بحوث ودراسات

بقلم
د. مصباح الشيباني
تقرير حول أطروحة دكتورا في علم الاجتماع : « المؤسسة التربوية التونسية: طرق تنظيمها وآليات تسييرها و

 الإشكالية التي انطلق منها الباحث هي:

إلى أيّ مدى يمكن القول إنّ ديناميّات "الإصلاح التّربوي" الجديد من حيث الضّوابط التّنظيميّة وآليات التّسيير الإداري قد حقّقت تغييرا نوعيّا في المشهد التّربوي والتّعليمي التّونسي في اتّجاه بناء أنماط مؤسّساتيّة وعلائقيّة واجتماعيّة ومهنيّة تتّسم بالجودة والتّميز؟
أي هل إنّ آثار هذه التّغييرات القانونية تُعدّ فعلا تجديدا أم هي مُفضية إلى العرقلة وعدم الاستقرار المؤسّساتي؟
 وتمحورت الأطروحة حول المستويات التالية:
(1) البحث في الحقل التشريعي – النسق القانوني- المدرسي الذي يمثّل أحد حقول الصراع الاجتماعي. وذلك من خلال البحث في مدى "مرونة" الأنظمة الإداريّة السائدة وتأثيراتها على العلاقات بين الفاعلين الاجتماعيين في المؤسسة التربوية.
(2) البحث في مسارات هندسة المشهد التّربوي الرّاهن وعلاقته بطرق اتخاذ القرارات وتنفيذها. والبحث في هذه العلاقة على المستويين الماكرو (macro) والميكرو-سوسيولوجي (micro) من خلال البحث في طبيعة هذه العلاقة وضمن المتغيرين الاجتماعي والتّربوي-المدرسي. 
(3) تحليل الخطاب الرسمي في التّربية والتّعليم وكشف ما يتسم به أحيانا من حالات التعميم واعتماد البلاغة اللفظية في تناول القضايا التّربوية والتّعليمية عبر بعض الشعارات لعل أهمها : تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعيّة ومجانية التّعليم وجودة التّعليم...الخ في إطار سعيه الدائم إلى تبرئة نفسه من أي اتهامات بالتقصير أو التراجع عن بعض "الثوابت" أو المبادئ التي كفلتها القوانين الوطنية والاتفاقيات الدّولية.
 (4) الإسهـــــام في عــــرض الآراء والسجـــالات Les discours)) التي تمت ومازالت حول "مشروع مدرسة الغد" وإبداء الرأي حولها برؤية علمية فاحصة ونافذة وناقدة، مثيرا ما أمكن من التساؤلات، ومشيرا إلى بعض السلبيات أو الايجابيات، وإلى الصعوبات التي تعترض هذه التجربة في عمقها الحضاري والسوسيولوجي والثقافي. 
(5) البحث وطرح التّساؤلات السوسيولوجية حول الثّقافة والقيم التي توجه سلوك الفاعلين حتى نتبين ما وراء الآليات القانونية والمؤسّساتية من رساميل اجتماعيّة وثقافية ورمزية فاعلة في توجيه الصراعات والتفاعلات اليومية بالمؤسّسة التّربوية التّونسية. 
 فالهدف الأساسي لهذه الدراسة هو الكشف عن طبيعة الأوضاع المهنية والتشكلات المؤسساتية والثقافية في الحقل التربوي التونسي التي تراكمت وترسبت وأصبحت واقعا معقدا ومتشابكا ويحتاج منا أن نعيد إدراكها علميا من أجل أن نغيرها إيجابيا. 
 
البـــاب الأول
الإصلاح التّربوي وواقع اشتغال المؤسّسة التّربوية التّونسية
  
في إطار إرساء قواعد الإصلاح التّربوي الجديد، قامت وزارة التّربية والتعليم بمقتضى قانون جويلية  2002، بوضع المعايير التّنظيميّة والتدابير الإجرائية لإرساء نظام تعليمي جديد. وحسب الوثيقة المرجعية لمدرسة الغد 2002ـ2007 فإنّ"مدرسة الغد هي مسار إصلاحي تجديدي ومنهجية للتحول والتطوير المستمر. وهي تقوم على آليات كفيلة بجعلها تتفاعل مع المستجدات المعرفية والتكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية وتتلاءم مع حاجيات البلاد ومقتضيات العولمة".(ص 07)
أما الأهداف العامّة للنّظام التّربوي الجديد فقد تضمنتها مختلف المرجعيات والوثائق المدرسيّة  وهي:
1ـ تعبئة الإطار التّربوي حتى ينخرط في مشروع مدرسة الغد ويتحمس لإنجاحه،
2ـ تحسين مردود المدرسة، كما وكيفا، والتصدي لمختلف أنواع الفشل المدرسي،
3ـ إرساء تعليم يضمن جودة مكتسبات التّلاميذ ويعدهم لمتطلبات عالم الغد وبناء مجتمع المعرفة،
4ـ الإرتقاء بالحياة المدرسيّة وتحسين المناخ المدرسي حتى تكون المؤسّسة التّربوية فضاء للعلاقات البشرية السليمة وللتعايش والتّكافل والعمل يجد فيه كل طرف أسباب تحقيق ذاته.
5ـ تدعيم اللاّمركزيّة بما يسمح للإدارة الجهوية والمؤسّسة بوضع مشاريعها المميّزة في إطار الأهداف الوطنية،
6ـ إدخال مزيد من المرونة على مستوى تنفيذ البرامج التّعليمية والتنظيمات البيداغوجية والأنساق المدرسيّة والتصرف الإداري والتكوين المستمر.
 
