في العمق

بقلم
الهادي بريك
فقهنا السياسي بين المراجعة والتحديث (1)

 لم تكن الحاجة إلى معالجة كثير من مفردات فقهنـــــا السياســــي قبل ثورات الربيع العربي المنداحة  إلا حاجة فكرية نظرية بسبب ما فرض علــــى الأقـــــلام والألسنـــة من إكراهات ألجأت أصحابها فـــي أحيــــان كثيــــرة إلى التورط فيما تورط فيه بعض ممن سبقهم من مثل القول بأن الشورى للحاكم معلمة غير ملزمة. أما اليوم فإنه لا مناص لنا من معالجات نابعة من رحم الحاجة الواقعية الماسة تلبية لخيارات الثورة وضرورات مراحلها الانتقالية على درب طي الأمة لقرون كئيبة وطويلة من الخنوع للتجزئة والتبعية والحكم الفرعوني.

 
من هنا نبدأ.
 
أليست العلاقة بين الفقه وبين السياسة علاقة زنيم بأبيه(1)؟ أجل. تفرض علينا المعالجة أن نبدأ من هناك بسبب مخلفات الانقلاب الأموي الشنيع ضد قيمة الشورى أساسا ركنيا من أسس فقه السياسة الشرعية في الإسلام في زمن مبكر جدا من التجربة السياسية الإسلامية. لن نزال أسرى لتلك اللحظة التأسيسية الخاطئة حتى تستعيد الأمة حقها الدستوري المشروع في أمرها السياسي العام. لست أحمّل ذلك الانقلاب أكثر مما يتحمل بمثل ما يتوهم بعضنا ولكني أعدّ ذلك طعنة أولى أثخنت الخاصرة ثم توالت الطعنات حتى أفضت المعركة إلى احتلال العاصمة العباسيــــــة ( بغـــــداد) التي لا تكاد تشرق الشمس ولا تغرب إلا على إقليــــم من أقاليمها المبثوثة في الأرض ثم توالت السقطات لتجمع إليها عاصمة إسلامية أروبية أخرى لن يزال الأوربيون مدينين لحضارتها ( أي غرناطة). وما كان قطارنا المتهالك سياسيا إلا ليفيء إلى مصيره البائس فكان الطلاق البائن بينونة كبرى بين شريعتنا السياسية وبين الدولة التي تسوسنا. أجل. بدأ التراجع بانقلاب ضد الشورى فحسب فـــــــآل مع كرّ الأيـــام إلى طلاق بائن بين الإسلام وبين الدولــــة وشؤونها. لا أكره قلمي ليكتب الخلاصة التقليدية المريحة : تولى مصطفى كمال كبر ذلك الوزر. لا... بل أختار الأخرى لأنها تجمع بين الحقيقة وبين كونها مؤلمة لنا لعل الألم يحدث الصدمة فتولد النهضة. الأخرى المؤلمة هي : نحن هم الذين استسلمنا للسيف في البدايــــة حتى حصد رقابنا السيف ذاته الذي استسلمنـــــا لـــــه في النهاية.ذلك هو الطلاق البائن الذي فتح للوافد الغربي ذراعيه مرحّبا ولم يتردد الوافد بالإغداق علينا بكرم غزوه الفكري متدثرا بضرورات التطور والتقدم واللحاق بركب الأمم على حد تعبير الراحل بورقيبة. فلما استحكمت مفاعيل تلك الحقنة الفكرية في نخبتنا أغدق علينا الوافد بكرم الدبابة العسكرية تدكّ الأرض. ولم تكن النتيجة من تلك المسيـــرة الطويلـــــة سوى أن العلاقة بين الشريعة والفقه والإسلام من جهة وبين شؤون السياسة والدولة والحكم والمال العام من جهة أخرى هي علاقة حكمت عليها معطيات المعاصرة الجديدة بالإعدام.
 
إليك المشكلة محررة مبسوطة.
 
