بحوث ودراسات

بقلم
د. مصباح الشيباني
خطاب الهوية في البرامج المدرسية التونسية بالمرحلة الإعدادية ( مادة التربية المدنية مثالا تطبيقيا)

    المقدّمة

 
      تطرح البرامج المدرسيّة المقترحة ضمن مشروع "مدرسة الغد" في تونس، خاصّة في بعض المواد مثل الفلسفة والعربيّة والمواد الاجتماعيّة الأخرى، مشكلا جوهريّا يتعلّق بطبيعة التغييرات الجديدة التي شملتهــــا، ســــواء فــــي مستوى مضامينها المعرفيّة أو في مستوى مقارباتها البيداغوجية التي تقوم عليها. لقد كانت هذه المواد أكثر استهدافا لتغيير محتوياتها المعرفيّة وتنويع وسائلها البيداغوجيّة خلال عقدين من الزمن. 
      ونقرأ في توطئة "الوثيقة البيداغوجية لسنة 2006" ما يلي: إنّ إنجاز المشروع طريقة في التعلّم مختلفة عن بقيّة الطّرائق، ولكنّه إلى ذلك طريقة في الحياة والسّلوك والتّعامل مع الآخرين، طريقة في تغيير الذّات من حال إلى أخرى، وأسلوب في بناء هويّة فرديّة متميّزة في إطار حياة جماعيّة تعني المشاركة قناعة والآخر قيمة"(1). 
 هذا النص يدفعنا إلى التّساؤل حول مدى قدرة المدرسة التّونسية على النجاح في تحويل هذه الثّقافة المدرسية "الرّسمية" إلى ثقافة "مجتمعيّة" تكون فاعلة في تعديل الطّبائع وتغيير السّلوك الفردي والجماعي لدى المتعلمين، ومدى قدرة الخطاب التربوي على إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعيّة وفق "نموذج تربوي" جديد يستشرف أفق مستقبل المجتمع، ويضبط ما يجب أن يتعلمه الطفل في تونس. وكيف يتم ذلك في إطار علاقة المعرفـــة بالمشـــروع المجتمعــــي من ناحية، وفي علاقة المدرسة بأيديولوجية الدولة من ناحية ثانية.
 
1ـ مشكلة الدّراسة
 
   يعرّف "جون ديوي" الهدف التربوي على أن معناه وجود عمل منظــــم مرتب، عمــل يقوم النظام فيه على الإنجاز التدريجي لعملية من العمليـات التربوية"(2). كما ورد في الفصل 49 من "القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي"(2002):(3) تمثل الحياة المدرسية وما يتخلّلها من أنشطة امتدادا للتعلّمات وإطارا لتنمية شخصيّة المتعلم ومواهبه علاوة على التمرّس بالعيش الجماعي. ومن أبرز المواد التعليمية التي تستهدف بناء هذه الثقافة المدرسية الجديدة برامج مادة التربية المدنية. باعتبارها تستهدف تنشئة الطفل على مفاهيــم الاندمـــاج والتعايــــش مــــع الآخــــر والولاء إلى الوطن ..الخ وعلى الاعتزاز بهويته الوطنية. 
  سنحاول من خلال هذا النص الإجابة عن السّؤالين الرّئيسيين التّاليين:
1ـ ما هي ملامح هوية الإنسان التي تستهدفهــــا البرامــج الدراسية في مادة التربية المدنية؟
 2 ـ هل إنّ العلاقة بين البرامج التعليمية وأنشطتها التعلمية المختلفة ومقوّمات هذه الهوية هي علاقة تعزيز أم علاقة تقويض؟
 
