في الصميم

بقلم
د. مصباح الشيباني
هل أتى هَامِش الثّورة في تونس على مَتْنِها؟

 يبدو أنّ زمن الجدل السياسي قد تعطل وشارف على أن الانتهاء، وأنّ زمن الحوارات السياسية قد أفسدت قضية الثورة، فأصبحنا نسمع من حين لآخر عن « قاتل مجهول» يقتل «ضحاياه» من دون سبب مقنع وبلا هدف واضح. أما قادتنا السياسيين في السّلطة كما في المعارضة، فإنّهم أصبحوا منشغلين بهندسة مشروعاتهم السياسة «التآمرية»، وبتحقيق إنجازاتهم الحزبية والشخصية ليس أكثر ولا أقل. فكيف يمكن في مثل هذا المشهد السّياسي «المتعفن» أن تكون هناك «ثورة» بصدد الانجاز

  1ـ  أبعاد الهامشية السّياسية

تعبّر «الهامشية» (marginalité) عن حالة مرضية في مستوى التفاعل الاجتماعي والبناء الثقافي والحراك السياسي، وكذلك حالة «الانحراف» عن المسار الطبيعي لهذا الحراك من قبل القوى والفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين والمثقفين في مجتمع معين. ومن الزاوية السوسيولوجية يحيلنا هذا المفهوم إلى فشل أفراد مجتمع ما في الانخراط الحقيقي في هندسة فعلهم التاريخي، وليس التاريخ كأحداث ووقائع، وإنما من حيث هو وعي بهذه الأحداث وبشروط إنجازها وطرق التحكم في مسارها.
أما من الناحية السّياسية، فيمكن القول أنّ «الهامشية» تعبر عن مشهد سياسي تهيمن عليه العلل وتخترقه عديد المفارقات والصراعات السياسية والمجادلات الفكرية الشكلية. كما تعبر هذه الحالة عن غياب النضج والحكمة (بالمعنى الفلسفي للكلمة) والتعقل في تشكيل الفعل السّياسي من قبل المسؤولين والمتنفذين في الحقل السياسي.
لقد دخل الفاعلون السياسيون والاجتماعيون في تونس، في مرحلة صراع داخلي وهم يفتقدون أحد أهم الشروط  الجوهرية لإدارة هذا الصراع أو الجدل الاجتماعي وهو أن تكون لهم إرادة حرة وغير مقيدة، وعبر منطق الثورة ومن داخلها وليس عبر منطق التغيير ومن خارجها. لذلك كانت نتائج هذا الصراع على مدى أكثر من سنتين، المعلنة منها والخفية، هامشية لأنها غير « حكيمة» ( غير عقلانية وغير قائمة على وعي وتبصر) ولأنّها لم تكن صادرة عن إرادة ذاتية وداخلية، ولكنها تدار وفق ما تريده بعض القوى الخارجية ـ العربية والغربيةـ ولذلك بقيت إلى اليوم، على هامش أهداف الثورة أو «متنها» الحقيقي من «كرامة» و»عدالة اجتماعية» و»استقلالية للقرار الوطني»..الخ. فما تميز به المشهد السياسي التونسي، خاصة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، لا يتعدى كونه عبارة عن ردود أفعال سياسية للأحداث اليومية و»العِيانية» و لا تستند إلى رؤية أو مقاربة استراتيجية تكون واضحة في غاياتها ومحدّدة في وسائلها. 
ولعلّ من أخطر حالات الهامشية السياسية، والأشد خطرا حتى من حالات «الارهاب» وجميع أشكال العنف، على مستقبل الثورة هو أن يتجاهل قادتنا السّياسيين مفاهيم سياسية أو ثوابت البناء الوطني المستقل مثل : «المصلحة العامة» و»الدولة» «واستقلالية القرار الوطني..الخ أي أن تسقط من حساباتهم وصراعاتهم السياسية جميع البرامج والرؤى الاستراتيجية للدّفاع عن حرمة هذا الوطن وكرامة شعبه وحماية وحدته. وإذا ما طرحت بعض القضايا الجوهرية، فإنّه سرعان ما يتحوّل النقاش إلى قطيعة وانقسام، قد يكون بعضه عفويا، ولكن أغلبه مدفوع بمقابل أو دون مقابل لتهميش أهداف الثورة التي انتفض من أجلها الشعب. وفي مثل هذه الحالة لن تكون النتيجة سوى الفشل المحقق في إنجاز أي فعل ثوري في مختلف المجالات مهما أي ثوري من نبل وإخلاص وثورية. وعلى حد قول الحكيم الصيني « صن تزو» في كتابه « فن الحروب» (منذ عام 500 ق. م) « إذا عرفت العدو وعرفت نفسك، فليس هناك ما يدعو إلى أن تخاف نتائج مائة معركة، وإذا عرفت نفسك ولم تعرف العدو، فإنك سوف تقاسي من هزيمة مقابل كل انتصار، وإذا لم تعرف العدو، فإنك أحمق، وسوف تواجه الهزيمة في كل معركة».
