اثراء للنقاش

بقلم
محمد الحمار
أيُشترط أن نكون معتزلة لنقدّم العقل على النص؟

 ليس من الضروري أن يكون المرء معتزليّا قائلا بخلــــق القـــرآن حتى يؤمن بتقديم العقل على النصوص الشرعية عندما يلزم الأمر. فكما ليس هنالك تناقض بين العقل والنقل مع تطويـــع الأول للثانـــي لا تحكيمه عليه، وهو ما جاء به الأشاعرة لتقويض نظريات المعتزلة، يمكن القول إنه بالإمكان اليوم تحكيم العقــــل بالتـــداول مع تحكيم النصّ. ويتم تقديم العقل، في حال قبول مبدأ التداول، من دون الحاجة إلى نسب صفـــة الخلـــق على القرآن الكريم مثلما فعل المعتزلة. فكَوْن القرآن كلام الله وأزلي، وهذه هي الصفة التي أصر عليها الأشاعرة وكافة السلف من أهل السنـــة والجماعـــــة، وهي متناقضة مع كَون القرآن كلام الله مخلوق ومحدث، لا يحُول ذلك دون افتراض أولويـــة العقــل على النصّ. كيف ذلك؟ وما هي تبعات هذا الطرح وآثاره على حياة المسلمين اليوم بما يخدم التقدم، ناهيك أننا في حقبة تتميّز بحكم الإسلام السياسي الإخواني السني الأشعري المرتكز على مقاربة لاتاريخية ؟

 
إنّ فهم منطق المعتزلة رهنٌ بفهم معنى أن يكون القرآن كلام الله و في الوقت ذاتــه مخلـــوق ومحدث أي له زمان ومكان نزَل فيهما وليس أزليا وقديما وأبديا بما يبيح تطبيقه الحَرفي في كل زمان ومكان. وهذا المعنى يوحي بأنّ تفسير القرآن لا بد أن يعتمد أسباب النزول والزمان والمكان، مما حدا بعلماء الإسلام على غرار محمد الطاهر بن عاشور ومحمد الطالبي أن يطوّروا ما يُعرف في عصرنا الحاضر بالقراءة المقاصدية للقرآن الكريم.
 
أما الذي نعتزم عرضه في هذه الدراسة كفرضية آملين أن تُشكّل إجابة أو بوادر إجابة عن السؤالين المذكورين أنفا، فيتلخص في ما يلي:
لأنه لم يتم أبدا الحسم في قضية خلق القرآن لِما انجرّ عنها من فتنة (قطَع معها بصرامة الخليفة العباسي المتوكل جعفر ابن المعتصــم ابن هـــارون الرشيـــد لمّا أعاد الاعتبار لأحمد ابن حنبل بعد كل ما لحق به من ضرر جراء مناهضته للمعتزلة ومن ثمة لمّا أعلن غلق باب الاجتهاد)، قد يساعدنـا التقــــدم الحاصـــل في مجال الألسنيّات وفلسفة اللّغة على اتخاذ "منزلة بين المنزلتين"(إن جـــازت الاستعــــارة المقتبســـة عن الاصطلاح المعتزلي) أواجتهادا ثالثا، كما أسميناه، تكون من أهم فوائده تحقيق أرضية للتوحد اللاهوتــــي و العُقدي بين مختلف المذاهب الإسلامية وبالتالي التفرغ للاجتهاد السياسي لما فيه خير المسلمين والناس أجمعين.
 