أولا:
 الهوية باعتبارها مبحث سوسيولوجي وتربوي
     إنّ أوّل صعوبة تعترض الباحث في دراسته العلمية هي مسألة التعريف بالمصطلحات والمفاهيم الواردة في بحثه. وأوّل إشكال اعترضنا في هذه الدراسة هو تعريف الهوية باعتبارها إحدى الظواهر الاجتماعية التي لا يمكننا تحديدها بشكل مباشر، بل علينا الاستنجاد بمفاهيم أخرى قريبة منه تمكننا من تحديد أبعاده المختلفة مثل مفاهيم "الأنا" و"الآخر" و"الذّات" و"النّحن" و"الانتماء" ..الخ. فعرفة مقومات الهوية والانتماء لشعب معين يعني التعرف على عناصر بناء شخصيته القاعدية ـ الفردية والجماعيةـ التي تشترك في تشكيلها الأديان والمعتقدات والقيم والسلوكيات والفنون..الخ. فهذه العناصر أو المقومات كلّها تشترك في تحديد السّمات التي تميّز البشر عن بعضهم البعض، وتضبط المعايير التي توجه الفعل لدى الإنسان وتحدّد ما ينبغي أن يكون عليه موقفاً واتجاهًا وسلوكاً.    
      تهتم مادة التربية المدنية بمختلف المباحث ومدارات الاهتمام في المعرفة والثقافة من أجل فهم مؤسّسات الدولة والمجتمع المدني. وتستهدف هذه المادة تربية النشء على قيم المواطنة وحقوق الإنســـان والســـلام والديمقراطيــة. إضافة إلى التدرب على التفاعل مع المجتمع وتشكيل جماعة المرء ومجتمعه(4). فالتربية المدنية تمثل أهم مادة اجتماعية مدرسية تستهدف تزويد الأفراد بالمعلومات والسّلوك اللازم لجعلهم مواطنين يعملون لصالح المجتمع الذي ينتمون إليه أو يقيمون فيه"(5). لأن المدنية مثلما يرى البعض تقتضي نشر مجموعة من الصفات الوديعة والرقيقة الفاضلة لدى الإنسان أثناء تصرفه وفي علاقته بالآخرين(6). 
    وتهدف هذه المادة بشكل عام إلى تحقيق الغايات الثلاث التالية:
 1ـ اعتزاز المتعلــم بذاتــه تجسيـــدا لانتماءاته الثقافية والحضارية في أبعادها العربية والإسلامية والإنسانية الكونية،
2ـ تبني قيم المواطنة والمدنية وحقوق الإنسان استعدادا للمشاركة في الحياة العامة، 
3ـ بناء موقف ايجابي  مستقل في ضوء ممارسة الفكر النقدي.
       يعتبر القانون التوجيهي للتربية والتّعليم المدرسي المؤرخ في 23 جويلية 2002 المرجع الأساسي لتحديد ملامح المتخرج من كل مرحلة من مراحل التّعليم. لقد اهتم هذا القانون بالأسس والمبادئ التي تقوم عليها هذه الملامح (الميزات)، وبتجلياتها من خلال ما تقوم به المدرسة من وظائف تربوية حدّدها "الفصل الثالث" من هذا القانون وهي:" تنشئة التّلاميذ على الوفاء لتونس والولاء لها وعلى حب الوطن والاعتزاز به وترسيخ الوعي بالهوية الوطنية فيهم وتنمية الشعور لديهم بالانتماء الحضاري في أبعاده الوطنية والمغاربية والعربية والإسلامية والإفريقية والمتوسطية وتدعم عندهم التفتح على الحضارات الإنسانية. كما تهدف إلى غرس ما أجمع عليه التونسيون من قيم تنعقد على تثمين العلم والعمل 
والتضامن والتسامح والاعتدال وهي الضامنة لإرساء مجتمع متجذر في مقومات شخصيته الحضارية متفتح على الحداثة يستلهم المثل الإنسانية العليا والمبادئ الكونية في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان".
    أما المنظومة الفكرية والقيميّة التي تتأسّس عليها هذه الأبعاد فهي تنتمي إلى مصادر عديــدة ومتداخلـــة تستقــــي مضامينهـــا من مجالات معرفية متنوعة. حيث توظّف المعارف القانونية والتاريخية والاجتماعيّة والأفكار ذات الصبغة الفلسفية والأدبية والعلمية.
      إنّ وظيفة المدرسة التعليمية – نظريا على الأقــــل- لا تتوقــف عند حدود بناء العقل والمعرفة لدى الطّفل، بل تسعى إلى بناء هويّته الأخلاقيّة والاجتماعيّة والقانونيّة التي ترتبط بالنّسق المجتمعي كلّه. لقد كان للتعليم تأثير كبير في بناء شخصية المتعلمين التونسيين وفي اختياراتهم وتخصصاتهم وحتى في تشكيل ميولاتهم ومواقفهم. فهناك جانب من المنظومات القيمية والرؤى المعيارية والوجدانية والسّلوكية تقدم لهؤلاء المتعلمين من خلال النّصوص والصّور والشّعارات التي تتضمنها المناهج الدراسية. هذه الوسائل التعليمية لا تستهدف إعادة تشكيل الحياة المدرسيّة في أبعادها التّنظيميّة والعلائقيّة فقط، بل تستهدف أيضا تغيير بقية أنساق المجتمع الثقافية والسياسية والاجتماعية. 
 