المشكلة الأم التي يعالجها هذا المقال هي أن أكثر ما ورد في مختلف الاجتهادات الفكرية فيما يتعلق بشؤون الدولة والحكم والسياسة والتنظيمات الإدارية الداخلية والعلاقات الخارجية والقضايا المالية العامة والعلاقات بين الحاكم وبين المحكوم ووظائف الدولة والدور المجتمعي وشؤون المعارضة معالجة بالسيف أم قبولا ضمن المشهد السياسي العام .. أكثر ما ورد من ذلك في تراثنا القديم والجديد سواء بسواء ليس وفيا للشريعة الإسلامية وفاء مرضيا.
عليك أن تطالبني بالأسباب التي شرعت لذلك من جهة. ومن جهة أخرى علي أن أشرح المصطلحات التي يتوقف فقه معانيها عليها. ومن جهة ثالثة فإنك لاف هنا ـ إن شاء الله تعالى ـ ما يكفي خدمة للغرض من مظاهر ذلك العقوق الذي أنشأته كثير من الاجتهادات. فإذا توصّلنا إلى حسن القول بأن ذلك كان مسؤولا مسؤولية مباشرة عما انتهت إليه الحالة العامة الجامعة للأمة ـ إلا فيما يعدّ استثناء ثوريا نرقب ثمرته ونخشى الانقلاب عليه ـ فإننا نكون قد عالجنا الموضوع معالجة جامعة. ولن تعدم المعالجة بحوله سبحانه مقاربات بديلة مختصرة جدا جامعة بين الأصل التشريعي وبين الحاجة المعاصرة لأكثر ما يشكو منه فقهنا السياسي. وإنه لمن نافلة القول أن الإطار العام الجامع لتلك المشكلة المبسوطة هو السؤال النهضوي الكبير ذاته الذي طرحته الصحوة الإسلامية المعاصرة أي : أنّى للإسلام أن يعدنــا ـ في مصدريه الأوليين الثابتين اللذين يحتكران الحديث باسمه(2) ـ بالغلبة والقوة والوحدة والاعتصام ورغد الحياة والحال غير الحال بالتمام والكمال. إذ الحــــــال فينا هي حال المغلوبية والدونية والضعف والتجزئة والتبعية والاحتلال والفقر والجوع. والحال في غيرنا ـ الآخر غير المسلم ـ هي الحال ذاتها التي وعدها الإسلام إيانا سيما في جانبها المدني والعسكري والدنيوي بصفة عامة. ذلك هو سؤال النهضة القديم المتجدد. سؤال ظل معلقا، وظني أن الثورة العربية المنداحة جولة أولى من جولات كثيرة وطويلة كفيلة بفضّ السؤال الحضاري الإشكالي الكبيــــــر. ذلك هو الإطار العام للمشكلة محلّ المعالجة ولكن المعالجة التي نحن بصددها ستركّز على جانبها السياسي الأوسع من جهة ومن جهة أخرى وصلا بين الفقه السياسي التقليدي ليتحمل مسؤوليته كاملة عن الحال السيئة الموروثة وبين تجديـــــد الدعـــــوات الحـــــارّة إلى مراجعته بحسبان أن ذلك خطوة من خطوات تحقيق أهداف الثورة العربية المنداحة.
 
المطلب الأول : تحديد المصطلحات.
 