 أولاـ الهيكلة الجديدة لآليات التّسيير المدرسي
 واكراهات التّفعيل
 
 لتنفيذ "مشروع مدرسة الغد"، قام المشرّع التّونسي بإرساء هيكلة تنظيميّة جديدة بالمؤسّسات التّربويّة تتمثّل في مجلسين هما :"مجلس المؤسّسة" و"المجلس البيداغوجي للمدرّسين" الّلذان يشتركان كلّ حسب مشمولاته "الاستشاريّة" في وضع مشروع المدرسة وتقييمه وتعديله عند الاقتضاء. (1)
فمجلس المؤسّسة يمثّل حسب ما ورد في القانون التربوي الجديد خطوة على درب تحديث المنظومة التّربويّة وتطويرها. ويتنزّل إحداث هذه المجالس في إطار اعتماد مقاربة جديدة للعلاقات بين مكوّنات الأسرة التّربويّة قوامها الحوار والتّشاور والاحترام المتبادل. وهذا ما نص عليه أيضا "الأمر المنظّم للحياة لمدرسية" وذلك من خلال تأكيده على إنّ مجلس المؤسّسة يشكّل تحوّلا حقيقيّا في تاريخ المدرسة التّونسية وخطوة هامّة لإرساء ثقافة جديدة في مؤسّساتنا التّربويّة.(2)
  تبدو هذه الهيكلة الجديدة في الظّاهر على إنّها تكريس لديمقراطية التّعليم، وحدّ من "مركزيّة" القرار التّربوي وإضفاء للمرونة على سير تشكّلات الفعل التسييري في الحقل التّربوي وتتنزّل ضمن حرص الدولة على تجويد الأداء التّربوي، لكنّها بمجرّد محاولة أجرأتها عمليّا، تفقد معناها الحقيقي ويتبيّن عدم تناغم أغلب ممارساتها مع أهداف الاصلاح التربوي الجديد. إذ فشلت في بناء ثقافة تشاركية حقيقية تجمع مختلف الأطراف في إطار هيكلي "مجلس المؤسّسة" و"المجلس البيداغوجي"، ولم تتمكن هذه المؤسّسات أيضا من بناء مشاريعها التّربويّة محيطها ومازالت تعترضها عديد الصّعوبات والعوائق من أهمّها:
 1ـ إنّ إحداث هياكل برمجة وتخطيط وتسيير وتنفيذ في مستوى كل مؤسّسة تربوية، إجراء لا ينكر أحد دوره في جعل الشّأن التعليمي وثيق الصّلة بالواقع التّربوي في خصوصيّته وحاجاته، وأقرب إلى القائمين عليه من إطار تربوي (مدرّسين ومؤطّرين وموظّفين وعملة وأولياء) وقد يحفزّهم إلى المشاركة الفعليّة في إنجاح المشروع التّربوي. بينما هامش القرار الممنوح لكل هؤلاء لا يتعدّى حدود ما يمكن أن نسميه بـ"الاستشار الممنوحة" (المقيّدة) لهذه الهياكل الجديدة. في حين بقيت كلّ المسائل التّربويّة الرّئيسيّة من برامج وتنظيم وتسيير تتولاّها الهياكل الإداريّة الجهويّة والمركزيّة، وهو ما يجعل من هذه المجالس وكلّ ما تصوغه من تصوّرات أو ما تقترحه من حلول للنّهوض بالتربية مجرّد مقترحات خالية من أيّ فاعليّة حقيقيّة في تنظيم المؤسّسة وتسييرها.
 2ـ لقد كانت هذه المشاركة على مستوى البرامج شكليّة لأنّ سلطة الإشراف كانت قد اعتمدت التّنقيحات قبل أن تستشير المنظّمة النّقابية. وبالتّالي فالأيّام الدّراسيّة التي نظّمتها النّقابة على امتداد سنتين، لم تكن سوى مضيعة للوقت لأنّ الوزارة ماضية في مشروعها مهما كانت نتائج تلك الاجتماعات مع ممثّلي الأساتذة".هكذا عبّر لنا أحد النّقابيين.