لهذا، نعتقد أن «الهامشية السياسية» ( marginalité politique) قد نتجت عنها حالة من «الاستبداد الثوري» الذي ُطمِست به قضايا الثورة الجوهرية، منذ أن تنكر زعماؤنا السياسيون، في السلطة والمعارضة معا، إلى «إرادة الشعب» الذي انتخبهم وأصبح غائبا أو مغيبا، عن المشهد السياسي وكأني بهم يقولون له: لقد انتهى دورك أيها الشعب «الكريم» مع نهاية الانتخابات التي بها منحتنا إرادتك، وبالتالي، فإنّك لم تعد موجودا.
 2ـ الهامشية السياسية ومخاطر تفكك هيكلية الدولة
نعتقد أنّ البيئة المجتمعية الداخلية في تونس أصبحت تتحرك في الهامش من الثورة. ولذلك تعدّدت تحدياتها المصيرية نتيجة غياب الرؤى والسياسات الاستراتيجية، ونتيجة هيمنة منطق الصراع السياسي المفتوح بين الأحزاب، وفي ظل غياب أي إمكانية للاتفاق بينها حول أمهات القضايا أو حول طرق معالجتها. وطالما نسي هؤلاء السياسيون أن دورهم هو تمثيل الشعب والتعبير عن «إرادته»، فإنّ هذا الفراغ الاستراتيجي سوف يملأه المنطق غير العقلاني في إدارة البلاد، وهذا المنطق يتعارض بالضرورة مع مفهوم «المصلحة العامة» أو» الخير المشترك» ولن تكون هناك أي «رفعة» لمؤسّسة الدولة أو للإدارة في عقول النّاس، لأنّ المناخ السياسي الذي تحكمه شبكات المصالح الحزبية الضيقة وعلاقاتها المتعادية، سوف يصيبه الخلل والتشوه الثقافي والأخلاقي وهذا ما يتوافق مع مصلحة أعداء الثورة بكل تأكيد. وهذه الثقافة القائمة على منطق «الغنيمة» و»القبيلة» و»العقيدة»(1) كانت وستبقى عامل تفكيك وخراب «للعمران البشري» ولن تكون عوامل بناء أو تطوير له. 
لقد أخبرتنا بعض صفحات تاريخنا القديم والحديث، أنّ الخلل الاستراتيجي الذي أصاب مجتمعنا العربي الإسلامي منذ الخلافة الأموية مرده إلى عوامل سياسية، حيث دخلت الأمة في محنة الانقسام والتشتت لم تخرج منها إلى اليوم، لأن أسس هذه التجربة لم تستهدف عملية البناء والمراكمة السياسية في اتجاه النظام الديمقراطي. لذلك، لم يكن الاستبداد عندنا  نظاما سياسيا فقط، وإنّما تحول شيئا فشيئا إلى ثقافة سياسية واجتماعية ورمزية. وحينما يشعر الإنسان بأن محتكري السلطة في المجتمع لم يعودوا قادرين على تلبية تطلعاته، وتخليصه من حالة الفقر والتهميش الاجتماعي، فإنّه لا أحد يستطيع أن يحدّد أو يتكهن بطبيعة ردود أفعاله، ولكنّها لن تخرج عن فرضيتين أساسيتين وهما: إمّا أن يكون ذلك عبر الثورة، وإما أن عبر أن يخضع إلى من هم يتحكّمون في مصيره وربّما قد «يؤدي به إلى إلغاء تطلعاته تماما (2).
لقد تحوّل الصراع السّياسي في تونس من حالة الصراع بين «الثّورة « و»الاستبداد « السياسي في بداية الأحداث إلى مرحلة الصراع بين «الثورة» و»الأحزاب» بعد 14 جانفي 2011 منذ أن ابتعدت هذه الأحزاب عن تحقيق مطالب «الشّارع» ولم تعد تستهدف سوى تحقيق مصالحها الحزبية أو الشخصية الضيقة. كما لم تكن شعاراتها السياسية والانتخابية في جميع الأحوال سوى آليات للتعبئة والمنافسة الحزبية، إما بهدف تصفية حساباتها السياسية التاريخية القديمةـ الجديدة مع منافسيها، أو بهدف الهيمنة السياسية على المجتمع ومحاولة تضليله أو خداعه ولو لحين (في حدود ضمان ترشحها في الانتخابات). وفي ظل هذا المشهد السياسي المفكك، وإذا لم تراجع هذه الأحزاب والقوى الاجتماعية والاقتصادية برامجها وآليات عملها في المستقبل القريب، فإنّ المشهد قد يتحول إلى حالة من الصراع بين «الثورة» و»الدولة»..؟؟ 
فالحكومة الجديدة «الشّرعية» وعدتنا بأنّها ستعتمد المقاربة «التشاركية» في إدارة شؤون البلاد لكنها كانت شراكة دون شركاء، واعتمدت في جميع سياساتها الداخلية والخارجية على منطق «الإقصاء الانتخابي»، وتحول مطلب «الديمقراطية» عندها إلى بضاعة أو سلعة خاضعة لقانون العرض والطلب وفق قانون المنافسة السياسية وبحسب تغير موازين القوى السياسية والاجتماعية. وفي ظل هذه الحالة من «الاستبداد الديمقراطي» التي غابت فيها الإنجازات الثورية، بل وحتى الإنجازات الإصلاحية الصرفة، تبقى هذه الحكومة بحاجة مثل غيرها من القوى والأحزاب التي تدعي «الثورية» و»الوطنية» إلى تطوير ذاتها أولا، ثم تحتاج ثانيا، إلى نوع من «الصّدمة المثيرة ليقظة وعيها، أي محتاجة إلى أن يرتد إليها الوعي ليصبح وعيا بالصدمة» (3) حتى لا تظلّ حالة الهامشية والفراغ السياسيين سيدتا الموقف في تونس بعد الثورة، وأن لا تتحوّل المشاكل الكمية ( البطالة، الفقر، المديونية..) إلى مشاكل نوعية أكثر خطرا وتهديدا للثورة وللدولة معا مثل: «الإرهاب» و»التبعية المستدامة»..الخ.