بين الشريعة وبين الفقه : بين الشريعة وبين الفقه مساحات اتصال ومساحات انفصال. يتصلان في مساحة الاعتمـــــاد على الوحـــي من قرآن وسنة من حيث أنهما يصدران عنه ويكتسبان المشروعية منه. وينفصلان في مساحة الارتباط  بالوحي إذ الشريعة هي الوحي نفسه عندما يسطر القوانين والقواعد والمقاصــــد والنصـــــوص التي تجتمع لتكون للإنسان عنوانا لحياته فهي مساحة متلبّسة بالوحي نفسه. ومن ذا فهي ثابتة الورود لا خلاف عليها ـ إلا قليلا جدا منها في الحديث ـ بمثل كونها قطعية الدلالة سيما عندما تكون مفصلة ولكن ورودها مفصلة نادر جدا. أما الفقه فهو مختلف الاجتهادات والآراء والاستنباطات والمذاهب والأقوال التي تستخدم حقل الوحي أي حقل الشريعة حقلا تنطلق منه في التفكير الفقهي وبذا تكون حركة الفقه معصومة في مجموعها العام وبمختلف مدارسها الثمانية(3) التي تتديّن بها الأمة اليوم ولكنها غير كذلك في تفاصيلها إذ هي تتعرض للصواب والخطإ بحسب التزامها بالمعايير التشريعية في الاجتهاد أو بحسب بعدها عن تلك المعايير. الشريعة إذن هي الوحي المعصوم عندما يفصح عن جانبه القانوني الإلزامي العملي في شتى حقول الحياة. أما الفقه فهو حركة الاجتهاد البشرية التي يمارسها أهلها في محالها المعروفة عند طلبة العلم بغرض تهيئة الأوضاع القانونية للتنزيل من جهة ولتوسيع الاجتهاد وتجديده كلما دعت الحاجة إلى ذلك من جهة أخرى. الشريعة تنزيل إلهي معصوم حتى وهو يجمع إليه القطعــــــي مع الظنّي. أما الفقه فهو عمل بشري يعتريه الخطأ بمثل ما تعتريه الصّحة. الشريعة وحي والفقه ـ في كل حقوله وكائنا من كان صاحبه إلا محمدا عليه الصلاة والسلام ـ تراث.
الفقه السياسي أو فقه السياسة الشرعية : التعبيران سيّان. سوى أن الأول منهما حديث الإستخدام في حين أن ثانيهما عبارة تراثية قديمة عند الغزالي والعز والقرافي والجويني وإبن تيمية وإبن القيم ومن بحث في الفقه السياسي الدستوري من مثل الماوردي وصاحب الخراج أي أحد صاحبي أبي حنيفة. المقصود هو التفكير الفقهي الذي يدرس الكتاب والسنة ( والتجربة الراشدية الأولى ) ليستنبط القواعد ويفصلها وينزلها ولكن في الجانب السياسي والحكومي والدولي داخليا وخارجيا وعلاقة قانونية ومالية. مثله في ذلك مثل فقه العبادات  أو فقه العقائد أو فقه الأحوال الشخصية. سمّيت في القديم سياسة شرعية بسبب ارتباط تلك المباحث بالشرع الإسلامي ولم يكن ذلك منكورا لأنه جدّ قبل اقتلاع آخر شريان يصل السياسة بالعقيدة أي الخلافة التركية. إذ من يومها فحسب أصبحت العلاقة ـ دوليا وعربيا سيمــا في النخبة المثقفة والحاكمة ـ علاقة هجينة لا يرى لها أي محل من الإعراب سوى محل التسلل الذي حقّه المحو وليس التثبيت.
 
المطلب الثاني : أسباب العقوق ومستوياته. 
 