بهذا المعنى يمكن تقديم الغاية على الوسيلة. في هذا السياق لاحظنا أنّ المنحى المعتزلي يملك على الأقل غاية منهجية/معرفية جدّ هامة، وهي التي يرنو إلى بلوغها جل المفكرين الإسلاميين. أما هذه الغاية فيعبر عنها محمد أركون كما يلي: " فالقول بأنّ القرآن مخلوق ليس مجرد كلام وإنما هو يعني إدخال بُعد الثقافة واللغة في طرح المشكلة. وهما من صنع البشر لا من صنع الله" (1) ولئن نتفـــق مع أركون بخصوص الغاية فإننا ننقض الجانب الذي يتعلق ببشرية اللغة فيه، كما سنرى لاحقا. لكن لنعُد إلى المبدأ والمنهجية ولننطلقْ من معاينة أنّ السلف والمعتزلة كلاهما يقرّ بأن القرآن الكريم كلام الله مع اختلاف أولئك وهؤلاء في كونـــه قديمـــا وأزليـــا (السلف) أو مخلوقا ومحدثا (المعتزلة). ثمّ لنفصحْ عن اعتقادنا بإمكانية تحويل المشكلة من تلك الحلبة الشائكة لتنصيبها على حلبة تتسم بأكثر احترام لحقّ الاختلاف وبأكثر مرونة وبأكثر وفاق وبأكثر تحرّر. ويكون ذلك وفق الشرح التالي للفرضيّة: القرآن هو كلام الله، ولله سبحانه خلق اللغة في الإنسان ومن أجل هذا الأخير ("وعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا"؛ البقرة: 31) و ("الرَّحْمَنُ عَلّمَ القُرْآنَ خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ"؛ الرحمن: 1- 4). وعلى عكس ما ذهب إليه أركون (في الجزء الأخير من مقولته التي اقتبسناها عنه أعلاه)، هذا يعني أن اللغة عموما، مثل العقل، مخلوقة تبعا لكونها فطرية وولاديّة وعقلية. وهو ما أيده العلم الحديث (نظريات نعوم تشومسكي والمدرسة الولاديّة العقلية) فضلا عن الاستباق التي تتضمنه الآيتان المحكمتان وفضلا عن قول الفقهاء، إذ يقول ابن النجار (الفتوحي) في كتابه "شرح الكوكب المنير": " مبدأ اللغات توقيف من الله تعالى بإلهام ، أو وحي أو كلام  عند أبي الفرج والموفق والطوفي ، وابن قاضي الجبل والظاهرية، والأشعرية . قال في المقنع : وهو الظاهر عندنا لقوله تعالى 'وعلّم آدم الأسماء كلها' أي أن الله سبحانه وتعالى وضعها" (2). إذن بالنسبة لنا ليست المشكلة في زعم خلق القرآن من عدمه أو في زعم أنه ليس كلام الله، معاذ الله، وإنما في لزوم الوعي، من عدمه، بالضرورة العلمية التي تُفضي إلى التسليم بأنّ اللغة مخلوقة. وإن ازددنا ثباتا أنها كذلك يتوجب علينا إثبات أنّ الكلام البشري، على عكس اللغة، ليس مخلوقا. لماذا، لأنّه إن صح هذا الإثبات سيُساعدنا في أمرين اثنين: أولا، سيُعيننا على التمييز بين المخلوق (اللغة) والمحدث (الكلام البشري) وسيكشف لنا طبيعة العلاقة بين ما هو من عند الله (اللغة) وكيفية تطبيق ما هو من عند الله عن طريق البشر (الكلام البشري). ثانيا، سيُعيننا هذا الإثبات على تعميم تلك العلاقة حتى تبلغ أَوجَها حين تصبح المسالة متعلقة بتبيين العلاقة بين الدين، الذي من عند الله تعالى، والتديّن، الذي هو تطبيق بشري خصوصي للدّين. 
 
لاستهلال الإثبات نفترض أنّ التسليم بصفة خلق اللغة (صفتها الفطرية الولادية العقلية) لا يؤدي حتما إلى التسليم لا بصفة خلق الكلام و لا بقدسيته. وما يؤيد عدم قدسيته أنّ الكلام فيه الهام وفيه السام. وبذيء الكلام سام. والسام ليس من الله ولا من الإسلام. ولقد وردت في الحديث الشريف عدة آثار تنهى عن بذيء الكلام. ومن هذه الآثار قوله صلى الله عليه وسلّم :”ليس المؤمن بالطعان ولا اللعــــان ولا الفاحـــش ولا البذيء“ (رواه الترمذي)، وقوله أيضا: ”إنّ العبد لَيَتكلمُ بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا يهوي بهـــا في جهنم“ (رواه البخاري). وإن دلّ هذا على شيء فيدل على أنّ الكلام لا يتمتع بقدسية مسلّمة وبأنّ أمر التعالي والترفع عن بغيض الكلام، بما أنه ضربٌ لفظيٌّ من ضروب من الفحشاء والفجور، موكول للبشر كي ينجزه، كما تفصح بـــه الآية الكريمـــة "وَنَفْــسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" (الشمس: 7- 10). إذن ليست هنالك قدسية مسلّمة مُضفاةٌ مسبقا على الكلام. بل إنّ القدسية تبقى خصوصية أي رهنًا بإرادة المؤمن لنيلها طبقا لِما نص عليه الدين الحنيف. وهذا الغياب للقداســة الكلاميــة مع إمكانية الحصول عليها، بطريقــــة خصوصيـــة، من باب التقوى و الرغبة في إرضاء الخالق سبحانه وتعالى، إنما هي بحد ذاتها وجهٌ من وجوه التديّن. وهذا ما يحملنا على الاستنتاج أنّ الكلام إنما نظيرٌ للتديّن، مع أنه ليس التدين كله. وبالموازاة، نخلص إلى القول إنّه كما أنّ فطرية اللغــــة لا تُفضي حتمـــا إلى فطرية الكلام فإنّ فطريةُ الدّين (أو الميل إلى الدينِ) من الأرجح أن لا تُفضي حتما إلى فطرية التديّن.
 