فالمشهد السياسي التونسي قد يتفكك أكثر في المستقبل إذا لم تتحمل الحكومة والمعارضة مسؤولياتها، وإذا لم تعتبرْ من تجارب بلادنا السّياسية السّابقة. ونعتقد أن أوّل هذه العبر، هي النصيحة التي نصح بها سيدنا محمد رسول الله «أبا ذر الغفاري» في قوله صلى الله عليه وسلم « قل الحق وإن كان مرا».  
  إنّ الحقيقة المرة الأولى التي يجب أن نعترف بها إذا كنا صادقين مع أنفسنا هي أنّ جميع الثورات أو الانتفاضات الشعبية في تونس وفي الوطن العرب، قد تم وأدها من الداخل، وكانت ضحية الانتهازية والتآمر الداخلي المدروس الذي يتم تنفيذه بحنكة ودهاء من قبل بعض أبنائها، وبالتعاون مع بعض «أشقائنا» أو»أصدقائنا» الأعداء! 
على الرّغم من أنه لا يمكن التقليل من الحدث الثوري الذي عرفته بلادنا، فإن ذلك لا يحجب عنا مسألة منهجية أساسية في قراءة هذا الحدث وهي ضرورة التمييز بين التغيرات السياسية الفجائية أو «التلقائية»، وبين التغيرات السياسية المدروسة والقائمة على وعي وتبصر وفهم لأبعادها وتحدياتها وسياقاتها الداخلية والخارجية. فالشكل الأول من التغيرات قد يكون خاضعا إلى المشاعر والعواطف ومنطق « أنا وأخي ضد ابن عمي ، وأنا وابن عمي على الغريب». أما الشكل الثاني، فإنّ نجاحه يتوقف على مدى توفر لدى الإنسان الوعي والإدراك والفهم العلمي لطبيعة المشاكل والقضايا التي تعترض سبيله. 
أما «الحقيقة المرة» الثانية التي علينا أن نعترف بها، فمفادها أنّ التفكير العقلاني في الميدان السّياسي مازال غائبا، «وأنّ حياة الناس ومصالحهم أبخس بكثير من فكرة «السلطة» و»الغنيمة»(4) لدى مختلف الفاعلين السّياسيين في تونس. لذلك، بات المنهج العلمي الذي يقوم على التفكير العقلاني والوعي التاريخي والجدلي مطلبا ملحا أكثر من ذي قبل باعتباره المنهج الناجع المتبع في مختلف العلوم الإنسانية. وهذا المنهج هو الذي سيمكننا من القدرة الفعلية على فهم قانون التطور، ومعرفة شروط إعادة بناء مؤسّسات الدولة والمجتمع في المستقبل. هذا المستقبل الذي مازال مفتوحا على احتمالات كثيرة نأمل أن لا تكون كلها سوداء، ولا نستطيع أن نميز فيه بين ما هو «هامش» و»عرضي» في الثورة فنعطيه من اهتمامنا الإعلامي ومن جهدنا المادي والزّمني الكثير، وبين «متنها» و»جوهرها» الذي نتركه مهملا أو غامضا حتى يظلّ غير قابل للتحقق والإنجاز. 
الهوامش
(1) أنظر كتاب: محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، 1992.
(2) كارل غيورك تشين، الرخاء المُفْقِرُ، التبذير والبطالة والعوز، ترجمة عدنان عباس علي، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2006، ص 264.
(3) مطاع صفدي، «الاغتراب الحضاري»، مجلة الشورى، السنة الأولى، العدد الثامن، نوفمبر 1974، ص 46.
(4) مصباح الشيباني، « الثورة العربية وتحدي منطق التدويل»، مجلة الحياة الثقافية، العدد 227، جانفي 2012، ص 100.