3ـ إنّ تنصّل الدّولة من دورها الاجتماعي في التّربية والتّعليم يجعـــل
 مشروع المؤسّسة ومجالسها خاضعة لضغوطات المانحين والمموّلين ولاملاءاتهم، ويجعل من هذه الجهات المستثمرة في الحقل التّربوي، هي الموجّهة والمحدّدة لخيارتها التّربويّة (البرامج الدّراسيّة، الزّمن المدرسي، نظام الشّراكة والتّسويق..). كما يفسح المجال واسعا أمام مظاهر المحاباة والمحسوبيّة والولاءات الشّخصية لأصحاب النّفوذ، ومن ثمّ تترسّخ في المدرسة قيم مدرسيّة جديدة مثل: الرّشوة، والانحلال الأخلاقي...الخ.
 4ـ في ما يتعلّق بمنح الأولياء صلاحيّات أوسع ودورا أكبر في تصريف الشّأن التّربوي: لاشكّ أنّ الوليّ أو الأسرة تمثّل حلقة أساسيّة في العمليّة التّربويّة يمكن أن تساهم في إنجاح أداء المؤسّسات التّربويّة من خلال توجيه منظوريها وتأطيرهم على نحو ييسّر عمليّة اندماجه في المدرسة وتواصله مع بقيّة الأطراف الأخرى داخلها. بينما هذا الدّور لا يمكن أن يثمر إلاّ إذا كان المحيط الحاف بالمدرسة سليما، وأداء هياكل المؤسّسة التّربوية متناغما ومتكاملا وهو أمر مفقود في واقعنا الحالي. 
 إنّ المقاربة التّشاركية في المدرسة التونسية مازالت مفقودة وتتوقّف على مدى نشر ثقافة الإبداع لدى مختلف الفاعلين من داخل المؤسّسة ومن خارجها وفق الأهداف التّربوية العامّة. وتقتضي أيضا أن تعتمد الإدارة منهج التّسيير الفرقي، وعلى قاعدة القيادة الجماعية للمؤسسة. وحتى تتحوّل إلى آليّة لتحسين الأداء المدرسي عليها أن تؤسّس قيم التّشارك وتبني ثقافة التّعاون والتّكامل بدل ثقافة التّوجيه والإقصاء والتّهميش، وذلك على المستويين التّنظيمي والإجرائي.
من خلال ما توصّلنا إليه من معطيات وآراء سواء من قبل المدرّسين أو القيمين، نجد أنّ هناك شبه إجماع على أنّ هذا المشروع تعترضه عدّة صعوبات وتحدّيات حتى تتمّ أجرأته عمليّا بمؤسّساتنا التّربوية. فهناك فرق بين ما هو منتظر أو مؤمّل من هذه الإصلاحات القانونيّة، وبين ما هو سائد فعلا في واقع حال هذه المؤسّسات. 
فقد تميّز الوضع التّربوي بـ:
(أ)  سيطرة الهياكل المركزيّة والجهويّة التّربوية في عمليّة اتّخاذ القرارات التّرتيبيّة والتّنظيميّة، ممّا حول "الصّلاحيات الاستشاريّة" لآليّات تسيير المؤسّسة المنصوص عليها في مختلف القوانين، إلى آليات شكلية ولم تكن لها أي فاعليّة حقيقيّة في تحقيق أهداف هذه التّغييرات،
(ب) عدم التّحديد الدّقيق لوظائف مختلف الأطراف المتدخّلة في الحقل التّربوي ولمسؤولياتها، أنتج حالة من اللاّمبالاة، وجمودا في العلاقات التّفاعليّة بين هذه الأطراف،
(ت) جمود وعدم مرونة هذه العلاقات الاجتماعيّة والمهنية داخل المؤسّسة ومع محيطها الخارجي، أدّى إلى الشّعور بانحلال هذه العلاقات وفتورها وعدم تكيّفها مع متطلبات تغيير آليات تسيير المؤسسة وفق المقاربة التشاركية . 
 