بالتأكيد، الآن وقد تبيّن أنّ الكـــلام متصلٌ بالعبـــادة (أنه نظير للتديّن) مع أنّ الكـــلام غير مخلــــــوق، فهذا يوحي بأنّ فعل الكـــلام يضاهــــي فعلَ التديّــــن. إذ إنه مادامت اللغة مخلوقة ومُوَلدة للكلام، وما دام هذا الأخير غير مخلـــــوق، فاللغـــة تضاهي الديـــن في صفته الفطرية ("فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ "؛ الروم: 30) وأيضا في صفته الشمولية والعمومية. بيد أنّ فعل الكلام يضاهي التدين في صفته البشرية والخصوصية. وبالموازاة، يمكن بعدُ استشفاف فائـــدةٍ من كل ذلك على المستوى السلوكي التطبيقـــي. وتتمثل الفائـــدة في ما يلي: كونُ اللغة تضاهي الدين وكونُ الكلام يضاهي التدينَ، فإنّ الدين قابلٌ لأن يتم التعامل معه (على واجهة التديّن) بواسطة آليات ألسنية عديـــدة في مقدمها آلية "التوليد والتحويــــل" كما نتعامـــل مع اللغة (على واجهة الكلام) بواسطة الآلية نفسها(النظرية الولادية العقليــــة للمدرســــة التشومسكيــة) من بين آليات أخرى. بكلام آخـــر، إذا تعادلَت اللغـــة مع الدين في صفة الخلق والوحي والفطرية والعقلانية، وإذا تعادل الكلام مع التدين في صفتَي البشرية و الخصوصية، توفرت إمكانيـــة المعادلــــة في مستوى الوظيفة أو الوظائف لدى العنصرين الاثنين المُكونين لكل واحدة من الثنائيّتين. وهذا يندرج ضمن باب النتائج على المستوى السلوكي التطبيقي.
 
 نأتي إذن إلى محاولة إضافية لإثبات العلاقة (التناظرية تارة والتطابقيّة طورا) بين اللغة/الكـــلام من جهة وبين الدين/التدين من جهة ثانية وبين الثنائي لغة/كلام والثنائي دين/تدين من جهة أخرى. والغرض من هذا الإثبات هو بلورة رسمٍ أولي لمنهاج سلوكي وتطبيقي. وسنعمَد هذه المرة إلى شرح هذه العلاقات في ضوء الآلية المركزية في النظريـــة اللغوية الفطرية العقليـــة، ألا وهي آلية "التوليد والتحويل" (نسبة للنحو التوليدي والتحويلي أو النحو الكلّي). قبل ذلك نُحَوصل ما سبــــق لكي نتبيّن الطريـــق إلى استخدام هذه الآلية الألسنية في المجال الديني،  ثم نتمادى بعدئذ في الشرح: رأينا في كلتا الحالتين، اللغوية والدينية، أنه يتوجب التمييز بين صفة الشمولية/العمومية لدى الدين/اللغة، والصفة الخصوصية لدى التديّن/الكلام. ومنه، بعد أن تبين لنا أنّ على عكس الصفة القدسيّة التي يكتسيها الثنائي الدين/اللغة، يبقى الكلام خصوصيا وغير مقدّس مثلما يبقى التديّن خصوصيا وغير مقدّس. كما بينّا أنّ، بهذا المنطق، مادامت اللغة وحيا ("... بإلهام أو وحي أو كلام" كما جاء في كلام ابن النجار) فالكلام وجهٌ بشري لهذا الوحي. وبالتالي تنضاف إلى صفة الخصوصية البشرية التي في الكلام صفةُ الصلة بالوحي. وبهذا يكون الكلام هو الوجه القابلُ للتغيّر والتبدّل على لسان الناطق به، أي الوجه القابل التوليد والتحويل البشري. ونستنتج إذن أنّ عملية التوليد والتحويل ذات صلة بالوحي ولو لم تكن هي بذاتهـــا وحيًـــــا. لذا فهي مُخولــــة لأن تُوظَّفَ في تعامل المسلمين مع الدين بنفس الطريقة التي تُوَظفُ بها في تعامل المتكلم مع اللغة.
 