السبب الأول : رضى الأمة بطلائعها الفقهية بغلبة السيف الأموي رضى إكراهيــــا ومنحــــى إجتهاديا بأن الوحدة القيادية والسياسية للأمة مقدمة في مثل هذه الحالات على تنازع ليس من المستبعد أن يكون مسلحا وليس من المستبعد كذلك أن يجرّ إلى فتنة الانقسامات الداخلية التي تبعثر الصفّ وتغري العدو فينهار الإسلام جملة. ذلك هو السبب الأول والأخطر ـ في تقديـــري ـ الذي مهّد المناخات لنشـــــوء عقوق بين الشريعة وبين الفقه في الحقل السياسي العام. أجل. نعته بالعقوق هو نعت قاس وهي قسوة أقصدها و سيتبين القارئ الكريم وطأة تلك القسوة عند الحديـــث عن مظاهر ذلك العقوق وآثاره المدمرة. كان ذلك الرضى المكره مفضيا بالضرورة إلى نحت عالمين شبه مستقلين في البداية ـ ليكونا من بعد ذلك بقرون مختصمين ـ لأول مرة في تاريخ الأمة وهما : عالم الحكم والسياسة والتدبير العام وجباية الأموال وتوزيعهــــا وهو العالم الذي احتكرته العائلات الأموية ثم العباسية ثم المملوكية ثم التركية وعلى هامش تلك العائلات عائلات أخرى في المشرق والمغرب وجدت لها إمارات وصولجانات بعدمــــــا تعرضت الوحــــدة المفروضــــة بحد السيف ـ في أواخر العهد العباسي ـ إلى الانهيـــــار. إذ السيف الذي أطاح بالخلافة الراشدية الشرعية الأولى هو نفسه الذي أطاح بتلك العائلات عائلة في إثر عائلة. العالم الثاني هو عالم المجتمع وفعالياته الفقهية والفكرية والأدبية والفنية والاجتماعية والاقتصادية الأهلية. وهو العالم الذي فرّ إليه الفقهاء يعكفـــــون على تثبيت ولائه للإسلام بالتعليم والدعوة والقضاء والفتوى وغير ذلك. فرّت حركة الفقه من السيف المتغلب إلى المجتمع الأهلي. ولكن السيف المتغلب الباحث عن مشروعية دينية لم يدع تلك الحركة حرة طليقة حتى بعدما هادنته وصمتت عن جريمته السياسية أي الدوس على قيمة الشورى دستورا أعلى في التعاقد السياسي. وهنا بدأت المعركة حامية الوطيس بين السيف المتغلب وبين الفقهاء الذين ظلوا متمترسين وراء الشريعة فلم يسلم الإمام مالك من الضرب والعدوان حين أفتى ببطلان طلاق المكره إيماء منه إلى بطلان التعاقد السياسي المكره بين العباسيين وبين الأمــــة. وهو الذي عزر حركة المقاومة التي قادها النفس الزكية (4). وبمثله لم يسلم الإمام الشافعي من الحكم عليه بالإعدام مع مجموعة من تلاميذه الذين أعدموا بحضرته ونجا هو بجلده لحكمة أجراها سبحانه على لسانه. أما قصة الإمام أحمد في قضية خلق القرآن فهي معروفة لا تحتاج إلى إثارة إذ سجن الرجل وعذب وأشــرف على الموت بسبب تأبّيه عن خطّ صكّ شرعي باسم أهل السنة والجماعة لفائدة العباسيين الذين شعروا بأن الصك المعتزلي ليس كافيا لإضفاء الشرعية على خلافتهم. المقصود من هذا السوق ( بتسكين الواو ) هو أن الطلائع الفقهية ـ وهي في تلك الأيام بمثابة الطلائع السياسية والفكرية التي توجه الحياة العامة في زماننا هذا ـ لم يكن تقديرها آنف الذكر حكيما حكمة كبيرة. معنى ذلك هو أن تلك الطلائع أخطأت لما حشرت نفسهـــا فـــي النظريـــــــــة السياسيــــة التي توارثها فقهنا السياسي حتى أودت بنا نحن اليوم أي نظرية : شرعية المتغلب أو شرعية الشوكة (5) أو شرعية السيف. وكلها أوعية سياسية لمحلول واحد. كان أولئك الطلائع بين نارين متأجّجتين . هذا صحيح. نار الفتنة السياسية التي يؤججها الانقسام في إثر غلبة السيف. ونار الصمت حيال الفتنة التي أوراها الأمويون أي فتنة إلغاء الشورى وحق الأمة في الأمر العام. فإذا قلنا بأن صحة التقديرات أو خطئها يحكم عليه بالنهايات فإننا لا نتردد اليوم في القول بأن تلك الطلائع الفقهية سلمت رقابها ـ ورقاب الأمـــــة من ورائها ـ إلى السيف المتغلب على طبق من ورد لأنها ستظل ملاحقة من لدن ذلك السيف سواء عارضته أو فرّت بعيدا عنه كما فعلت. لما فرّت تلك الطلائع لاحقها السيف يطلب تزكيتها فتأبّت فاضطهدها فتحركت ثورات من هنا ومن هناك. والحق يقال أن أغلب تلك الثورات كانت خارجية ثم شيعية(6). أغلبها كذلك وليس كلها. ولذلك لم تنجح حتى في المطامنة من غلواء السيف المتغلب الذي استخدمه السفاح الحجاج ابن يوسف الثقفي  وذبح به التابعي الفقيه الكبير والمقاوم المغوار سعيدا ابن جبير. أما الطلائع الفقهية التي لها حضورها الكبير في المجتمع فلم تكن لها مشاركة في تلك الثورات إلا من وراء ستار كما مرّ بنا مع الأئمة الكبار. أظن أن النار الثانية ( نار الصمت ) ظلت مستعرة حتى اليوم ـ إلا حيث اشتعلت الثورات ـ ولكن لم تبلغ النار الأولى ( نار الانقسام ) مداها الأكبــــر إذ لم تتشظّ الأمة إلا نسبيا ولم تتفرق إلا في المستوى السياسي الرسمي وليس ذلك تهوينا منه ولكنها مقارنة فحســـب. أنا اليوم عند هذه الخلاصة : ضحايا المقاومة مهما كثروا هم أقل عددا بكثير جدا من ضحايا الصمت بذريعــــة الخشيــــة من فتنــــة الانقســــام. ولكن مادام الأمر اجتهاديا فالقاعدة الشرعية هي ( وكلاّ وعد الله الحسنى ). 