 ثانيا- تجليات أزمة التّسيير الإداري
  
 ومن أهمّ تجليّات هذه الأزمة نذكر:
 
أ ـ أزمة في الوظائف (المهام): 
  فالمدير لايعرف الدّور الوظيفي المطلوب منه على وجه التّحديد وطرق التّعامل مع المحيطين به. فأغلب المهام الموكولة إليه غير واضحة وغير دقيقة، بل وتتعارض في ما بينها أحيانا. كما لا يتمتّع المدير في معظمها بالسّلطات الكافية لتنظيم عمل المؤسّسة وللقيام بمسؤوليّاته التّربوية. وتمارس عليه الضّغوطات من أطراف عديدة- داخليّة وخارجية- لايعرف بالضّبط من المسؤول المباشر أمامه عن العمل الذي يقوم به. 
ب ـ أزمة في الشرعية:
  يواجه مدير المؤسّسة التّربوية يوميا عددا من القضايا والمشكلات التي تقف عاجزا أحيانا عن معرفة طرق التّعامل معها خاصّة إذا كانت هذه المشاكل لا تتعلّق بالمسائل التّربوية. وتتمثّل في التّعارض بين المسؤوليتين –الإدارية والسياسية- أدّت إلى تأزّم الوضع التّربوي لأن العلاقة بينهما عادة ما تكون غير متوازنة وذلك حسب قوّة الرّهانات المتوفّرة لكلّ منهما. 
ت ـ أزمة في الاستقلاليّة: 
  على المستوى القانوني يتمّ اختيار " إطار الإشراف" الإداري عن طريق "التّعيين". وهي آليّة ليست قانونيّة فحسب، بل تمثّل في عمقها السّوسيولوجي آلية اجتماعيّة-ثقافية تساهم في إرساء نمط علائقي بين الأطراف التّربويّة الفاعلة وفق مبدأ "الولاء" وتبعيّة المرؤوسين للرّؤساء المباشرين بما إنّ هذه الخطط الوظيفيّة هي عبارة عن "هبة"  un don)) تتفضّل بها الإدارة تتفضّل بها الإدارة الجهوية والوزارة إلى من والاها شخصيّا، وجعلت منه شخصا مدينا طوال تجربته المهنيّة لمن تفضّلوا بتعيينه. وبالتالي تحوّلت العلاقة بين الطّرفين من علاقة وظيفيّة رسميّة (مهنية) إلى علاقة اجتماعيّة ولائية تقوم على التّبعيّة الشّخصيّة وتقتضي تبادل المحاباة والحظوة مقابل الولاء والمساندة بينهما. وعلى الرغم من إنّها غير ظاهرة ومسكوت عنها، إلاّ إنّها مازالت فاعلة في إعادة هندسة المشهد التّربوي التّونسي. لذلك، فقد أدّت حالة التبعية إلى الإدارة المركزية إلى "شخصانية" التّغيير المؤسّسي وهيمنة ثقافة القائد "الفرد الرّمز" يصعب على جميع المسؤولين تجاوزها سواء في الأعمال التّنظيميّة، أو في عمليّات التّعيين والاختيار لإطار الإشراف الإداري. خاصّة لمّا أصبحت الوظيفة السّياسيّة للمدرسة في صدارة اهتمام هؤلاء المديرين على حساب المجالات الاجتماعيّة والتّربويّة. لذلك أنتج هذا النّهج ضعفا وهشاشة في تسيير المؤسّسات. وأدّى كذلك إلى غلبة الطّابع البيروقراطي على مختلف عمليّاتها الإداريّة والتّنظيميّة، وإلى تواصل سيطرة الإدارة المركزيّة على تشكيل آليّات اشتغالها الحقيقيّة.
 
    الباب الثاني
 إعادة تأهيل المؤسّسة التربويّة في ظلّ العولمة: 
مفاهيم وأساليب جديدة
حاول فيه الباحث تناول مكونات"مورفولوجيا الإصلاحات التّربوية" الجديدة التي تضمّنتها مختلف السّياسات والقوانين الأساسية والبرامج الدّراسيّة والمناهج التّعليمية الجديدة. وهي جزء من مورفولوجيا التّغييرات الحضارية الكبيرة التي شملت مختلف مناحي الحياة الاقتصاديّة والمهنيّة والثّقافيّة والسّياسة والتّكنولوجيّة في المجتمع العربي. 
والإشكالية التي انطقت منها هذه التغييرات هي كيف يمكن لـ"مدرسة الغد" أن تكون "مدرسة للجميع" وتكون مدرسة "الجدارة والامتياز" في الوقت نفسه؟
 
  أولا: الجودة في التّعليم: دلالات المفهوم وتجليّاته.
 
