مقالات في الهجرة

بقلم
مصطفى التومي
المهاجرون التونسيون في إيطاليا العلاقة التاريخية بين تونس و إيطاليا: من قرطاج إلى مزارا دال فالو

 لا يمكن لأي إنسان أن يتحدث عن تاريخ البحر الأبيض المتوسط وعن العلاقة التاريخية بين تونس وإيطاليا دون الوقوف بمرحلة الحروب البونيقيــــة التي قامـت بين روما وقرطاج والتي انتهت كما يعلم الجميع بانهيار الدولة الفينيقية وتدميرها واحتلال الرومان لشمال افريقيا في القرن الثالث قبل الميلاد وبقاءهم فيها إلى زمن الفتوحات الإسلامية الخالدة. ولهذه الوقفة الأولى أهمية قصوى حيث أنها تبين وتؤكد القيمة الإستراتجية لكلا البلدين (الإشراف على مضيق صقلية) و يفسر التحالفات السياسية القائمة حاليا. 

وقد تواصل الصراع بعد الفتح الإسلامي لتونس لينتقل إلى صقلية في القرن الثامن للميلاد حين تمكن القائد المظفر أسد بن الفرات من دخولها. وبقي المسلمون في هذه الجزيرة ثلاثة قرون عاشت فيها الجزيرة أروع حقبة من التطور الثقافي و الحضاري.
أما في العصر الحديــــث فإنــــه بالإمكــــان التحـــدث عن العلاقة بين الشعبين من خلال دراسة عامة لتواجد الإيطاليين في تونس إبان ”الاستخراب الفرنسي“ وبعده وتواجد التونسيين في إيطاليا بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة للحكومات التونسية المتداولة.
 
الإيطاليون في تونس 
 
المرحلة الأولى( 1800-1921(: شهدت هجرة مكثفة انطلاقا من جنوب إيطاليا  لليد العاملة العاطلة و لصغار المقاولين. 
ثم بعد ذلك لقدامى المحاربين وأنشأت المدارس الإيطالية والجمعيات الثقافية والاجتماعية والبنوك والغرفة التجارية.
المرحلة الثانية(1922-1948(: بعد أن تولي الفاشيون الحكم و إقامة الأحكام العرقية فرّ إلى تونس العديـــد من الإيطاليين المناهضين لهم وخاصة مـــــن اليهــود (من مدينة ليفورنو).
المرحلة الثالثة (بعد 1956( :  وهي مرحلة تقلص الوجود الإيطالي وذلك لعدة عوامل أهمها تحرير البلد من الفاشية العنصريـــة وكذلك الانقسامــات الداخليــة في صفوفهـــا بين الطبقـــة البرجوازيـــة المثقفة ذات الغالبيــة اليهوديــة وباقـــي أفرادهــــا مـــــن الفلاحين والمقاولين والعملة أصيلي جزيرة صقلية. 
وعندما نتحدث عن تونس يعــــود حنيـــن الإيطالييـــن إلى ”صقلية الصغرى“ أي بالتحديد إلى قرية ”حلق الوادي“ التي شهدت تواجد مكثف للجالية الإيطالية على مدى قرن من الزمن والتي عرفت مستوى للتعايش والتمازج الحضاري بين المسلمين والكاثوليك واليهود.
ولا يسعنا أيضا ونحن نمرّ بذكرى حدث مقرف في تاريخ تونسنا الحبيبة وهو يوم صعود الرئيس المخلوع إلى سدة الحكم عبر انقلاب خطط له بالتنسيق مع قوى خارجية إلا أن نشير إلى الدور التي كان للحكومة الإيطالية في تلك الفترة برئاسة ”بتينو كراكسي“ في هذه المصيبة التي عمت بلادنا. ولقد اعترفت الأجهزة الإيطالية على لسان مدير المخابرات العسكرية في تلك الآونــة الجنـــرال ”دي مارتينو“  بضلوعها في عملية الانقلاب من خلال عملية مخابراتيّة أطلق عليها  اسم ”أوليس“ التي تحدث عنهــــا بإطناب على القناة التلفزية الإيطالية الثانية في سنة  1996 وما زلت أتذكر شخصيا عناوين لبعض الصحف الإيطالية في أواخر أكتوبر أو بداية نوفمبر من نفس السنة  تؤكد ذلك ”لقد و ضعنا نحن بن علي …“. ولا أدري لماذا يقع تجاهل هذا الصنيع حتى بعد الثورة ولا تطالب الجهات المسؤولة التونسية بإيضاحات من نظيرتهــــا الإيطاليـــة عن تلك الحقبة الزمنية التي دفعت بتونس وشعبها إلى جحيم الديكتاتورية والاستبداد وجعلت البعض من التونسييـــن المقيمين في إيطاليا والمعارضين لبن علي تحت الرقابة الإيطالية الضيقة.
 
