قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
أهل القرى

 لم يكن أهل تلك القرية الوديعة في الجنوب التونسي يعرفون من السلطان إلا سلطان العمدة وهو سلطان ما كانوا يعبـأون به أو يحتاجونه إلا قليلا، فلم يكن زمن الاستعمار يأتيهم إلا في حاجة الباي أو القايد. وكانوا من الفقراء الذين لا يجد عندهم الجباة ما يجبون. أما زمن الاستقلال، فقد صار العمدة يأتيهم إذا حان وقت تجنيد أبناءهم أو إذا ما اقتضت ضرورات القرابة ذلك في الأفراح أو الإحزان، ولم يكن قربهم من السلطان لينفعهم أو ليضرّهم فهم عن همومه بعيدون.

لم يكن في القرية أي مظهر من مظاهر المدنية الحديثة حين كنت أسكنها صغيرا، اللهم إلاّ مدرسة صغيرة شيّدت على حافة الطريق الذي يصلها بغيرها من القرى والمدن القريبة. لم يكن بها كهرباء فكان الناس يضيئون دورهم بمواقد وقودها القاز أو نحوه ولم يصبح عندهم ماء يجري من الحنفيات، فكان الماء أعزّ من أي شيء آخر، فتراهم يجتهدون في حفضه في مواجل لا يخلوا منها بيت.
كانوا من البدو الرّحل الذين يجدّون في طلب الماء والكلأ، حيثما وجدوهما أقاموا. فيزرعون حيث تمطر الأرض ويقيمون إلى زمن الحصاد، ثم يأخذون ما أفاء الله به عليهم من الرزق وعادوا إلى موطنهم الأصلي حتى ينقضي الصيف فيترقبون أن تمطر السماء ما يكفيهم مؤونة الترحال ثم بدءوا بغراسة الزياتين وكروم التين هكذا عاما اثر آخر بصيغة يسمونها المغارسة وهي قسمة للملكية بين الغارس وصاحب الأرض حتى اكتست الأرض كلها حلّة خضراء وما بقي من بياض اليابسة اتخذوه للزراعة قمحا وشعيرا وعدسا وبصلا وكل ما كان فيه نفع للناس والمواشي. وهم في الغالب متعاونون لا يعمل أحدهم عند الآخر بأجر ولكنهم يتكاتفون فيجتمع جهدهم عند الواحد منهم كلما احتاج هذا الجهد وعلى الذي يجتمعون عنده النفقة بما ييسّره الحال، وهم أشد ما يكونون متعاونين فى الأفراح والأتراح حتى لا ينهض أحدهم بحمله وحده. 
ولم يكن لتلك القرية إمام يأخذون عنه دينهم وإنما كانوا متدينين بالفطرة لا يخالفون الدّين إلا فرادى في ما بين المرء وبين نفسه. أما مجتمعين، فكانوا يتساءلون عن رأي الدين ومقتضاه فينزلون عنده. وهم مسلمون بالفطرة وبالتوارث، يعرفون مقتضيات الدّين بحسب حاجاتهم، فلا تجد عندهم كثرة السؤال وقد يتفق أن لا تجد سيماهم فى وجوههم من أثر السجود ولكنهم من مقيمي الدّين بما تيسّر، يتشدّدون في بعضه ويتسامحون فى بعضه فهم مثلا يعدون صوم رمضان فرضا لامهرب منه ولا يستطيع أي واحد منهم أن يجاهر بالإفطار فيه ولكنهم لا يتشددون بالمثل فى الصلاة،  فمتي اهتدى الواحد منهم إليها أقامها ولكنه لا يخالف مواعيدها إذا نام أو استيقظ ..وأشدّ ما يحتار المرء منه صرامتهم فى أداء الزكاة فهم يؤدوها يوم الحصاد يكيلون مقدارها فى الحقل ومنه يأخذها من تجب لهم دون حرج ولا يأخذها الزرّاع الى دورهم أبدا بل ويعدّون ذلك عارا لا يبزّه الا عار السرقة .وليس لهذا التشدّد من تفسير سوى خوفهم أن يؤدي إنكارها الى سخط الله فيأخذهم بالسنين أو بنقص الأنفس و الثمرات وهم فى أمر الزكاة لا يحتاجون الى إمام أو مفتي ويحفضون مقاديرها ولمن تجب .
لايعرف الناس هناك تعقيدات الحياة مما يعرفه أهل الحضر فهم يعدلون أوقاتهم صيفا و شتاء على مواقيت الصلاة، إذا أذن مؤذن الفجر ينهضون وإذا حان وقت العشاء أدّو فرضهم وناموا وذاك دأبهم العمر كله فلا يسهرون إلا لضيف أو لطارئ. والقرية تقيم أفراحها بعرف خاص، حيث يجتمع ذووا المكانة فيتباحثون في شأن العرس وذبائحه و زوّاره وكل ما يلزمه من عدة ومال فيتخذون في شأن كل أمر رأيا ويكلفون كل واحد حاضرا أو غائبا بما يضنونه يستطيع وهكذا حتى لا يحين موعد العرس الا وقد انتهى الإعداد له، فتودع الذبائح زريبة أهل العريس وتصل الى الدّار كل لوازمه وليس على مقيم العرس إلا أداء نصيبه في ما اتفق عليه من جهد أو دفع المال،  فإذا بدأ العرس بدأت معه طقوس التكافل فلا يأتي مدعو خالي الوفاض وإنما يمدّ أهل العرس بالمستطاع حتى يوم الوليمة الكبرى حيث يدفع كل ربّ أسرة مقدارا من المال يكون له دينا على العريس وأهله يؤدونه اليه فى أول عرس له وبهذا الضرب من التكافل يجتمع لاهل الفرح ما يجبر نفقتهم أو يخفف من حملها .
يبدأ العرس وينتهي بالصلاة على المصطفي المختار وفيه لا يختلط الرجال والنساء وانما يجلسون على الأرض متقابلين حيث يرى الرجال النساء وترى النساء الرجال. وككل الأفراح، يتخذ كل واحد منهم ما يستطيع من الزينة ولا يدخل كبار السن من الرجال حرم العرس وإنما يكتفون بالاستماع الى ما يغني وهم يتسامرون ويشربون الشاي. وفي الأفراح تنعقد المواعيد ويتبادل الشباب رسائل الحب ويجد كل ذي وجد في طلب من يحبّ من دون فحش أو خروج عن المألوف ثم يتناهى كل ذلك الى علم الأهل فيفوز من يفوز ويخيب من يخيب ولا شيء يفسد العشرة والود. ولا بد فى كل عرس من الوليمة  إقامة للسنة المباركة ولا بد من قراءة البردة فى ليلة البناء وذبح العريس شاة عند باب البيت يسمونها شاة الحلال هي خاتمة الولائم، يذهب لحمها هدية لأهل العروسين وصدقة للفقراء.
الآن بدأت رياح العصر تصل القرية عاما اثر آخر كلما هبت نسمة أحدثت فى النفوس ما يحدثه الجديد وقد ترى إذا زرتها أشياء تبدلت ولكنك ستجد الناس كما عهدهم لا يغالون فى الدين وإنما يحبونه ويوغلون فيه برفق.