في العمق

بقلم
هشام بوعتّور
حول تجريم الاعتداء على المقدسات

 تنامت في تونس الدعوات إلـــــى ســــن قوانين تجـــرّم الاعتداء على المقدسات الدينية خصوصا بعد الأحــــداث التــــي وقعــــت حول السفارة الأمريكية  بعد الفلم الــــــذي أســـــاء إلـــى الرسول محمد (ص) أو بعد ردود الفعل على بعض الأعمال الفنية التي عرضت في قصر العبدلية بتونس. 

تتغافل هذه الدعوة عن أنها تستعمل مصطلحين يحملان معاني تقديرية تختلف من شخص إلى آخر و من عصر إلى آخر ومــــن ثقافـــــة إلــــى أخرى هما المقدسات و الاعتداء و رغم أن القانون المقترح يحاول تحديد المقدسات التي يروم حمايتها إلا أنه لم يستطع تحديد طبيعة الأعمال التي ستصنف في خانة الاعتداء و كيفية التمييز بين المباح والممنوع في التعبيــــر الفني عندما يتضمن مقدسا محميا. كما أن هذا القانون و هو يتخذ من ردود الأفعال على الفلم المذكور ذريعة لوجوده يغفل عن أن المقدسات فــــــي المعتقــــدات الشعبيـــة قد تتجاوز ما عددها مما يعني عجزه عن ضمــــان عدم حدوث ردود أفعال مماثلة أمــــام أعمــــال ”تعتـــدي على مقدس“ لا يشمله القانون المقترح مما يعطي شرعية للتساؤل عن جدوى حل المشكل بالتجريم القانونـــــي.
 
قضية سياسية بالأساس
 
تغيرت الصورة النمطية التي يحملها الغرب عن العرب و المسلمين عموما بعد الربيع العربي و نشر الإعلام العالمي لمشهد التحرك الشعبي السلمي المطالب بالحريـــــة والكرامــــة وهــــذا التغييــــر لا يتناسب مع مخططات قوى عالمية تحتاج للصورة النمطية الشائعة التي تبــــــرر بهــــا سياساتهــــا وتدخلاتهــــا في المنطقة فكان نشر الفلم المسيء للرسول محمد (ص) وسيلتهم لدفع الشعوب إلى ردود أفعال عنيفة تنزع عنهم الصورة الجديدة التي بدأت تتكون عنهم. 
و لو ننساق في تحليل الظروف التي صدرت فيها أعمال مستفزة للمشاعر الدينية للمسلمين كرواية الآيات الشيطانية لسلمان رشدي وغيرها، لرأينا بوضوح أن الدافع لصدورها لم يخل من غايات سياسية من تحويل الرأي العام عن قضايا أخرى أو تغيير مجال الصراع ... مما يعني أن أغراضا سياسية تتخفى وراء هذا الاستفزاز الذي يتخذ شكل الاعتداء على مقدس ديني.
و لا يختلف ما حصــــل فــي قصـــر العبدلية في تونس عن هذا. فبدون اعتماد سيناريو المؤامرة الذي روجت له الصفحات الاجتماعيــــة علـــــى النت، فــــإن لجوء بعض فنانينا الى استفزاز متعمّد للمشاعر الدينية كان امتحانا منهم لدرجة الحرية المتوفرة لهم في ظل صعود حزب ذي مرجعية دينية إلى السلطة .
مثلت قضيـــة ”حمايـــة المقـــــدس“ دائما وسيلة لتصفية الحساب مع الخصوم السياسييـــــن و الإيديولوجييــــن بتأليب الناس ضدهم وها قد رأينا ما حصل مع معرض العبدلية في بلد تسب فيه الجلالة والدين يوميا دون أن يسبب ذلك ردود أفعال مماثلة كما أننا رأينا الأشخاص الذين يرفضون اليوم تجريم الاعتداء علــــى المقدســــات قد شنوا من قبل حملة ضد حركة طالبان عندما اعتدت على مقدس ديني هو تماثيل بوذا في أفغانستان. 
 