يتنزّل هذا الاهتمام بمقاربة جودة التربية ضمن البحث العالمي في مسألة التّكلفة لهذا الحقل، وظهور مجال جديد يدعى "اقتصاديات الجودة" الذي يحاول من ضمن اهتماماته أن يبيّن تأثيرات الجودة التّربوية بالمال والجهد والوقت. فقد كشف عديد الباحثين أنّ مجرّد توسيع التّعليم وانتشاره لا يضمن عوائده، وإنّما تتوقّف العوائد كمًّا وكيفا على مدى دقة تخطيط التّعليم وحسن إدارته. لهذا يتطلّب تأهيل المؤسّسات التّربويّة القيام أولا بتأهيل مواردها البشريّة من حيث التّكوين واستيعاب التكنولوجيا وطرق العمل الحديثة قصد تحسين قدرة المؤسّسة التّربوية على الرّفع من مردودها.
ولهذا، فإنّ انتقال مفهوم الجودة من عالم الاقتصاد إلى عالم التّربية يفرض علينا الانتباه إلى المسائل التّالية:
* عندما ينتقل هذا المفهوم إلى مجال التّربية، فإنّه يصبح مفهوما معقّدا، متعدّد الأبعاد ونسبيّا ومتغيّرا،
* لكي نسيطر على هذا المفهوم في مجال التّربية والتّعليم ونوظّفه لفائدة تطوّر مؤسّساته، لا بدّ من ترجمته إلى مؤشّرات مدرسيّة قابلة للملاحظة والقيس. 
* هل إنّ قضيّة الجودة في المدرسة (كما في الاقتصاد) هي قضيّة تقنيّة (السّيطرة على التّكنولوجيا) وكمّية( زيادة الإنتاج وتحسين النّتائج..). أم هي قضيّة كيفيّة تتمثّل بالأساس في تغيير عقليات العاملين بالمؤسّسة؟،
* إنّ متابعة مفهوم الجودة في المدارس والمعاهد، يقتضي دراسة الوضع التّربوي التّعليمي بهذه المؤسّسات، ووضع الخطط والبرامج (السياسات) التّطويرية الشّاملة للاستجابة إلى مختلف متطلّبات مواصفات الجودة. ولن يتمّ ذلك إلاّ وفق إعداد "دليل" (guide) للجودة المستهدفة في هذا الحقل. ويجب أن يستهدف هذا الدّليل مختلف خصائص ومميّزات المؤسسة التّربوية من حيث الهيكل التّنظيمي ومن حيث توزيع المسؤوليات والصّلاحيّات التي يتولاّها جميع العاملين بالمدرسة.
لقد ركّزت السّياسات التربوية التونسية منذ الاستقلال اهتمامها على التّطوّر الكمّي وعلى استيعاب عدد من التّلاميذ الذين هم في سنّ الدّراسة كأولى الأولويّات، ومازال الخطاب الرّسمي إلى حدّ اللّحظة، يمجّد انجازاته الكمّية ويركّز على بعض المؤشّرات الإحصائيّة، ولا يأخذ في اعتباره الأبعاد الكيفيّة أو النّوعيّة في النّهوض بالتربية. وهذه المسألة تكشف مدى التّطابق أو الاختلاف بين ما أوصت به استراتيجيات تطوير التعليم في الوطن العربي، وبين ما تعيشه مؤسّساتنا التربوية من تفكك وانهيار مادي ورمزي.
  فتوسيع التّعليم وفتح باب الالتحاق بالمدرسة للفتاة ولأبناء الفئات الضّعيفة، لا يعني أن جميع المتعلّمين توفّرت لهم حظوظ متكافئة في التمتّع بهذا الحقّ، لأنّ الاعتراف بالحقّ في التّعليم لا يعني توفّر جميع شروط ممارسة هذا الحق في الواقع. باعتبار إنّ تبنّي مبدأ "تكافؤ الفرص التّعليميّة" يقتضي فتح المدرسة أمام الجميع وتمكينهم من نفس المعارف وفي نفس الظّروف المادّية والمعنويّة، أي الالتزام بمبدأ "الاستحقاقيّة" حتى يكون النّجاح مرتبطا بقدرات المتعلّم وانعكاسا حقيقيّا لكفاياته التّعليميّة وقدراته الشّخصيّة. 
 
النتائج: نظام تعليمي يكرّس منطق
الاصطفاء الاجتماعي
 
  يستهدف الإصلاح التّربوي في تونس حسب ما ورد في الخطة التنفيذية 2002 - 2007 تحقيق مبدأ "تكافؤ الفرص" والإنصاف بين الجهات والمدارس وضمان تربية جيدة للجميع. حيث تؤكّد هذه الوثيقة على إنّ أداء النّظام التّربوي لايقاس بنسب التّمدرس فقط، وإنّما بالمكتسبات الجيدة، وباعتبار الفوارق بين التّلاميذ وأنساقهم المختلفة في التعلم.(3)
   فهناك معادلة صعبة تواجه الموقف التّربوي اليوم، وهي ضمان التوازن بين تراجع ميزانيات التّربية والتّعليم من ناحية، وضمان الجودة والتميز من ناحية ثانية أي كيفية تجاوز المفارقة بين مبادئ تعميم التّعليم ومجانيته وبين ضمان تطوره وتحسين مخرجاته. وتتجسد هذه الفوارق التّربوية والتّعليمية من خلال عدة آليات أهمها:
 
 4- 1- المدارس الإعدادية النموذجيّة
 
 تم إحداث ما تسمى بـ"المدارس الإعدادية النموذجية" التي بدأ العمل بها خلال السنة الدّراسيّة 2007-2008.
  لقد تمّ بعث هذه المؤسّسات، حسب الخطاب الرسمي، من أجل الارتقاء بالتّعليم الإعدادي إلى مراتب الجودة والامتياز..وتحقيق النقلة النوعية والشاملة لتأهيل المدرسة التّونسية والارتقاء بدورها إلى مستوى المعايير العالمية. ويؤكّد هذا الخطاب أنّ مبادئ "الإنصاف في التمدرس وتكافؤ الفرص في النجاح" لاتتعارض مع مبادئ "الانتقائية" و"التفاضلية" التي أحدثتها هذه "المدارس الإعدادية النموذجية" و"المدارس الإعدادية التقنية". 
  لكن واقع الحال إنّ هذه المنظومة الجديدة قد شرّعت لظهور ثقافة "الصفوة" و"النخبة" و"التميز"في صفوف المتعلمين. ولم تكن إلا إحدى آليات ضرب عمومية المؤسّسة التّربوية في تونس. فالخطاب التّربوي والسياسي الرسمي وكل المرجعيات القانونية الأخرى تتحدث عن المدرسة وكأنهّا مؤسسة واحدة وموحدة، والواقع أن النّظام المدرسي-الرأسمالي الجديد، الخاضع إلى مقتضيات العلاقات الاجتماعيّة غير المتكافئة بين المناطق والمدارس، أنتج  أصنافا مختلفة من المؤسّسات والشّبكات والبرامج التّربوية والتّعليمية. بل يمكن القول إنّ الآليات التي يعمل بها النظام التعليمي تعمل على بناء ثقافة مدرسية غير متكافئة من خلال تعدد أصناف المؤسسات التربوية. 
 
