مواقف وآراء

بقلم
توفيق الشّابي
الوثوقية مرض النخبة

 لأننا في مرحلة انتقالية فإن آراءنا أقوالنا وأفعالنا كلها على محك الواقع. الواقع المتقلب والمتعدد الأبعاد. الواقع الذي لا يُمسك أحدُنا بمفرده خيوطَه كاملة. لذلك من المستحيل أن يكون مطابقا لما نعتقد أو أن يكون ما نعتقده يقدم الحل الشافي لكل المشكلات. هذا استنتاج بسيط وبديهي مما يحدث في بلادنا. مع ذلك, الكثير مما نسمعه من خطابات ترددها فئة هامة من النخبة يوحي بعكس ذلك. ثمة وثوقية غريبة تسكن الوعي. ثمة يقين يتلبس الأفكار والعقول. ثقة إيمانية لا تتزعزع. الكل يعتقد أنه المحطة الأخيرة للحقيقة. ولا يكف عن ترديد ابتهالات دغمائيته: السؤال لا حاجة لي به. النقد والشك سوائل لا يمكن أن تتسرب إلى كوكبي المغلق. الخطأ حيوان أليف لدى الآخرين. الآخرون مرادفــــات أهليـــة للذئــاب. وما إلى ذلك من الابتهالات التي لا تنتهي.

 
هذا هو عمق خطاب جــزء هــــام مـــن النخبـــة التونسيــة الذي من المفترض أن يكون أكثر رقيا ليكون قاطرة للنهوض بوعي المجتمع بأكمله. والمصباح المضيء الذي يهتـدي بـــه الآخـرون في ظلمة ما انتشر من أفكار مغلقة. ما يربكني أكثر أن تكون هذه الوثوقية مستشرية أكثر لدى من يتسلحون بخلفية حداثيــة نقديــة بل بعضهم كان أستاذا في النقد والمساءلة عبر كتبه وأعماله الفكرية. هل بمثل هذا الوعي الضيق يمكن أن نؤسس لمرحلة جديدة مبنية على مبادئ الديمقراطية وحق الاختلاف و الاعتراف بالآخر. مبدأ أننا شركاء في هذا الوطن الذي لا يمكن أن يساس ويدار إلا بوعي وأفكار نبنيها معا ونرسخها فــي الواقـــع معـــا لأنه لا أحد يملك الحقيقة المطلقة والحل السحري لكل شيء.
 
 صحيح أن الخلافات السياسية الآنية يمكن أن تدفع بالبعض بوعي أو دون وعي إلى وثوقية مقيتة لكن بتقديري  الأمر غير مسموح به للنخبة. النخبة التي يجب أن تُحَكّمَ الاستراتيجيا في التفكير والخطاب والممارسة. المهم ليس هذا الموقع السياسي أو ذاك بل ما يُقترح من ثقافة وأفكار تساهم في تطور هيكلي ودائم داخل وعي الأفــراد و الجماعات. قد تكون فاعلية هذا التمشي ونتائجه بعيدة المدى لكنها أكيدة وممتدة داخل المجتمع وليست مسقطة يَسْهُلُ التراجع عنها.
ختاما وفي واقعنا المحتد وثوقية أجدني أردد مجددا ما كنت رددته في بداية شبابي بيني وبين نفسي– الحقيقة الوحيــدة الثابتة هو أن كل شيء نسبي- كما أجدني مفتقدا بعض الشيء لخطاب يتصل بما قاله الإمام الشافعي منذ قرون  "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.( بالمناسبة هذا شعار نشرية يصدرها سلفيون بأحد جوامع مدينة أريانة ...) في هذا الزمن ثمة مفارقات عصية على الفهم.
———————————-