بادئ ذي بدء، لكي نصل إلى تطبيقــــات لـ"التوليد والتحويـــــل" في مجال العبادة والتجربة الدينية (التديّن) لا بد مـــن مراجعــــة معنى هذه الآلية في مجال اللغة و التكلّم. "التوليـــد والتحويــــل" في اللغة هو الإقرار بأن ظاهر الكــــــلام لا يكفــــي لأداء المعنى الذي يعتزم المتكلم أداءه وبثه إلى المتلقّي. بل هنالك ما أسماه نعوم تشومسكي "النحو الباطني" (ثم طوّرَها في ما أسماه " القدرة التواصلية" ). وهذا النسق الباطنــي يتعلـــــق بعوامـــل عديــــدة في مقدمتها عامل السياق، ولا يمكن التخلي عنه لِما له من صلة عضوية بمدلول الكــــلام ومعنـــــاه ورسالتـــه. أي أنّ "النحــــو الخارجي" (أو "القدرة النحوية") ليس كافيا لكي يكون الكلام كلاما و"الأداء" متناسبا. ولنضرب مثالا على ذلك: لنأخذْ مقطع " فحص الطبيب المريض" (هكذا دون شكل على الحروف، وذلك اختيارا منا بأن تكون الأمثلة مكتوبة لا مقروءة). حينئذ هل تفيد هذه الجملة البسيطة أنّ الطبيب مريض وأنه هو الذي تم فحصه، أم الأرجح أنها تفيد أنّ الطبيب فَحَص شخصا مريضا؟ طبعا أي واحد يقرأها سيتبع الخيار الثاني. لكن السؤال الذي ينبغي طرحه هنا هو الآتي: كيف عرف القارئ (أو المخاطب، في الحالات الأخرى التي تعرِضُ مشكلاتٍ من دون شكل الحروف) أنّ الخيار الثاني هو الأصح إذا لم يكن هذا الشخص متعودا على مثل ذلك السياق وإذا لم يستنجد بمعرفته وبثقافته أي بـ"النحو الباطني" الذي سيُثنيه على فهم الجملة على أنها تفيد "فُحِصَ الطبيبُ المريــــضُ" (بضم الفـــاء في 'فحص' والضاد في 'المريض') وتبقى صحيحة المظهر لكن غريبة المعنى؟ ذلك هو التوليد والتحويل تقريبا. إذن هو مجموع العمليات التي تجري في باطن العقل اللغوي لكلٍّ من الباث والمتلقي حتى يفهمَا بعضهما البعض دون عناء. وعلى هذا النحو يتعرض الناطقون بلغةٍ ما في حديثهم مع بعضهم بعضا، وفي الأدب المكتوب، على تراكيب صحيحة في ظاهرها لكنها من حيثُ المعنى تبقى مبهمـــــة وغامضــــة. وفي ما يلـــي بعض الأمثلـــة على ذلك والتي ستصلح لنا للشرح المقارن الذي سنتولاه في الجزء التالـــي من الدراسة: "إنما يخشى المعلم التلاميذ النجبــاء" (هو يخشاهــم أم هم يخشونه؟ لماذا وكيف؟)؛ "طرق طارق الباب" (اسمه 'طارق' أم سمي كذلك لأنه يطرق؟). هذا إذا لم نعثر على جملة تتسم بسلامة الهيكل لكنها ليست ذات معنى أبدا، مثل ما ورد على لسان نعوم تشومسكي نفسه: " الأفكار الخضراء غير الملونة تنام بشراسة". وفي حال محاكاة هذه العينة الشهيرة ستتكَون لدينا بضعة قطع مماثلة على غرار" اشترى الفيل المتحضر مدينة بسرعة فائقة". وهكذا دواليك.  
والآن ماذا عسى أن يكون الحال لمّا نطبق "التوليد والتحويــــل" في مجال التدين؟ هذا هو مربط الفرس. لنتوخَّ طريقة التماثل ولنبدأ بعرض جملتين دينيتين اثنتين إن صح التعبير، أي وضعيتين متكاملتين تكامُلَ الجملة اللغوية الواحدة. وذلك لكــــي يتسنى لنــــا أن نصدر بخصوصها "تقييما دينيـــا" فـ"حكما دينيــــا تقليديــــا" ثم "حكما اجتهاديا جديدا". بعدئذ سنحاول أن نفهم كل وضعية لكأنها جملة وأن ندرك ميكانزمات التوليد والتحويل أي التبديل والتغييــــر في داخلهــــا، وأخيرا أن نتنـــــاول الفائـــــدة المواليـــة من مثل هذا العمل.
 
