في العمق

بقلم
د.محرز الدريسي
ملاحظات أولية حول الاسلاميين وفكر الوحدة

 من خلال كامل أعداد "الفجر" و"الضمير" لم أجد إلا مقالا وحيدا عن البناء المغاربي أو الوحدة المغاربية. المقال بعنــــوان "نحو اتحاد مغاربي شعبي وقــوي وحــــر" كتبه د. أحمد القديـــدي بتاريخ 27 جانفي 2012، فهل يمكن أن نعتبر ذلك موقفا أو يعبر عن موقف مضاد للتوحيد المغاربي.؟

لا أعتقد أن هناك رفضا لمبدأ البناء المغاربي، بقدر ما أن هناك معطلات فكرية وتراثية ومفهومية سياسية وثقافية في المتخيل مجموعة الصور والتصورات التي تملأ وعي الفرد والجماعة تجاه شيء محدد أو جماعة أخرى تجعل من البناء المغاربي صورة مشوهة أو منقوصة.
ولعل الحديث عن الخلافة السادسة من قبل رئيس الوزراء التونسي السابق (1) في خطاب شعبي بمدينة سوسة أمام أنصار حركة النهضة، أثار مخاوف كبيرة في المرجعية السياسية وفـــــي التفكيـــر السياســـي. هذا المفهوم للوحدة يحيله إلى صورة تاريخية خاطفة، كانت مثال الدولة الشورية-الديمقراطية العادلة والاسلامية، وأنها كانت تجمع بين المسلمين بمختلف أطيافهم وجنسياتهم وأن هــــذه الصـــورة-النمـــوذج هـــي التي يرغـــب فــــي إعادة إنتاجهــــــا ورسمها بصفة علنية أو مضمرة، وهي ذهنية مرتبطة بالطوبى، ويبـــدو أنهـــــا متفشيــــة فــــي قطاعـــــات عديــــــدة من الاسلاميين.
لماذا لا يمكن للإسلاميين بناء الوحدة المغاربية؟ أو السؤال المهذب هل يستطيع الاسلاميون بناء الوحدة المغاربية؟ 
يمكننا بيسر ملاحظة تشابه ظروف نشأة (نظرية الخلافة) على يد الماوردي وظروف نشأة نظرية الدولة الاسلامية في العصر الحديث، وأن مظاهر الأزمة وأسئلة الانبعاث الحضاري هي التي تجمع بينهمـــا. فإذا كانت نظرية الخلافة ظهرت كردة فعل تجاه ضعف مؤسسة الخلافة بعد امساك البويهيين ومن بعدهم السلاجقة بالسلطة، فإن نظرية "الدولة الاسلامية" وما تبعها من حديث عن أن "الاسلام ديـــن ودولــــة" قد أبصرت النور إثر زوال الخلافة في تركيا وإعلان الجمهورية عام 1922. وتوصلت في السياق نفسه السلفيات الإسلامية المعاصرة بمختلـــــف تكويناتهــــا إلـــــى نتيجــــــة هزيلــــة: أن الاسلام دين ودولــــة وأن الحكومات الاسلامية هي التي يكون قانونها شرع الإسلام. بينما لو تمعنت السلفية في التاريخ وقرأته جيدا لاكتشفت ضمور تلك النتيجة أمام حقيقة ما يشير إليه التاريخ والتجربة. فليس الحاضر أو السياقات الحالية وحدها التي ابتعدت فيها الدولة عن الاسلام، بل إنها كانت على هذا الحال في الماضي، ولم تكن "الخلافة الاسلامية" كما نظر إليهــــا، ســــــــوى نظريـــة تشير إلى ما كان يجب أن يكون وليس ما قد كان"(2).
ذلك أن الصورة المثالية والوجدانية للخلافة، التي تجمدت صورتها التاريخية عند عصر الراشدين، وإذا تأملنا التجربة السياسية الاسلامية ومآلاتها سنلاحظ بكثافة هذا الانفصال العميق بين الشريعة والقوة، وبين مسوغات الفقهاء والعلماء ومعهم الجمهور، وقوة السلطة العارية. وأن ملامح الصورة التاريخية لذلك الانفصال بين الشرعية العليا وحركيــــة السلطــــة وأفعالها قديـــــم في تجربتنا السياسية وليس حديثا، إذ انفصلت الشريعة عن ممارسة السلطة وتعطل معها التنظير السياسي الاسلامي حول الدولة ومفهومها. وحرص العلماء في البحث عن مؤسسة بديلة أو نموذج ، يعوضون به مؤسسة النبوة، ويسدون الفراغ، ويستعيدون به المثال الأول، فبدت لهم، من جراء ذلك التطلع، كل أشكال السلطة مخيبة وناقصة الشرعية.
حققت هذه الرؤية وحدة "الأمة" بالإضافة إلى الوحدة الرمزية للخلافة، لكنها أخفقت في تحقيق مشروع الدولة، فليس مصادفــــة كما يقول رضوان السيد أن تكون المؤسسات التاريخية المستقرة لأمتنا محدودة العدد، وأن تكون كلها غير سياسية الطابع، في ما آلت إليه على الأقل: الخلافة والأوقاف والقضاء. كما إنه ليس من قبيل المصادفة أن يعتبر الفكر السني - الذي ساد في أكثر عصور الاسلام- الإمامة، أي النظام السياسي، أمرا اجتهاديا، وأنه ليس من مرتكزات وجود الأمة أو هويتها. 