التونسيون في إيطاليا
 
يعتبر تواجد الجالية التونسية حديثا جــــــدا فــــي إيطاليـــــا حيث أن عدد المهاجرين التونسيين في 2001 كـــان لا يتجاوز 47.000 ( 3،5 % من مجموع المهاجرين) كان نصفهم قد سوى وضعيته القانونيــــة بعد قانون الوزير الاشتراكي السابق ”كلاوديو مارتالي“ سنة 1990.
 وفي الحقيقة كان لليد العاملة التونسية تواجد قديم في جزيرة صقليــــة وبالخصــــوص في مدن ”مزارا دال فالو“، و ”مارسالا“ و”ترابانـــي“ التـــي شهدت حــــدوث زلزال في أواخر الستينات أدى إلى نقص في اليد العاملة في قطاعي الفلاحة و الصيد البحري . 
ثم كانت المرحلة الثانية من الهجرة خلال السبعينات بعد إغلاق بلدان شمال أوروبا أبواب الهجرة إليها فوصل العديد من المهاجرين عديمي الكفاءة المهنية إلى مدن ”راغوزا“ و”أغريجانتو“ و”بلارمو“ و”كتانيا“.
ثم كانت المرحلة الثالثة في الثمانينات التي شهدت وصول العديد من اليد العاملة المؤهلة بعد الأزمة التونسية الليبية والتي أدت إلى طرد حوالي 30.000 عاملا تونسيا  من ليبيا.
ويتواجد المهاجرون التونسيون في مقاطعات ”لومبارديا“ و”بيامونتـــي“ و”إيميليا رومنيــــا“ حيث يعمل أغلبهم كموسميين في قطاعات السياحة والتجارة والتنظيـــف أو بعقــــود طويلــــة المــــدى في القطاعات الصناعيـــة وقطـــاع البنــاء الـذي شهــد خلال السنوات القليلة الماضية ازدهارا للمقاولات الصغيرة الحجم بينما انتقـــل العديـــد مــن الصياديــن إلى العديد من المدن الساحلية في مقاطعات ”كلابريا“ و”لازيو“ و”ماركي“.
وقد استغل المهاجرون التونسيون القوانين الإيطالية اللاحقة للقيام بعملية ”ضم الشمل العائلي“ فالتحق العديد من النساء والأطفال بأرباب عائلاتهم.  
و لقد شهدت الفترة التي واكبت الثورة إقدام العديــد من الشبات التونسي على ركوب البحر والمخاطرة بحياتهم من أجل عبور مضيـــق صقلية، والوصـــول إلى الساحل الشمالي للبحـــــر الأبيـــض المتوســــط من البوابة الإيطالية ولقد فاق عددهم 20000 ألف مهاجر مكن العديد منهم بحق الإقامة لأسباب إنسانية مع إمكانية تسوية وضعيتهم نهائيا في حالة الحصول على عقد عمل .
ويبلغ عدد التونسيين والتونسيات المقيمين في إيطاليا حاليا حوالي 150000 مواطن.
وتمثل الجالية التونسية المقيمة حاليا في مزارا دال فالو حوالي 10% إلى 15% من مجموع سكان المدينة البالغ حوالي 50000 ساكن. وفي هذه المدينة بالذات فتحت منذ عدة سنوات أول مدرسة ابتدائية باللغة العربية للمهاجرين تشرف عليها هيئة تدريس تنتدب خصيصا من تونس وتدرس فيها البرامج التعليمية التونسية.
وقد بينت بعض الدراسات أن مشاريع الهجرة التونسية في إيطاليا لها صبغة زمنية أي أن الهدف الأساســـي هو جمع المال ثم استثمــــاره فــــي مسقـــط الرأس وهذا ما يوافق الدراسة العامة للموارد في الميزانية العامة للدولة حيث أن أرصدة العمال التونسيين تشكل الإيراد الثالث بعد البترول و السياحة.