   ثانيا:
 دور مادة التربية المدنية في بناء الهوية 
 
     لمعرفة الأبعاد المشكلة للهوية التي تضمنها الخطاب التربوي التونسي، انطلقنا من البرامج الرسمية لمادة التربية المدنية كمثال تطبيقي. وقد اعتمدنا في هذه القراءة على منهجية تحليل المضمون انطلاقا من سفر البرامج الرسمية أولا، وبالاعتماد علـــــى عينــة من مدارات الاهتمام المتعلقة بمبحث الهوية في الكتاب المدرسي ثانيا. كما انحصرت هذه الدّراسة حول برامج المرحلة الإعدادية كمجال اهتمام رئيس في بعديه الكمي والكيفي (النوعي). 
     إنّ اهتمامنا بمسألة الهوية في هذه المستويات التعليمية "الإعدادية" يعود أساسا إلى إيماننا بأهمية التنشئة الاجتماعية بالنسبة إلى الطفل في هذه المرحلة العمرية المتوسطة بين 12ـ 16 سنة. فقد أكّدت إحدى الدّراسات الحديثة(7) أنه ثمة علاقة مباشرة بين معارف الطلاب عن مجتمعهم المدني وبين مستوى انخراطهم الفعلي فيه.
     وتعتبر المرجعية المعرفية والمنهج الدّراسي المكوّنان الرّئيسيان لمقوّمات البرامج والمحدّدان الأساسيان نظريا على الأقل، لملامح (profile) المتخرّج من المدرسة التونسية ولخصائص الخطاب التربوي عموما. فالمنهج الدراسي في مفهومــــه الحديث هو مجموعة الخبرات المتنوعة التي تقدمهـــا المدرســة إلى التلاميذ داخل المدرسة وخارجها لتحقيق النمو الشامل المتكامل في بناء البشر، وفق أهداف تربوية محددة وخطة علمية مرسومة جسميا وعقليا ونفسيا واجتماعيا ودينيا...والمنهـــج الدراســـي هــــو جــــزء من الثقافة الوطنية والقوميـــة، بـــل والإنسانيــة وهو نظام مفتوح يؤثر ويتأثر بالبيئة وبالنظم الأخرى(8). 
   ومنذ أواخر الثّمانينيات من القرن الماضي، أصبحت المناهج الدّراسيّة بمثابة "براديغمات" في الحقل التّربوي. وتشكّل مجموعة متكاملة من الرّؤى والخلفيّات الفكريّة الموجّهة للفكر والممارسة التّربويين في المجتمع. لذلك أصبح الاهتمام العلمي بالدّور الوظيفي للمناهج الدّراسيّة لافتا خلال السنوات الماضية، باعتبارها تستنـــد إلى مقاربات ذات أبعاد إجرائيّة وعمليّاتيّة ونفعيّة.
  نلاحظ من خلال شبكة البرامج الرسمية أنّ مدارات الاهتمام حول مبحث الهوية في المرحلة الإعدادية لا تختلف عن بعضها كثيـــــرا في المراحل الدّراسية الثلاث سواء من حيث الأهداف أو من حيث التوجيهات وكذلك في مستوى توزيع عدد الحصص المخصّصة لها.
 
1ـ في مستوى الأهداف المميزة 
  
  وردت هذه الأهداف في مختلف مدارات الاهتمام وبالنسبة إلى جميع المستويات التعليمية ذات أبعاد وجدانية وغابت فيها الأبعاد المعرفية. فمن خلال العبارات التي حضرت (تثمين، التقدير، الاعتزاز..) وغياب عبارة "معرفة كذا" تحصل لنا الفكرة عن خلفيات الخطاب التربوي الجديد الذي يستند إلى المقاربات البيداغوجية الحديثة مثل: "المقاربة الكفايات" و"بيداغوجيا المشروع" التي  تمّ فيها "تبخيس" المعرفة وجعلها ذات منزلة دنيا مقارنة بالأبعاد السّلوكية والوجدانية لدى المتعلم. 
 