4- 2- المدارس الإعدادية التقنية (4)
 
  وقع إحداث "المدارس الإعدادية التقنية" كصنف جديد من المؤسّسات التّربوية بمقتضى مذكّرة صادرة عن وزارة التّربية والتكوين تحت عدد 12023 بتاريخ 28 ماي 2007. تؤكّد هذه الوثيقة أنها تندرج ضمن التوجّهات التّربوية الرامية إلى تمكين التلميذ من فرص أوفر للنجاح واختيار مسلكه الدّراسي وفق مؤهّلاته واستعداداته.
ويلتحق بهذه المدارس:
* التّلاميذ الذين يرغبون في الالتحاق بالتّعليم الأساسي التقني والمرتقون إلى السنة الثامنة،
* التّلاميذ الراسبون في السنتين السابعة والثامنة الذين يأنس فيهم مجلس التوجيه القدرة على النجاح في التّعليم الأساسي التقني.
لكن على الرّغم من الإجراءات المتتالية في تغيير إسم هذه المؤسّسات من "مدارس المهن" إلى "المدارس التقنية" ومن إدراج مواد التّعليم العام في برامجها التعليمية وبناء قاعات للاختصاص، فإنّ هذه المؤسّسات مازالت تشكو من عدة نقائص على المستويات القانونية والبيداغوجية والمادية:
* على المستوى القانوني لم يتم إدراج هذه المؤسّسات في هيكلة المنظومة التّربوية. ومازالت تطغى عليها سمات انعدام التخطيط والدّراسة المسبقة التي تضبط الحاجيات في المجال التقني،سواء في مستوى البرامج أو المناهج. ممّا جعله خاضعا إلى ارتجالية كبيرة تعصف به دوما من حالة إلى أخرى وقد لايكاد يستقر أمره على حال،
* عدم جدية الوزارة في تحديث هذه المؤسسات بحجّة ارتفاع التكلفة المادية وغياب الاعتمادات المالية المخصّصة له. فهناك نقص في التجهيزات الأساسية منها وعدم مواكبة وسائل التنظيم وورشات العمل للتطور التكنولوجي والتقني،
* إضافة إلى الصّعوبات التي يلاقيها خريجو هذه المدارس المتمثلة خاصّة في عدم الاعتراف بالشهائد المسندة إليهم. وفي مقابل ذلك يسند لخريجي مراكز التكوين المهني الخاص الشهادات المهنية المعترف بها في سوق الشغل،
* غياب نظام للتّقويم الموحد على المستوى الوطني، وغياب النّظام التأديبي داخل هذه المؤسّسات.
  كل ذلك أدّى في النهاية إلى خلق حالة عزوف لدى الأولياء والتّلاميذ على حد السواء من التّعليم التقني، وما رافق ذلك من تفشي نظرة الاستهجان والاحتقار والاستخفاف للتعليم التقني. كما إنّ محاولة الوزارة في تلميع صورة هذا "المسلك التعليمي" من خلال عملية الربط بين منظومتي التّعليم والتكوين ربطا هيكليا قد فشلت ولم تدم هذه التجربة أكثر من ثلاث سنوات. إذ تم إعادة إرجاع قطاع التكوين إلى وزارة التكوين المهني والتشغيل.
  4- 3- المؤسّسات ذات الأولوية التّربوية
 