ما هو المقدس الديني
 
نطرح هذا السؤال في الاتجاهيــــن، أي ما الـــــذي يمكن أن يصنف في المقدس الديني الإسلامـــي دون أن يحمل ضرورة هذه الصفة وما الذي نغفل عموما عن تصنيفه ضمنه.
بداية، نلاحظ أن القرآن لم يتحدث عن مقدس ديني و لم يستعمــل هذا المصطلح بل فرض على متبعيه معتقدات سماها علماؤه أركان الإيمان و لخصها في أواخر سورة البقرة (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَـنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِـــــهِ وَكُتُبِــهِ وَرُسُلـهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ). ورغم أن القرآن ندد بمجموعة استهزأت بالرسول وبالمسلمين (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُــــوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِــــهِ وَرَسُولِهِ كُنتُــــمْ تَسْتَهْــــزِؤُونَ ) ”التوبة 65“ إلا أن  آية مثل (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَـــــيَّ ) أو قول عمر بن الخطاب وهو يقبل الحجر الأسود أنه يعلم أنه حجر لا ينفع ولا يضر ولولا سنّة الرسول لما قبّله. هي من ضمن أمثلة عدة تبين أن الاسلام لم يسع الى بناء مقدس بقدر ما سعى الى نزع القداسة عن كل ما هو دنيوي وبشري.
لكن لنفترض جدلا أن ما حدده القرآن من معتقدات هو ما يمثل المقدس الإسلامي وهذا على ما يبدو ما نحا اليه مشروع القانون المعروض حول الموضوع. 
ان المتأمل في التاريخ الإسلامي البعيد و القريب يرى أن العديـــد من العلماء والمبدعين تعرضوا للاعتداء بشكل أو بآخر لمسهم بما اعتبر في وقت ما من المقدس ولا يصنفها القرآن ضمن المعتقدات. فابن تيمية مثلا، أتم حياته في السجن عندمــــــا خــــاض صراعـــا ضد البدع ومنها الطقوس التي شاع القيام بها في أضرحة الأولياء الصالحين كما تعرض المعتزلة الى الملاحقة و وقع اتلاف كتبهم رغم أنها لا تتعرض للمقدس بل تقدم قراءة للدين مغايرة للفكر المدعوم من السلطة السياسية  وتمّ عندها إدراج الإيمان بالقدر ضمن أركان الايمان أي ضمهـــــا الى المقــــدس رغم أن القـــرآن لم يصنفه ضمن المعتقدات الواجبة و أخيرا ليس ما وقع للدكتور نصر حامد أبو زيد من تكفير و تطليــــق من زوجته ببعيد عنا رغم أن كتاباته الناقدة للموروث الأشعري لا أثر فيها للاستهزاء. 
هذه الأمثلة التي قدمت لا تدخل تحت طائلة مشروع القانون حول تجريم الاعتداء على المقدس لكنها تبين أن تحديد المقدس يختلف من ظرف الى آخر ومن شخص الى آخر كما أن تحديد ما يمكن اعتباره اعتداء يخضع للتقدير ولا يمكن تحديده بما يستحيل معه بناء قانون يفصل في الموضوع. هذا من جهة و من جهة أخرى، فإن معالجة القضية بقانون تجريم يحصر المقــــدس في المعتقدات الواضحة في القرآن لن تمنع ردود أفعال شعبية عند التعرض لمقدس في الفكر الشعبي و لنـــا في حالة ابن تيمية خير مثال. 
لقد أضاف التاريخ و الدين الشعبي الكثير إلى المقدس الإسلامي لكن العلماء و المفكرين تغافلوا تحت وطأة دول الاستبداد التي تداولت على المنطقة الإسلاميـــة عن مقدس واضح في القرآن هو الإنسان و حقوقه.
  