2 ـ في مستوى المحتويات
 
     يمكن القول أنّ ما يميّز محتويات البرامج المدرسية في هذه المادة هي العمومية وغياب التحديدية. فقد وردت العناوين الرّئيسية عامة ومطلقة بشكل يجعلها تنسحب على أي مجتمع. وكذلك من حيث عدم التحديد لأبعادها المكانية والزمانيّة. وهذه الخاصيّة "الإطلاقية" للمفاهيم والمضامين المختلفة المحدّدة للهوية (العيش ضمن المجموعة، المشاركة في الحياة العامة، المواطنة) تجعل المتعلم وكأنّه يعيش في مجتمع افتراضي (virtuel) وغير معين بالمعنى الرّمزي للكلمة.
 
3 ـ في مستوى المراجع (التوجيهات)
  
    ما وجدناه من خلال هذه الشّبكة أو التوزيعية للبرامج الدراسية أنها تستند إلى مرجعية رئيسية وهي المرجعية القانونية سواء كانت مأخوذة من التشريعات الوطنية أو الدولية. وهذه التّوجيهات ذات دلالة معرفية ورمزية. فمن الناحية المعرفية يتأكد لدى الباحث أن مقومات الهوية التي تسعى المدرسة التونسية أن تنشئ عليها  المتعلم لا تتعدّى وجهها القانوني الشّكلي. ومن الناحية الرمزية نقف عند مسألة على غاية من الأهميّة وهي سيطرة الحقوقيين على المشهد التربوي وانفرادهم بسلطة القرار في هندسة البرامج المدرسية لمادة التربية المدنية، وعدم تشريكهم بشكل فاعل للمتخصّصين في علم الاجتماع والفلسفة والتربية في وضع هذه البرامج.
   لعلّ الاستنتاج الرئيسي الذي يمكن أن نخرج به من خلال قراءتنا الأولى لتوزيع أصناف النصوص في هذه المادة وعددها في علاقة بمسألة الهوية هو غلبة المسحة القانونية والحقوقية على مضامين هذه المادة. كما إنّ نسبة كبيرة من هذه النصوص مأخوذة من مصادر حقوقية دولية. فمن خلال جردنا ـ الكمي والنوعي ـ لطبيعة النصوص والوثائق البيداغوجية لمادة التربية المدنية وقفنا عند المسائل التالية:
أـ خطاب الهوية الحقوقية والقانونية:
    على الرّغم من أنّ الهوية كظاهرة اجتماعية تستند إلى القيم والمعايير والسلوكيات ذات المصدرية الدينية واللغوية والحضارية، فإنّ مرجعيتها في برامج التربية المدنية كانت ذات مصدرية قانونية وطنية ودولية بالأساس. فأكثر من 60%  من الوثائق المرجعية  كانت نصوصا قانونيـــة ودستوريـــة وطنيـــة أو دولية تم تكرارها في عديد الدروس. وهذه المرجعيـــة القانونيـــة والحقوقيــــة أدت إلى حصر الهوية لدى المخيال الاجتماعي التلمذي في مجال حقوقي ومؤسسّاتي رسمي وضيق لا يعبر عن بقية أبعادها الاجتماعية والدينية واللغويــة الأخـــرى. فلم نجد ولو نصا واحدا ذا مرجعية دينية أو تاريخية يشير إلى هـــذه الأبعـــاد والمستويــــات في مقومات هويتنا الوطنية.
     ولهذا، فإنّ هذا الخطاب يؤسّس هوية ذات البعد الواحد. وهذه الهوية الحقوقية الواحدة لم تعد قادرة على الصمود أمام تحديات العولمة وموجة استهداف المقاربة الحقوقية في العالم، وما رافقها خلال العقود الماضية من صراعات وحروب أدت إلى انهيار النظام الدولي القائم على حقوق الإنسان، وسقوط نظرية العيش المشترك ضمن الكونية البشرية الواحدة والموحدة في ظل العولمة، وما رافقها من فشل لدى جميع المنظمات الإقليمية والدولية في تحقيق الأمن والسّلم الدوليين. فهناك فرق بين نص الخطاب التعليمي "الظاهر" الذي يدرس داخل الفصول (نصوص قانونية، وثائق توجيهية..)، وبين المناخ الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يعيش فيه المتعلم . 
ب ـ خطاب هوية الدولة التعبوي والأيديولوجي:
   ظلت السّلطة في تونس منذ الاستقلال، هي المسيطرة على مؤسسات المجتمع والموجه له أي أنّ السلطة السياسية هي المهيمنة على مؤسسات الحكم والمجتمع المدني معا. وهيمنة خطاب الدولة أو الحزب الحاكم على الحقل التربوي والبرامج التعليمية مكّنها من أن تكون الجهة أو الفاعل الوحيد المهيمن على المدرسة التي مثلت إحدى أهم آلياتها التي اعتمدتها لترسيخ خطابها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتعبئة المجتمع وتوحيده أيديولوجيا وثقافيا ورمزيا.
    ومثلت الأنظمة التربوية الثلاث التي عرفتها تونس منذ الاستقلال (1958، 1991، 2002)  آلية للنظام السياسي من أجل دمج المتعلمين وتكوينهم وفق مفاهيم معينة لبناء الإنسان بالشكل الذي يحدده هذا النظام. فقد يكون الأنموذج معلنا أي محددا بالنسبة إلى خيارات نظرية أو مستترا ضمن الوسائل التي يستعملها النظام التعليمي. فهذا النظام يعهد بسلطته إلى المعلم كي يتمثل التلميذ الأنموذج والقيم الملازمة له(9).
   ولعل أيديولوجية الدولة في التربية المدنية تمثل في الكتاب المدرسي وأخذ المكانة الرئيسية فيها. فالخطاب التربوي اتخذ أبعادا سياسية وأيديولوجية متعدّدة تتصل بمستويات مختلفة من علاقة الأنا بالآخر. ففي برنامج السنة السابعة أساسي وضمن مدار الاهتمام الأول حول "العيش في العائلة" ركّزت أغلب النّصوص والوضعيات التعليمية على حقوق المرأة. 
     إنّ الثّقافة المدرسية (la culture scolaire) حول الهوية والتي تضمنتها مختلف النّصوص والوثائـــق المرجعيــة ســــواء في مستوى المفاهيم (المضامين) أو الأبعاد كانت ذات محمولات سياسية وأيديولوجيــة. فلــــم نجـــد أي وثيقـــة تعليميــة مهمــا كان مصدرها، تشير إلى انتماء تونس إلى فضائها العربي والإسلامي، بل تمّت "تونسة"(10) هذه الهوية شكلا ومضمونا. ومن الأمثلة التي يمكن ذكرها ما ورد في الدّرس الثاني "الهوية الوطنية" في مستوى التّاسعة أساسي، فمن اللاّفت أن النص الوحيد الذي حدّد مقومات هوية الشعب بشكل واضح هو الفقرة التي أخذت من "الميثاق الوطني" (1988) المتعلقة بالهوية حيث جاء فيها التأكيد على " إن هوية شعبنا عربية إسلامية متميزة، تمتد جذورها في ماض بعيد حافل بالأمجاد...".(كتاب السنة التاسعة، ص244). وفي أسفل هذا النص تم وضع أربع صور تؤكد كلها على منطق التّونسة (صور للطوابع البريدية وللعملة التونسية).
    نعتقد أنّ خطاب الهوية في البرامج المدرسيّة يخترقه ويتحكم فيه البعد السياسي والأيديولوجي للدّولة الذي يتعلق بمستويات بناء الذات فردا أو مجموعة. فأغلب محاور المادة تستهدف بشكل مباشر أحيانا، وغير مباشر أحيانا أخرى علاقة الولاء إلى المؤسّسات السياسية للدولة، ولا تعترف بالولاء إلــــى أيــــة جهــــة أخـــرى وهو ما نلاحظه من خلال غياب أي نص أو وثيقة دينية( القرآن والسنة) تدعّم تكوين المتعلم على بعض القيم والأبعاد الحقيقية للهوية في بعدها الديني. وبالتالي، فإنّ الخطاب التربوي التونسي حول مسألة الهوية كان دوما يستهدف التعبئة السياسية، ولم يكن آلية لتحقيق اندماج المتعلم في وسطــه العربـــــي والإسلامـــي وحتى الإفريقي. إذ لم نجد أي نص أو أي صورة أو أي خريطــــة في مختلف محاور هذه المادة التي تشير إلى انتماء تونس إلى الأمة العربية والإسلامية، ما عدى بعض الإشارات الجانبية في القسم المخصص لـ" ما ينبغي أن أعرف"(كتاب السنة التاسعة أساسي). لذلك، هناك إقصاء متعمد لهذه الأبعاد والمقوّمات ضمن محاور أهم مادة تعليمية وتربوية تستهدف تنشئة الطفل على الاعتزاز بالانتماء والهوية أي لتنشئة الطفل على الاعتزاز بهويته والدّفاع عنهــــا حتى تتحوّل الهوية عنده إلى روح(11).