 الوضعيـــة الأولى : شاب يصوم شهـــــر رمضــــان ولا يقيم الصلاة.
التقييم الديني: وضعية ناقصة طالما أنّ الصلاة فرضٌ وأن الشاب لا ينجــــزه. بينمــــا صيامـــه مقبـــــول حتى بلا صلاة.
الحكم التقليدي: لا بد أن يُؤمَر الشاب بالمعروف لكي يقيم الصلاة وإلا سينــــال عقــــاب الله. وفي الأثنـــاء، في بعض البلدان، إن لم يمتثل سيَنال ألوانا من العقاب.
الحكم الاجتهادي الجديد: ينبغي تشجيــــع الشـــاب على المداومة على الصيام مع رصد سلوكياته الأخرى التي يبدي خلالها استقامةً وجهدا وعمـــلا صالحــــا ولو كان لا يصلّي. ومن ثمة تحفيزه على المضي قُدُما على درب التقدمية السلوكية التي من شأنها أن تنعكس إيجابيا على مردوده السياسي والاجتماعي وغيره. وإذا انصاع هذا الشخص يومًا ما لأمر الصلاة يكون ذلك من تلقاء نفسه  حين يكون قد وصل نمُوه الطبيعي إلى درجة تسمح بذلك.
 
الوضعية الثانية: مواطن ممارسٌ للدّين بأركانه الخمسة وغالبا ما يخترق الضوء الأحمر عمدا أثناء قيادته للسيارة ولا يتوانى عن تقديم شهادة الزور.
التقييم الديني: يا حبذا لو كان كل الناس يقيمون الدّين مثل هذا الشّخص. أما بخصــــوص السلــــوك فمعلومٌ أنه منبوذ في الإسلام. 
الحكم الديني التقليدي: هذا الشخص مسلم مثالي لكن ينبغي أن يُدعَى له بالهداية. وشهادة الزور من الكبائر إذن فعليه أن يتجنب العَود. أما بخصوص اختراق الإشارة الحمراء فلا توجد علاقة سببية بين هذا الفعل والإيمان.
الحكــــم الاجتهـــــادي الجديــــد: سلـــوك هذا الشخص لا يتناسب مع حال العبـــــادة عنــــد صاحبــــه. إذن هذا الشخص مسلم لكنه غير مؤمن حيث أنّ "الإيمان ليس بالتمني لكن الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العــــمل" (أثر عن الحســـــن البصــري) بينما عملُ هذا الشخص (اختراق العلامة الحمراء وشهادة الزور) لم يصدّق إيمانه.
لذا يتوجب تربية الناشئة على كيفية تغلغــــل العبــــادة في العقل وفي السلوك؛ كما يتوجّب طــــرح مسألــــة القانــــون ودولة القانون، والتفكير في انغراس احترام القانون كقيمة تنتمي إلى الدين. وينبغي أيضا سَن آليات فعالة تدلّ الناس على الطريــــق إلى احترام القانون. و يبقى الزّجر حلاّ لا رجعة فيه لضمان العدل بين الناس كافة.
 