السبب الثاني : إنحياز جزء غير يسير من المحدثين والمصنفين في علم الحديث بصفة عامة إلى سلبية علمية فيما يتعلق بالحديث السياسي (7) وهي سلبية تمثلت في ضربين : الضرب الأول هو التعويــــــــل على الجمع والتجميع والتكديس وباء بذلك أصحاب المنهج الإسنادي (8) دون تحسّب لما قد يؤجّجه ذلك المنهج التكديسي من كوارث في الفقه السياســـــــي من بعد ذلك بعقود وقرون وهو الأمر الذي حدث بالفعل. ومن أسبابه الكبرى دخول شعوب وأقوام غير عربية لم تجد المحاضن العلمية المناسبة والكافية لحسن فقه الحديث السياسي. الضرب الثاني هو تقديم الحديث السياسي الحاضّ على الطاعة للأمير والتسليم بالأمر الواقع حتى لو وقع أكبر محظور شرعي يسخطه الله سبحانه أيما سخط وهو جلد الظهر والاستيلاء على المال.. تقديم ذلك على الحديث السياسي الذي يسير في الاتجاه المعاكس بالتمام والكمال أي حضّا على الثورة وتحريضا على المقاومة وحثّا على رعاية الحياة والأموال والحرمات والكرامات. إنك لو تصفحت صحيح البخاري ـ مثلاـ وهو المعدود في الأمة قاطبة ـ إلا الشيعة ـ أصحّ كتاب بعد الكتاب المحفوظ لما عثرت فيه على عشر معشار شيء من الحديث السياسي الذي يتجه في الاتجاه المعاكس لنصوص الإسلام القطعية ومقاصده الثابتة بله السيرة الراشدية المعصومة في أدائها العام وليس في تفصيلاتها ولذلك أمرنا بعدّها مصدرا ثالثــــــــــا من مصادر التشريع في حديث لم يسلم من الضعــــف في الحقيقة. في حين أنك لاف من ذلك قناطير مقنطرة في صحيح مسلم بله غيره. والحق يقال أن صحيح مسلم كان متوازنا جدا مقارنة بغيره في إيراد الحديث السياسي في الاتجاهين المتضادين .على أن أمرا آخر لا بد من إيراده حتى لو ضاق عنه هــــــذا المجــــــــال وهو أن الضمور الذي أصاب حركة الفقه من بعد ذلك ـ وسنتحدث عنه لاحقا بإذنه سبحانه ـ اهتبل ورود مثل ذلك في ثاني أصح كتاب بعد الكتاب المحفوظ ليجعل من الحديث السياسي غير المنسجم مع محكمات الكتاب هو الأصل ليكون الحديـــــث السياســــي المنسجــــم مع محكمات القرآن السياسية هو الاستثنـــــاء. ولولا أن الموازين الاعتبارية للصنفين من الحديث السياسي ـ في الجملة ـ متعادلة ورودا لمالت طبقة الفقه السياسي في تراثنا إلــــى تجريــــم الخارجيــــن (9) عن السلطان الجائر وعدّهم مارقيـــــــن عن الديــــن أو زنادقة وهراطقة أو بغاة بل عدّوا كذلك في القديم وفي عصرنا.
أما عن مستويات ذلك الفصام النكد بيــــن الشريعــــة الإسلاميـــة في دستورها السياسي وبين الإنتاج الفقهي في الحقل السياسي فهما مستويان إثنان : مستوى عقوق ظاهر بين الشريعة وبين الفقه بصفة عامة. إذ لم يخل قرن من فقيه ثائر مقاوم لا يلوذ بالصمت بله إضفاء الشرعية على الحكم العضوض أو التورط في القول بشرعية السيف المتغلب وأحقية الشوكة التي نظر لها الإمــــــام الجوينــــي على جلالة قدره ولا يشفع لهم ـ في رأيي ـ تخوفهم من فتنة الانقسام ولا من فتنة أخذ أبشار الأحرار بالجلد وسلب المال بسبب أن الدنيا مبناها التدافع والمقاومة والجهاد وليست هي دار ركون إلى القهر بل هي دار امتحان ولولا أن المقاومــــة السلميــــــــة مشروعـــة بل مفروضة لما أخبرنا عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح بأن ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) وأن ( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقلته ). ومستوى عقوق آخر ظاهر بين الشريعة وبين الواقع وهو مستوى يقتضيه المستوى الأول بالضرورة. ألم يصل الحال بنا إلى تبرج القول بخلو الإسلام من الشريعة جملة وتفصيلا فإذا وقع الحديث عن الشريعة السياسية فيه والمالية جنّ جنون أعدائه وهم فينــــا ومنــــا كثــــر؟ هو تبرج وصل حدا تبرأت فيه الدساتيــــر العربيــــة والإسلاميــــة في الجملة لا في التفصيل من الشريعــــة الإسلاميــــة إما التــــواء أو تصريحا جاهرا. هل لك من بعد ذلك أن تقنعني أنه ليس هناك مشكلة شريعة في الأمة؟ من أين تتأتى إذن كل هذه الأدخنة السوداء المدلهمّـــة التي تحيط بحياتنا السياسية والإعلامية والفكرية؟ من فراغ!.
( في الجزء الثاني من المقال سنتعرض إلى مظاهر ذلك العقوق ومآلاته ثم نقدّم  مقاربات نظرية وعملية في فقه السياسة الشرعية أو الفقه السياسي مع خلاصات عامة مركزة حول الموضوع) 
 