حقوق الإنسان من المقدس الإسلامي
 
كثيرة هي الكتابات الحديثة حول حقــــوق الإنســـان في الإسلام و هي تتوجه في أغلبها إلى تعداد الحقوق التي يضمنها الإسلام للمسلميـــــن في ظل جماعتهـــم و تحت دولتهم أو ما تضمنه هذه الدولة من حقوق لغير المسلمين المقيمين بينهم و أكثر هذه الكتابات يلتزم ما أقره المفسرون للقرآن و ما استنبطه الفقهاء من أحكام لإبراز ما يتوافق منه مع المعايير الحديثة لحقوق الإنسان و تبرير ما لا يتوافق معها أو تصنيفه ضمن ”الخصوصيات الثقافية“ التي تمنع التزام المسلمين وحكوماتهم بالمواثيق الحديثة لحقوق الإنسان ولا شك في أن المستفيد الأكبر من هذا الموقف هو دول الاستبداد الحديثة المتقاسمة للمنطقة الإسلامية وأن من ضحاياه المصلحين والناشطين السياسيين والحقوقيين في تلك المنطقة بما فيهم الإسلاميون . 
 القرآن يضمن حقوقا للإنسان مهما كان معتقده ويحتوي آيات ترسّخها، لكن انحراف الدولة ونشأة وتطور علم الأصول في خط الدفــــاع المتراجـــع غيّب هذا الجانب . وعندما نعمل على إعادة إبراز هذا الجانب في القرآن، فإننا  نحاول  تخليص الدين من تأثير التاريخ والسياسة والعودة إلى طبيعة القرآن كنص محوري لرسالة تتوجّه إلى الإنسان عموما (دعوة للناس كافة)  لا ينحصر دوره في تنظيم جماعة المسلمين ونعيد إليه دوره الذي طرحه علــــى ذاتــــــه في أن يكون ”رحمة للعالمين“ ونفهم لماذا كان المستضعفون (المنتهكة حقوقهم) أول المستجيبين للرسالة الإسلامية.  
لا يعني هذا المماثلة اللاتاريخية واللاعلمية بين ما جاء به القرآن وما أنتجته البشرية من خـــــلال تجربتهــــا من منظومة حقوقية تتخذ شيئا فشيئا طابعا كونيا بقدر ما يعني أن هذه المنظومة لا تتناقض عموما مع القرآن ومع أهداف رسالته.
كأمثلة لهذا، نجد في قصة الخلق في القرآن أن الله أسجد الملائكة لآدم الممثل الأول للإنسان. والإيمان بوجود الملائكة جزء من أركان الإيمان في العقيدة الإسلامية ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَـنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِـــــهِ وَكُتُبِــهِ وَرُسُلـهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) ”البقرة 285“ مما يعني ضم الإنسان عموما إلى المقدس الإسلامي الذي من أجله خلقت الأرض (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ) ”البقرة 29“ .
 هذا الرفع من قيمة الإنسان الذي ألحّ عليه القرآن مكررا قصة اسجاد الملائكة له، لا نراه بنفس الوضوح في الكتب السماوية السابقة كما دونت (11 ) و هذه الإضافة في مسار الأديان السماوية يجب أن يكون لها تأثير على موقع الإنسان في الفكر والفلسفة والسياسة لدى المسلمين خصوصـــا إذا قرنت  بالآيـــات العديدة التي تتحدث عن تكريم الله لبني آدم (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ) ”البقرة 34 “ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) ”الاسراء70“.
و قد اقترن اسجاد الملائكة لآدم بقدرتـــــه على التعلم و المعرفـــــة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَــــا وَيَسْفِكُ الدِّمَــــاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيـــمُ(32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّــــا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(33)- ألبقرة) وواضح فــــــــي هــــذا الامتحــــان أن أفضليـــة آدم على الملائكة تكمن في مستوى القدرة علــــــى ابــــداع المعرفــــة  التي أودعها الله  فيه والتي رشحته لدور خلافة الله على الأرض. القدرة على الابداع هي التي رفعت الانسان إلى ”المقدس“ الاسلامي.    
نجد أيضا في قصة الخلق القرآنية وفي الحديث عن الخطيئة الأولى التي كلفت آدم و حواء الخروج من الجنة بعد تناول الثمرة المحرّمة أنهما تابا إلى الله وأن الله قبل توبتهما مما يعني أن القرآن لا يبرّر ولا يقبل عناء الإنسان في الدنيا للخلاص من إثم الخطيئة الأولى .
و نجد في تلك القصة اختلافا عن مثيلتها التوراتية في المسؤولية عن الخطيئة الأولى. فقد نصّت التوراة على أن الحيّة أغوت حواء التي قامت بدورها بإغواء آدم، مما يجعــــل المــــرأة المسؤولـــة عــــن الخـــروج مـــن الجنـــة ، مما يوجب وضعها في مرتبة دونية ” تكثيرا أكثر أتعاب حبلك. بالوجع تلدين أولادا. وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك“ – سفر التكوين-(11) لكن القرآن سوى بين آدم و حواء في الخطيئـــة (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ) ”البقرة 36 “ (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ...) ”الأعراف 20“.