بلُغة الألسنية ومن منظور الباحث نقول إنّ نموذج الجملتين المعروضتين (الوضعية الأولى و الوضعية الثانية) موجود بوَفرة مُلفتةٍ للانتباه، إن لم نقل باعثةٍ على القلق، في المجتمع التونسي والعربي الإسلامي عمومـــــا. أي أنهما جملتــــــان ذاتا شكل سليـــم و "نحو خارجي" صائب. لكنهما في الأصل غير ذاتَي معنى قوي من حيثُ "النحو الباطنـــــي" و"القدرة التواصليـــــة" و"الأداء". وإذا أردنا محاكاة العينة اللغوية التشومسكية التي لا معنى لها أبدا وحاولنا تأليف جملة دينية رديئة إلى أقصى الحدود من الصنف الذي نخشى أن يجيء اليوم الذي يتحقــــق فيه معناها حقــــا، لحَصلنا على هياكل مثل تلك الأمثال الشعبية عندنا من سلالة "يؤدون الفرض وينقبون الأرض" أو"نفسي نفسي والله لا يرحم من مات" أو من قبيل ذلك الأثر الجاهلي الذي لم ينقرض سلوكيا من حياة المسلمين "اليوم خمرٌ وغدا أمرٌ". فالرسالة التي نرغب في تبليغها هاهُنا هي أنّ الحالات التي تتضمنها تلكُم الجمل الدينية متسقـــــة مع ذاتها (جُمل سليمة المظهر) بصفة لا تمنع الباحث من اعتبارها ضربا من ضروب التديّـــــن، إلا أنها ليست حجـــة علــــى الدّيـن. وإلا، وبلغة الدّين والفكر الدينــــي، ما الداعـــــي لأن يقلق الباحـــث و يتضجر فيسعى إلى البحث عن مخرج لأزمـــة عــــدم الاتســاق بين سلوك المسلمين و عقيدتهم، وعدم انسجام فعلهم مع قولهم؟ بكلام آخر إنّ المطلوب إنجازه تربويا وفكريا في مثل الوضعيتين الموصوفتين هو فتح أبواب جديدة في البحث عمّا يمكن إنجازه بنجاعة وفعالية لكي تدنو لدى المؤمن "الشريعـــــة الخارجيــــة" إن صح التعبير (تماثلا مع "النحو الخارجي") شيئا فشيئا وقدر الإمكان من "الشريعة الباطنية" (تماثلا مع "النحو الداخلي")، ولكي تدنو "القدرة التواصلية والوظيفيــــة الدينيــــة" (القـــدرة على التفاعل مع النص بعقلانيــــة محدثـــة) من "القدرة الدينية الصرفــــة" (معرفة المسلم بالنــــص الدينـــي المصـــدري).
وتكون من نتائج هذه العملية التوحد الذاتي للمتعبد مع تأصيل صفة التمييز بين الدين والتديّن لديه حتى يكون قادرا على وصل كلاهما بالآخر بما يجسّد التوق نحو الطهوريّة الدينيّة. وليست هذه الصفة الأخيرة منافية للعقلانية، كما قد يتراءى، بل تلك هي العقلانية لدى المسلمين. وتلك هي الحرية من منظور المسلمين. وهي حرية يتحكم بها قانون الجدلية والتفاعل بين النص والعقل.
 