ولعل هذا التحليق الطوباوي إلى شرعية مرفوعة إلى بداية المرحلة التدشينية الاسلامية والتمسك بها كان من أسباب عدم اكتراث الناس بالدولة الواقعية وبمؤسساتها، كما أن الصورة  السائدة لدى الفقهاء والمؤرخين وكتاب نصائح الملوك تعكس الاعتقاد بأن السلطة كانت دائما ناقصة الشرعية، إما لخروجها عن مقتضيات الدين أو عن مقتضيات العرف  أو السببين معا. ومع ذلك كانت ضروريـــة لمنـــع الفوضـــى وسقوط المجتمــع، وهذا معنى القــــول:" سلطان غشوم خير من فتنة تدوم ، وقـــــــد أدى ذلـــك إلى تعميق "طوبى" الخلافة الراشدة،  وأدى ذلك في الحقبة المعاصرة إلى قصور في الفكر السياسي الاسلامي وأساسا ثغــــرات في فكر الوحدة.
فحين نتصفح كتاب ابن تيمية في "السياسة الشرعية" أو كتاب تلميذه "ابن قيم الجوزيه" فـــــي "الطـــرق الحكميـــة" نستنتــــج ما كان يشغل بال مؤلفي السياسات الشرعية، فإذا كان الفكر السياسي يهتم مبدئيا بموضوع الدولة وتوابعها فإن "السياسة الشرعية" تهتم بالأساس بموضوع الحدود والحقوق المفروضـــة على المسلم لتنظيم البيع والإجارات والأنكحة والطلاق أو عقوبات السارق والزاني وشارب الخمر... ولو أخذنا كتاب ابن تيمية وقارنا بين اللغة العامة والأخلاقية التي تطبع حديثه الموجز عن "الولايات" واللغة المدققة والمفصلة التي تطبع باقي الفصول سنتأكد أن ما يشغل بال مؤلفي السياسات الشرعية هي المعاملات أكثر من الولايات (أي الفكر السياسي).
ومن الناحية النظرية، تمحور الفكر السياسي الإسلامي حول مفهوم "الجماعة" أكثر مما عالج موضوع "الدولة" من حيث هي كيان مؤسسي وتنظيمي وإداري قائم بذاته. وهكذا يتضح أن تجربة العربي في الدولة تجربة محدودة متقطعة غامضـــــة وأن علاقته بها غلب عليها السلب أكثر من الايجاب ومن هنا يمكن فهم مقولة ابن خلدون" فبعدت طباع العرب...عن سياسة الملك" أي سياسة الدولة.
مع أن المذاهب الفقهية الاسلامية ظهرت وبرز علماء مجتهدون لكن لم تتبلور نظريـــــة متكاملـــــة في أصول نظام الحكم الاسلامي، بل لم يبرز موضوع السلطة السياسية بوصفها مسألة مستقلة عن الفقهاء والفقه، إلا ما كان يتعلق بالجدل التاريخي حول قضية الامامة- الخلافة وكتب السير وكتب الخراج والسير والحروب، ثم تطور الفكــــر السياســــــي الاسلامــــي من الجدل حول ضرورة الامامة، وحول مدى شرعية الماضي(الامامة- الخلافة) إلى البحث عن مسوغات تبرير الواقع الممزق و"الاحكام السلطانية" نموذجا. 
ولذا بقيت العناصر المترسبة في الوعي بالأمة الاسلامية تعبر عن ولاء يتجاوز الدولة وربما يتعالى عنها يعكس محدودية وظائف هذه الدولة، ويعوض عنهما في الوقت نفسه، هذا ما يجعل الوعي السياسي الوحدوي القديم والحديث يتردد بين الولاء للعصبيــــات المحليـــة التي تقدم له وحدها فرص التضامن العملي والتعاون المتبادل من جهة والولاء للعصبية الدينية الكبرى التي تعـــوض لـــه مثاليتهــا ما يفتقده على مستوى الولاء المحلي من جهــــة أخــــرى، اضافـــة إلى  ضعف فكرة الدولة في الوعي الجمعي أو الاحساس بعداوتها. يوجد خلط فكري في وعي العديد من الاسلاميين بين معنى الدولة وبين معنى السلطة وهو خلط يقودهم إلى المماهاة بينهما والحديث عن الدولة بافتراض أنها السلطة. 
وتبقى فكرة الوحدة استراتيجيا مهمة، وضرورة تاريخية تستوجب عدم تجاهل العوامل الاستراتيجية والجيوسياسية والسياسية وأن لا تختزل في مجرد استعادة وإحياء لوحدة قديمة أو لجوهر وحدوي تمنع بعض العوارض الثانوية الداخلية والخارجية من ظهوره. وأن يتم الانطلاق للتفكير في البناء المغاربي أو الوحدة ضمن نظرة واقعية تبحث عن أشكال التعاون والتحالف والاندماج والاتحاد، وحيوية بناء التفكير في الوحدة على المصلحة والمنفعة. والاستجابة لضرورات الواقع يتطلب الأخذ بهذا الواقع كما هو، والواقع العربي القائم اليوم هو مجموعة من الدول القطرية. وكل تفكير في الوحدة العربية اليوم وغدا لا ينطلق من واقع الدولة القطرية العربية الراهنة هو تفكير ينتمي إلى مرحلة مضت وانتهت، تفكير لم تعد له اطلاقا أية وظيفة ولا أية مهمة. 
 
هوامش
 
(1) السيد حمادي الجبالي
(2) محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر: دراسة نقدية تحليلية، بيروت ،دار الطليعة، 1982، ص 66-67. 
—————