أما من ناحية الأبعاد الاجتماعية والثقافية لتواجد الجالية التونسية في إيطاليا فباستثنائنا للحالة الخاصة في مدن جزيرة صقلية ”كرغـــــوزا“ و”مـــزارا“ التي شهدت في السنوات الأخيرة حركة تمازج وتبادل ثقافي وصل بها الحدّ إلى تدريس اللغة العربية (دور الوسطاء الثقافيين) للتلاميذ الإيطاليين الذين يرغب آباؤهم في ذلك فإن الجالية التونسية في إيطاليا تفتقد حاليا للكثير من المقومات الدينية والثقافية والعلمية والمادية التي من شأنها أن تجعلها في صف الريادة ويعود هذا للتهميش الذي عاشته الجالية التونسية خلال الحقب الماضية وكذلك الهواجس والخوف من التعرض للوشايات من قبل أعوان النظام البائد.
وللخروج من هذه الحالة علينا القيام بعملية كشف للمشاكل والهموم التي يعيشها المواطنون والمواطنات في إيطاليا ونقدم الاقتراحات والحلول التي نعتبرها جوهرية وأولية وعاجلة. 
وقد بدأت بعض فعاليات من المجتمع المدني التونسي في إيطاليا بالتعاون  فيما بينها من خلال إنشاء تنسيقية لها في استطلاع الحالة العامة للجالية التونسية والعمل الجمعياتي فيها الذين كان في فترة النظام البائد  وفي غالبيته بؤرة لأزلام النظام وأداة للوشاية والتجني على أبناء بلدهم والزج بهم في متاهات التحقيقات وعدم تجديد الجوازات وغير ذلك...ومن الأكيد أن مثل هذه التجربة الجديــــدة التي تعيشها الجمعيات التونسية بعد ثورة الكرامة بإيطاليا ستعطي انطلاقة  ورؤى جديدة لطبيعة العلاقة بين المنظومــــة السياسيـــة عبر التمثيليات الدبلوماسية أو وزارة الإشراف ومكونات المجتمع المدني في المهجر من خلال مقاربة تشاركية بين الطرفين.
إن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها أوروبــــا قــــد أسدلت بظلالهـــا على إيطاليا وبدأنا نرى عودة العديد من الأسر وخاصة الأمهات والأطفال إلى تونس بعد سنوات عديدة من الهجرة وعودة الرجال إلى نقطة البداية أو أشد من ذلك ..إن الدعوة لإنشاء صندوق لرعاية المهاجرين وحمايتهم وكفالتهم ماديّا خصوصا في مثل هذه الظروف تعتبر مطلبا واقعيا لهؤلاء الذين فقدوا مواقع شغلهم                              بعد العديد من سنوات العمل والعطاء للاقتصاد الإيطالي من جهة ولخزينة تونس الحبيبة إذ لا يخفى عن أحد أن تحويلات المهاجرين إلى الوطن الأم احتلت دائما المرتبة الثالثة أو الرابعة  لموارد خزينة الدولة. وأظن أنه يكفي استحداث طابع جبائــــي ـ  بـ 0,50 يورو عن كل معاملة إدارية في القنصليات التونسية بالخارج للحصول على الأموال الكافية لهذا الصندوق والحفاظ على كرامة مواطنينــــا في المهجر.
وفي الختام تبقى العلاقات التونسية الإيطالية بعد الثورة متأرجحة بين المساندة الفعلية اقتصاديا وسياسيا والتأخر في حوكمة الهجرة والالتزام بحقوق الإنسان خاصة في ما سميت مراكز كشف الهوية والطرد المنتشرة هنا وهناك في إيطاليا والتي تـــــــأوي العديـــــد من مواطنينا من الشباب الذين جازفوا و للأسف ما زالوا يخاطرون بحياتهم من أجل " ألدرادو" عديم الوجود.