بعد أن فرِغنا من باب المبادئ ووصف أصول المقاربة وعرْض عينات من التفسير والاجتهاد، نطرق الآن باب العلاقة بين المنهاج  الجديد والمقاربات التقليدية. في هذا السياق لنتفقْ أننا لا نقصد تفسير النصوص الشرعية أو الاجتهاد الفقهي بقدر ما نقصد تفعيل ما هو مفسر. حيث إنّ كتب التفاسير تزخر بمادة لا تزال صالحــــة من حيثُ المعاني لكنها غير جاهزة للتطبيق في الحياة اليومية للمسلم. لذا نعتقد أنه عِوضا عن اللهث وراء ما يسمى بـ"قراءات جديدة" للإسلام وللنصوص الشرعيـــة، الأجدى تفعيل ما توفــــر من تفاسير حتى تتشكل لدى المرء المُتابع لطريقة التفسير القدرةُ (التواصلية) على إنجاز قراءة تحررية بنفسه. إذ إنه لمّا نُقر بوجود تفاسير غير مطبقة فإننا نُقر بأنّ المَنفعة الحاصلة من تلكم التفاسير في ما مضى من الزمان لا يمكن أن تكون تبخّرت. بل هي ثابتــــة في التراث وفي الثقافة وفي الذهنية وفي النفسية لدى المسلمين. إذن لمّا يتم تفعيل التفاسير بفضل مقاربة تكون عملية وتجريبيـــة من باب أولى وأحرى مثل تلك التي شرحناها، نكون قد ساعدنا المسلمين على تلمّس السهول والهضاب والمنحنيات والمنحدرات التي لم تطأها أرجلهم أبدا بالرغم من أنّ كل تلك المساحات تنتمي إلى تربتهم الثقافية والتراثية الأصلية .
 
 ولا يقصي هذا الاجتهادُ التفسيرَ المتعارف الذي يُنجَز بفضل الوسائل العقلية/النقلية المألوفة لدى السلف الصالح ولدى مختلف المدارس الفقهية. فطالما نسلم بأن العقل مخلوق واللغة مخلوقة وطالما أنّ اللغة عقل/عمل، يكون التفسير النمذجــــي والتفاعلـــي الذي نحن بصدد عرضه تفسيـــرا عقلانيــــا/ عمليـــا. كما أنه سيكون بالموازاة تفسيرا دينيا طالما أن الإسلام دينُ عقل ودينُ عمــــل. وهو تفسيــــر دينيٌّ أيضا لأنّ التداول بين التناظر والتطابق (دين/لغة؛ تدين/كلام) سيسمح بالجدلية والتفاعل الضروريين بين العقل والنص. وقد نكون بذلك قد خطَونا شوطا مُهما نحو حسم الخلاف التاريخي بين العقيدة السنية الجماعية الأشعرية القائلة إنّ القرآن الكريم "كلام الله تعالى (...) وأنّ هذا الذي نسمعه حكاية كــــــلام الله تعالـــى" (3) وبين العقيدة المعتزلية، والشيعية، القائلة إنّ القرآن الكريم "كلام الله (...) وإذن هو الذي نسمعه اليوم ونتلوه" (نلاحظ أنه لم يكتب "حكاية كلام الله") (4). فمسألة "حكاية كلام الله" (عند أهل السنة) مِن عَدمها (عند المعتزلة) باتت رهنٌ بحُسن استخدام منهاج التناظر والتطابق بين اللغة والدين وبين اللغة والكلام من جهة، ومن جهة أخرى بين التطبيقات المتعددة والمختلفة التي ستُسفِرُ عنها النمذجة في مجال التفسير والاجتهاد السياسي: بين العقل والنـــــص وبين الحَرفي والتأويلي وبين الظاهــــــر والباطـــــن وبين التوقيفي والوضعي وبين الشريعة والقانون.
 
