» إلى أن لا يسأل الناس إلحافا وتحسبه بالتالي غني من التعفف.