ت ـ خطاب هوية قائم على الازدواجية والضبابية
     هناك تناقض بين ما يعلنه النظام التربوي في تشديده على الهوية والانتماء، وما يستبطنه من تحريض ضد هذا الانتماء، وخلق نوع من الازدواجية، إلا من خلال التمعّن في تطبيقات تلك المبادئ العامة في مستوى البرامج التربوية(12). فقد تغيرت محتويات هذه المادة بشكل جذري عن البرامج السّابقة التي تم اعتمادها وفق غايات الإصلاح التربوي لسنة 1991( 29 جويلية 1991). ولم تحافظ إلا على غاية واحدة وهي " إرساء نموذج موحد يؤسس لهوية تونسية"(13)، في حين غابت جميع مقومات هذه الهوية في أبعادها العربية والإسلامية.
   لقد وجدنا في شبكة هذه البرامج بعض الوثائق التي تم إقحامها بشكل قسري وغير مبرر وجودها أحيانا نتيجة تعارضها مع أهداف الدّرس، وتتميز بالغموض في معالجة مسألة الهوية. فهناك بعض النّصوص والصور والشعارات التي تم الاعتماد عليها في مواضع مختلفة ضمن سياق أخلاقي واستهدفت بنـــاء مواقف انطباعيــــة ولا تحقق أهدافا معرفية أو مهارية  أو سلوكية. إذ تستهدف بعض النّصوص المعتمدة في الكتاب المدرسي بتنشئة الطفل التونسـي على مقومات هوية "الأنا الفردية" ليس بالمعنى الفلسفي، ولكن بمعناها الأخلاقي باعتبارها قيمة أو شعورا لدى الذّات "الفرد" بشكل تجعله لا يعطي معنى لمجموعة الانتماء ولقيمتها في حياته. ففي درس " العائلة مجال المشاركـــــة" في كتاب "السنة السابعة أساسي" مثلا، نجد نصا مأخوذا من إحدى الصّحف الأسبوعية (ص 223) الذّي يتحدّث فيه صاحبه عن إمرأة متزوجة "خجولة" غير قادرة على مشاركة زوجها في اتخاذ القرارات وتشعر بالانطواء..الخ. فهذا النص لا ينشئ الطفل على قيمة المشاركة مـن منطلـــق "التعــاون" و"التكامـــل" بين الزوجين، بقدر ما يبعث برسالة لدى المتعلم قائمة على منطق "الصراع" بينهما. وهناك تركيز لافت ومتكرر للنصوص في هذا الخطاب على "حقوق المرأة" التي تم إقحامها في هذا المدار التعليمي دون مبرر علمي أو وجاهة بيداغوجية مثل:" قانون مجلة الأحوال الشخصية 1956) و"القانون المتعلق بنظام الاشتراك في الأملاك بين الزوجين" (1998)..الخ. وفي مقابل ذلك، تم تغييب كامل للنصوص التي تمكن المتعلم من تمثّل الأهداف الأخرى لهذا المدار مثل "الوعي بقيمة التواصل" في العائلة و"اعتزاز المتعلم بانتمائه العائلـــي" و"الاقتنـــاع بأهميـــة الحوار" بين أفــــراد العائلــــة و"تثميـــن مبـــدأ المســـاواة بين الجنسين"...الخ.
     فالضّبابية التي ميّزت الخطاب التربوي حول هوية مجتمعنا والصّراع التاريخي بين التيار الفرنكفوني والتيّار العروبي ـ الإسلامي منذ الاستقلال عمقت أزمة الهوية في تونس. والتيار الفرنكفوني الذي حكم البلاد بقيادة الرّئيس "الحبيب بورقيبة" سعى إلى التّقديس الأعمى لمظاهر الحداثة وتقليد الثقافة الفرنسية، وتنشئة الطفل على لغتها ومفاهيمهــــا وثقافتهـــا، وفي مقابل ذلك تعمد هذا الخطاب إقصاء مقوّمات ثقافتنا وهويتنا وانتماؤنا العربي والإسلامي في مختلف البرامج والقوانين التربوية. فالثقافة المدرسية لهذا النظام أنتجت شخصية قاعديـــة قائمــــة على الازدواجية اللغوية والثقافية. هذه الازدواجية التي طبعت شخصية المتعلمين التّونسيين على مدى أكثر مـــــن نصف قـــرن، لا تساعدهم على الإجابة عن السّؤال المركزي: من نحن؟.
 