  ظهرت المؤسّسات ذات الأولوية التّربوية أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وهي مؤسسات لا تختلف عن سائر المؤسسات إلا أنها تتمتع بمساندة خصوصية الأمر الذي جعلها ذات أولوية وتحظى بمبدأ "التمييز الايجابي" (la discrimination positive). 
لكن يتأكد السؤال التالي وهو: هذه المؤسسة ذات أولوية بالنسبة إلى من؟ وهل نحن اليوم أمام إخفاق مدرسي أم أمام إخفاق المؤسّسة /المدرسة (5) يتساءل البعض؟ 
  قد يكون من الصعب جدا توفير إجابة شافية وضافية عن هذه الأسئلة في هذا المقام. ولكن لا بدّ من محاولة تفسير هذا التحول في تناول مسألة الإخفاق المدرسي. فالأكيد أن مقاربة هذه الظاهرة بإعطاء الأولوية للمؤسسة مؤشر على تغير ما في مواقف المهتمين بقضايا التّربية والتّعليم عن توفير الأجوبة الدقيقة عن هذا التحدي الذي تواجهه المدرسة التونسية. هل هو اعتراف ضمني بدور المؤسّسة في الإخفاق المدرسي؟ 
  حدّدت الوثيقة المرجعية لبرامج المدارس ذات الأولوية التربوية الصادرة في سبتمبر 2002 المبادئ والمفاهيم العامة التي بني عليها البرنامج في حقلي التعلّمات والحياة المدرسية.(6)
 ويهدف هذا البرنامج إلى تحقيق النجاح لجميع التلاميذ والقضاء على ظاهرة الفشل المدرسي، وذلك اعتمادا على مبدأ التمييز الايجابي. ويندرج هذا البرنامج ضمن التحول الذي طرأ في الاهتمام بالفشل المدرسي عندما صارت "المؤسّسات ذات الأولوية التّربوية" عنوانا لمؤسسات تعرف أكثر من غيرها ظاهرة الفشل المدرسي، وعليه فإنهّا تحتاج إلى نوع من الاهتمام الخاص باسم "التمييز الإيجابي" . وهذه التسمية نقلت مسألة الإخفاق المدرسي من إخفاق للتلميذ إلى إخفاق للمؤسسة في تطوير مردودها الداخلي.
من المفيد الرّجوع إلى الوثيقة المرجعية المعروفة بـ"برنامج المدارس ذات الأولوية التّربوية" التي وضعت معايير لتصنيف هذه المؤسّســـات وعددهـــــا18 مؤشرا ومن بينهـــا : نسب الرّسوب حسب المستوى التّعليمي ونسب الانقطاع التلقائي ونسب الانقطاع القانوني. (7) وطبعا إلى جانب هذه المؤشرات هناك مؤشّرات أخرى تتّصل بنسب الناجحين في المدرسة...الخ.
   هذا الصنف من المؤسّسات ذات الأولوية التربوية يؤكّد على إنّ الإخفاق التّربوي والمدرسي في تونس لا يهمّ المتعلّمين فقط، بل يلامس المؤسّسة التّربوية ذاتها. بمعنى إنّ آليات احتضان المؤسّسة للمتعلمين الجدد لا تتناسب وحجم التحوّل الذي يعايشه المتعلمون سواء من حيث حرفية الإطار ومهنيته، أو من حيث القدرة على إقامة علاقة مع المحيط المدرسي من عائلات ونوادي ومنظمات خاصّة بالطفولة. كما إنّ المؤشرات التي ينبغي اعتمادها في تقييم هذه الأوضاع ليست محل اتفاق. ومازالت الأسئلة دون إجابة، إن كانت المؤشّرات المعتمـــدة هــــي معـــــدل التلميـــذ أم الغيابات أم هي ذات صبغة بيداغوجية أم اجتماعية أو هي مادية؟
 
ثانيا: اللاّمركزيّة الإداريّة في الحقل التّربوي
 
  طرحت قضية اللاّمركزيّة في الإدارات التّربوية في الوطن العربي، منذ إقرار "استرتيجيّة تطوير التّربية العربية" لسنة 1979، حيث تؤكّد أنّ إقرار مبادئ اللاّمركزيّة وأشكالها ووسائلها بهدف تحقيق الدّيموقراطيّة والتّأهيل لمبدأ المشاركات المحلية في تسيير المؤسّسة التّربوية. فمن أهمّ معوقات التّطوير في المنطقة العربيّة، حسب الوثيقة، يعود إلى تحكّم وسيطرة الأجهزة والإدارات العليا في الدّولة، وعدم إشراك الإدارات الجهوية والمحلّية على المستوى الإجرائي في التّخطيط للسّياسات التّربوية أو اتّخاذ القرارات. كما أوصى المؤتمر العربي الثّاني حول التّربية المقارنــــة والإدارة التّعليميّة المنعقـــد في القاهرة في جانفي عام 1994 بضرورة التوسّع في الأخذ باللاّمركزيّة في الإدارة التّعليمية وذلك بالمزيد من تفويض السّلطات للإدارات المحلّية والمدرسيّة.
ويستهدف هذا التوجّه ترقية أساليب اتّخاذ القرار التّربوي وتجويد الفعل التّربوي من حيث استخدام الوسائل والموارد المادية والبشريّة وفق حاجات المدرسة المختلفة. 
ويقتضي إتّباع سياسة اللاّمركزيّة تفويض السّلطة إلى الإدارة التّربوية حتى تكون آليّات التّسيير المعتمدة قريبة جدّا من واقع المؤسّسة الخاص. فأصبح الأمر يتعلق بمسألة "تأهيل" المؤسّسة وجعلها فضاء للتّعاون بين مختلف عناصرها الدّاخليّة ومحيطها المجتمعي، وذلك وفق حركة التحوّل التّاريخي للعلاقات وأنظمة التّواصل وطرق تنظيم علاقات العمل وتحديد مقاييس التّسيير وضوابطه.
فالإدارة التّربوية "الذاتية" تتوق إلى أن تتحوّل فيها مؤسّساتنا التّربويّة إلى فضاءات يقوم تدبيرها على أسس ديموقراطيّة في إطار فريق تربوي وأجهزة متكاملة الأدوار والوظائف والمسؤوليّات، تتمحور أنشطتها حول المتعلّم باعتباره محور العمليّة التّربوية والمكوّن الذي من أجله يتمّ تطبيق اللاّمركزيّة الإداريّة في المؤسّسة التّربوية.
  لكنّ التّمكيـــن الإداري ليس مجــــرّد تفويـــض لبعض الصّلاحيات أو السّلطات للإدارة المدرسيّة. إذ إنّ تفويض السّلطة عندنا مازال يقتصر على منح المرؤوس سلطات محدّدة من قبل الرّئيس، الذي يمكنه استردادها في أيّ وقت شاء ضمن أسس وقواعد رسميّة محدّدة. كما إنّ التّفويض لهذه السّلطات لا يشعر فيها المفوّض له بالمسؤولية الذّاتية، والثّقة بالنّفس والشّعور بالاستقلاليّة وحرّية التّصرّف في الفضاء الذي يرأسه.
 