القرآن ينفي بهذا الأساس الأسطوري الموروث الذي يبرر الوضع الدوني للمرأة و إذا أضفنا إلى ذلك ما حرم القرآن من العادات السابقة عنه التي تحط من القيمة الاجتماعية للمرأة وقيامه بتمكينها بما تسمح به البنية الأبوية القبلية التي نزل فيها  من الحقـــوق، جاز لنا القول بأن تحرير المرأة من الوضع الدوني الذي حشـــرت فيه هــــو مــــن مقاصـــد الديـــن الإسلامي لكن تحويـــل القــــرآن إلى "كتاب للقانون" أهمل هذا المقصد و أصبـــح الحــــد الأدنـــى الذي ضمنه القرآن لها أقصى ما يمكنها الحصول عليه من حقوق. لقد كان المسلمون أولى الناس بريادة الحراك العالمي لتحرير المرأة لو وعوا واعتمدوا مقاصد دينهم.
كانت ســـورة الإخلاص (قل هو الله أحد) أول سورة من القرآن تسمي الله باسمه هذا وتعلن التوحيد بوضوح و تقع في الرتبة 19 حسب ترتيب نزول القرآن الذي اعتمده الدكتــــــور عابد الجابــــري في كتابه ”التفسير الواضح حسب ترتيب النزول“ وركّز ما نزل قبلها من القرآن على الحديث عن الأيتام والعبيد وعتقهم والمساكين والموءودة  ... و هذا يعني أن القرآن عنى أولا بإعلان انحيازه للفئات المستضعفة و قد دعا إلى الجهاد من أجل قضاياها (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ) ”النساء 75“.
 كما أن الآية 157 من سورة الأعراف  تبشّر على لسان موسى عليه السلام برسالة الإسلام وأهدافها قائلة (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) في صيغة مقصديّة واضحة لتحرير الإنسان من كل إصر(الثقل الذي يصعب مع حمله التحرك) و من كل غلّ (ما يوضع على الأسير لمنعه من الهرب) وفي تفسيرها قال الشيخ الطاهر بن عاشور ” على أنك إذا تأملت في حال الأمم كلهم قبل الإسلام لا تجد شرائعهم وقوانينهم و أحوالهم خالية من إصر عليهم مثل تحريم بعض الطيبات في الجاهلية ومثل التكاليف الشاقة عند النصارى والمجوس لا تتلاقى مع السماحة الفطرية وكذلك لا تجدها خالية من رهق الجبابرة وإذلال الرؤساء و شدة الأقوياء على الضعفاء وما كان يحدث بينهم من التقاتل و الغارات و التكايل في الدماء (من الممارسات السابقة على الاسلام و التي تمكن القبيلة الشريفة من قتل 2 من قبيلة وضيعة مقابل قتل فرد ”التوضيح لكاتب المقال“ ) و أكلهم أموالهم بالباطل فأرسل الله محمدا (ص) بدين من شأنه أن يخلص البشر من تلك الشدائد “. 
واضح في كل هذا أن تحرير الإنسان من مقاصد الدين و هذا ما فهمه الشيخ بن عاشور من هذه الآية منذ قرابة القرن بل ما فهمه الخليفة عمر بن الخطاب منذ 14 قرن عندما صرخ في وجه عامله الذي اعتدى ابنه بالضرب على أحدهم ” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا“.
يقرر القرآن بوضوح حرية المعتقد (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ”البقرة 256“ (فَمَنْ شاءَ فَلْـيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْـيَكْفُرْ ) ”الكهف 29“ والآية لا تقول و من شاء فلينافق أي أن الذي لم يشأ أن يؤمن يكون في الصورة التي تقدمها الآية قد أعلن اختياره مما يعني أن القرآن يقر هنا أيضا حرية التعبير عن الرأي 
جاء في الآية 6 من سورة التوبة (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) وهذه الآية تضمن للمشرك حق الأمان وحق طلب المعلومة والحصول عليها. 
هذه الأمثلة جزء من مبحث هام حول حقوق الإنسان في القرآن ومركزيتها في مقاصد الدين الإسلامي التي يجب أن يبدو تأثيرها على فلسفة الإنسان والتي تبين بوضوح أن تمكين الإنسان من حقوقه مقصد من مقاصد الدين الإسلامي وأن هذه الحقوق بما فيها حرية التفكير وحرية التعبير والابداع  جزء من المقدس الإسلامي. 
يعني هذا أن اصدار قانون يجرم المسّ بالمقدسات بالحدّ من حريّة التفكير والتعبير، هو ضرب مقدّس بمقدّس دون أن نقصد بهذه الدعوة التجنّي المتعمّد والمجاني على المقدّسات الدينية. 
 
الحرية المسؤولة هي الحل
 
سيكون وضوح الحد عند النخب والحكام وعامة الشعب بين الحرية والفوضى أكبر تحدّ تواجهه بلداننا التي تعيش تجربة الانتقال الى الديمقراطية وهذا في كل الميادين بما فيها الفن والثقافة والتعبير عموما. فبقدر ما يجب العمل على بث ثقافة تسمح بقبول الاختلاف واحترام رأي وشعور الآخر، بقدر ما سنتمكن من حلّ المشكل المعروض في هذا المقال وغيره من المشاكل دون العودة الى ثقافة دولة البوليس من خلال تشريعات تسمح أكثر من الضرورة بتدخل السلطة التنفيذية و القضائية.