      خاتمة 
 
   في المحصلة نعتقد أن الخطاب التربوي حول الهوية كان دوما نتاجا للتعبئة السياسية ولم يكن آلية لانتاج التغيير أو ضمن شروط التنشئة في أبعادها الاجتماعية والثقافية والدينيـــة، التي يمكـــــن أن تتحول لدى المتعلمين إلى سلوكيات وأنظمة للتواصل والتفاعل بينهم وفي حياتهم اليومية. فغياب النّصوص والسّندات المرجعية الواضحة حول عناصر هذه الهوية ومقوماتها الأساسية، اللّغوية والدّينية والجغرافية جعلها غير معيّنة بالنسبة إلى هؤلاء المتعلمين، وبالتالي فإنّه لا يمكنهم أن يتمثّلونها. والازدواجية "الهووية" (identitaire) التي طبعت شخصيــة المتعلميـــن التونسييـــن على مدى أكثر من نصف قرن، لا تساعدهم على الإجابة عن السّؤال المركزي: من يكونون؟.
 
الهوامش
 
(1) - الوثيقة البيداغوجية لسنة2006، عن وزارة التربية والتكوين، الإدارة العامة للبرامج والتكوين المستمر، المركز الوطني البيداغوجي، سبتمبر2006، ص4.
(2) ـ جون ديوي، الديمقراطية والتربية، ترجمة: منى عقراوي وزكريا ميخائيل، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1954، ص 105.
(3) ـ القانون التوجيهـــي للتربيـــة والتعليـــم المدرســـي، مؤرخ في 23 جويلية 2002، وزارة التربية والتكوين، ص 40.
(4) ـ محمد فاعور ومروان المعشر، "التربية من أجل المواطنة في العالم العربي: مفتاح المستقبل"، مركز كارينغي للشرق الأوسط، الشرق الأوسط، تشرين الأول/ أكتوبر 2011.
(5)ـ فادية حطيط، "الإذاعة والتلفيزيون والتربية المدنية"، الإذاعات العربية، عدد02، 2006، ص 59. ورد في، محمد بالراشد، " صورة الآخر في المناهج المدرسية" حالة التربية المدنية، مجلة الحياة الثقافية، العدد 223، تونس، سبتمبر 2011، ص 28.
(6)ـ إحسان محمد الحسن، معجم علم الاجتماع، دار الطليعة، بيروت ،لبنان، الطبعة الثانية، 1986، ص 45.
(7)ـ الدّراسة الدولية للتربية المدنية والمواطنة للعام 2009، الصادرة عن الجمعية الدولية لتقييم التحصيل التربوي(I E A)، ورد في ، محمد فاعور ومروان المعشر، التربية من أجل المواطنة في العالم العربي: مفتاح المستقبل، الشرق الأوسط، تشرين الأول/ أكتوبر 2011، مركز كارينغي للشرق الأوسط.
(8)ـ حسن شحاتة، المناهج الدّراسية بين النظرية والتطبيق، مكتبة الدار العربيــة للكتـــاب، القاهــرة، الطبعة الأولى، يوليو 1988، ص ص17ـ 18.
(9)ـ مارسيل بوستيك، العلاقة التربوية، ترجمة محمد بشير النحاس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إدارة التربية، 1986، ص 41.
(10) سالم لبيض، الهويــة: الإســــلام، العروبـــة، التونســـة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، يناير، 2009.
- (11)John Claude Kaufmann, L’invention du soi, une théorie de l’identité, Paris, Eds Armand Colin,2004, p.35.
(12) ـ  سالم لبيض، الهوية: الإسلام، العروبة، التونسة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، يناير، 2009، ص 158.
(13) ـ سالم لبيض، "خطاب الهوية في النظــــام التربوي وأثره على الشباب الطالبي في تونس"، مقال منشور على الموقع التالي: 
  societal.societystudies.org(تاريخ الاقتباس 28/10/2008)
 
————————-