وها نحن الآن على مشـــــارف الوضــــع الحضــــاري في تونس وفي البلاد العربيـــــة والإسلاميــــة عموما أين لم تُحسم بعدُ مسألة العلاقة بين النقل والعقـــل وبين الدين والسياسة وبين الدين والدولة وغيرهــــا من العلاقات التي باتت غير متسقة لا مع واقع مجتمعاتنا ولا مع تطلعات شعوبنا نحو النهوض والرقي. وأمام الإمكانية المتوفرة لمزيد بلورة الاجتهاد الجديد أو شابهَه، حَـــريّ بالحكومــــات الإسلاميـــة التي تمارس السلطة الآن في كل من تونس ومصر فضلا عن أقطار مثل السعودية والسودان جرّبت الحكم بالشريعة الإسلاميـــــة أن تنكبّ علــــى دعم وتطويـــر أي نموذج جديـــــد من شأنـــــه أن يحقق المصالحـــة بين المسلميـن وذواتهم وبين المسلميــــن وواقعهـــم . فهي حكومات انقادت إلى ارتداء عباءة الإيديولوجيا الدينية بلا علمٍ يسندها. وبالتالي لقد حان الوقت لكي تستثمر هذه الحكومات وتُشجع استثمار الجهد والوقت والمال في مجال عقلنة التدين. ولا يكفي أن تزعم الحساسيات الدينية الحاكمة أنّ شرعيتها العلمية مستمدة من العلوم الشرعية لكي يقبلها المجتمع العربي المسلم. فالعلم الشرعي شيء والعلم/الفقه الحضاري شيء آخر. مع العلم أنّ المشكلة الحضارية التي نعاني منها تتطلب حلا من صميم فقه الحضــــارة لا من فقه الدين فحسب. بل قُل إنّ الفقه الديني بات تابعا لفقه الواقع. أي أنّ ازدهار الفقه الديني والاجتهاد فيه رهنٌ بتجديد الفكر الإسلامي، من خارجه لكن من داخل الثقافة الخصوصية مع التفاعل الجدي إزاء الثقافة العالمية.
أما السبب في لزوم تبعية الفقه الديني لفقه الواقع هو طبيعة المشكلة بالأساس: المسلمون ناقصو عقلٍ لا ناقصو دينٍ كما يُظن. وقد رأينا في سياق متصل كيف أنّ إقحام فلسفة اللغة في عملية بناء قراءات ذاتية للإسلام بات أمرا ملحّا. ذلك لأن من شأنه أن يبرز جدارة المسلمين بعقلانية متجذّرة في ثقافتهم. والأمر ملح لأننا أيضا بحاجة إلى غزوِ حقول معرفية جديدة من منظور الفكر الإسلامي، بفضل عقلانيته المستردّة، سيما وأنّ ذلك سيتم بفضل أداةٍ (اللغة) تبيّن أنها لا فقط ليست بغريبة لا عــــن الفطــــرة ولا عن العقــــل ولا عن اللاهوت الإسلامي ولا عن تاريخ المسلمين ولا عن ثقافتهم، وإنما هي أقرب قوة إلى حبل الوريد بعد الله تعالى.
 
أخيرا وليس آخرا، وبعد أن عرضنا نموذجـــا لكيفيـــة المداومــــة على التدين بالإسلام لكن بوعي متجدد، السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بكيفية إيصال النموذج إلى الخاص والعام من العباد. بكلام آخر، كيف يمكن إيصال آليات المنهاج الاجتهادي إلى شرائح المجتمع كافة، سيما وأنّ المنهاج يتوسم تشريك عامة الناس فيه؟ للإجابة يمكن القول إنّ الإصلاح هو المدخل إلى التحرر بفضل الاجتهاد الذاتي، سيما وأنّ مادة الإصلاح المقترح (اللغة) هي نفسها منهجيته (النمذجة اللغوية). وهذا ما سيضمن حظوظا وافرة لاستساغة هذا الصنف من الإصلاح دون سواه. وذلك لسبب منطقي. نحن في تونس، وفي بلاد كل المسلمين تقريبا، نعاني من اختلال التوازن بين النظري والتطبيقي. إذن لا نخشى من الجزم بأنّ أفضل طريقة تساعدُ مجتمعات بلداننا، أفــــرادا وجماعـــات وسلطـــة، على ممارسة القناعة القائلة بضرورة مطابقة النظري مع التطبيقي، هي إنجاز الإصلاح اللغوي. فاللغة بوابة مشتركة بين المؤمن والملحد، وبين السني والشيعي وبين المسلم والمسيحي وسائر البشر، وبين العروبي والفرنكوفوني، وبين اليمينــــي واليســــاري. كما أنّ اللغة مدخلٌ لإصلاحات عدة، بدءً بالتربية والتعليم ومرورا بالاتصال والإعلام وانتهاءً إلى السياسة الكبرى. إذن متى نكون جملة مفيدة في نص الحضارة؟
 
المراجع
 
(1) ذكره د. فتحي بوعجيلة في مقال له نشر بجريدة "المغرب" بتاريخ 11-7-2012 ص 20-21
(2) عن موقع "إسلامواب"
(3) كما نستشفه مما كتبه عبد الجبار المعتزلي واصفا موقف الكُلابية (فرقة من أهل السنة والجماعة) في كتاب "شرح الأصول الخمسة" ص 528، مكتبة وهبة، القاهرة.
(4) المرجع عدد (3)