الهوامش 
 
1 ـ الزنيم : إبن الزنى ( عتل بعد ذلك زنيم ) من سورة المدثر.
2 ـ إحتكار الكتاب والسنة هنا للحديث بإسم الإسلام هو إحتكار إيجابي وهو الحائل دون التيوقراطية من جهة ودون إسلام عالماني ليبرالي لا لون له ولا طعم من جهة أخرى.
3 ـ المدارس الفقهية الثمانية المعاصرة اليـــوم ـ أو المذاهب ـ هي : المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية والظاهرية والأباضية والزيدية والإثناعشرية.
4 ـ النفس الزكية : هو محمد إبن عبد الله إبن الحسن إبن علي إبن أبي طالب عليه الرضوان وذلك عام 145 هجرية ضد الخليفة العباسي المشهور جعفر المنصور.
5 ـ شرعية الشوكة : نظرية قوامها أن من تغلب بسيفه فصــــار على الناس حاكما فإن بيعته فريضة شرعية وهي بيعة صحيحة حسما لأدواء الفتنة ولعل الإمام الجويني هو أكثر من أحاط بتلك النظرية في كتابه المسمى بين طلبة العلم ( الغياثي ) واسمه الكامل : غياث الأمم في إلتياث الظلم.
6 ـ ثورات خارجية وشيعية : الخارجية نسبة إلى فرقة الخوارج. والشيعة أمرها معروف.
7 ـ الحديث السياسي : المقصود به هنا الحديث النبوي في الحقل السياسي بتعبيرنا المعاصر.
8 ـ أصحاب المنهج الإسنادي : كتب الحديث مقسمة من حيث منهج التأليف إلى قسمين كبيرين : قسم التأليف الإسنادي ـ مثل مسند أحمد وغيره ـ الذي يعتمد على الإسناد إلى صحابي بعينه فيذكر الحديث المروي عنه. وقسم التأليف الفقهي ـ مثل الصحيحين وغيرهما ـ الذي يعتمد على تقسيم الحديث بحسب حقله ( حقل الطهارة مثلا أو الصلاة أو الإمارة أو غير ذلك ).
9 ـ الخارجين : كانت الثورة تسمى في القديـــم : خروجـــا. نسبة إلى الخوارج الذين عرفوا بذلك.