ثالثا: الشّراكة التّربوية في القانون التّونسي:
 
 أقر القانون التّوجيهـــي للتّربيـــة والتّعليــم المدرســي (2002) مبدا "الشّراكة" الذي تمّ بمقتضاه مزيد الإقرار بتفتّح المدرسة على محيطها. فقد أشار الفصل 32 إلى ضرورة تشريك كلّ الأطراف المعنيّة من الأسرة التّربويّة وممثّلي الأولياء والتّلاميذ والجمعيّات ذات العلاقة. ويندرج هذا التّمشّي في إطار الانخراط الفعلي في السّياسة اللّيبرالية المملاة من قبل صناديق التّمويل الدّولية (صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي ومنظّمة التّجارة العالميّة).
   لكنّ الإشكال الذي يطرح اليوم، هو عدم تهيئة البيئة المجتمعيّة لاحتضان هذه المعايير في أنظمتها التّربوية. إذ يؤكّد البعض على كونها لا تتخطّى مرحلة "الشّعارية الشّكليّة".(8)  كما إنّ نجاح هذا التّوجّه التّشاركي التّربوي، يتوقّف على توفّر قدر من الاستقلال الحقيقي للمؤسّسات والاعتراف بسيادتها في تنظيم علاقاتها الدّاخليّة ومع محيطها. فاعتماد اللاّمركزيّة ومبادئ المبادرة الحرّة وقيم الشّراكة والتّعاون مع الأطراف الخارجيّة، لا بدّ أن ترافقه ممارسات تشجّع بالفعل على التّحرّر من الرّوتين الإداري. ما مدى الحرّية المتروكة للمؤسّسات التربوية في تونس حتى تختار شركائها؟ وما مدى استعداد الإدارة والمصالح المركزيّة لقبول مشاريع الشّراكة؟ وما حدود تدخّل هذه المصالح والهيئات ومراقبتها وتحكّمها في تلك المشاريع؟
 إنّ ما يسمّيهم القانون بـ "الأطراف الخارجيّة" للمؤسّسة (الأولياء والجمعيّات والشّركات الخاصّة..) لم يستطيعوا إلى حدّ الآن في تونس، وفي الوطن العربي عموما، من الاندماج بشكل فعلي وصريح في المنظومة "التّشاركيّة" الجديدة أو حتّى في السّعي إلى محاولة مأسسة تعاونهم معها. لذلك تبقى المساهمات المادّية مرتبطة ومتوقفة على الميولات الشّخصيّة لهذه الأطراف وعلى خلفيّاتها السّياسية أيضا. كما تتوقف أغلب هذه المساهمات على بعض المناسبات المدرسيّة مثل: مناسبات الاحتفالات المدرسيّة عند افتتاح السّنة الدّراسيّة أو عند اختتامها (التّبرّع ببعض الجوائز والهدايا..). 
   كما عبّر أغلب المربّين عن تخوّفهم من مسألة انفتاح المدرسة على الأطراف الخارجيّة وفق المقاربة التّشاركيّة، كما تنصّ عليها القوانين الجديدة. فهناك من يرى فيها تهديدا لاستقلاليّة المؤسّسة التّربويّة عن الضّغوطات الخارجيّة من قبل هذه الأطراف. كما إنّ آليّات هذا الانفتاح وطرق إشراك هيئات المجتمع المدني والمؤسّسات الاقتصاديّة في تسيير المؤسّسة له مفعول سلبي على أهداف التعليم وجودته.
إنّ "إعادة تأهيل" المؤسّسة التّربويّة وفق المقاربة التشاركية الجديدة تؤكّد أنّ الأيديولوجيا الكامنة خلفها تستهدف نشر ثقافة "المشاركة التّابعة" لسياسات العولمة. فما لبثت سياسات التّنمية منذ سنوات، أن أخذت بالأيديولوجيا اللّيبراليّة الجديدة التي أدّت إلى انكماش دور الدّولة في رسم سياساتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة وتأثّرت تبعا لذلك مختلف المجالات الاجتماعيّة الأخرى مثل الصحّة والتّعليم في ما يتعلّق بالتّمويل والمجّانيّة والجودة...الخ.
  إنّ واقع المناخ التّنظيمي بمؤسّساتنا التّربويّة مازال غير قادر على تعزيز ثقافة "التّمكين الإداري" وتحمّل المسؤوليّة. وفشل في نشر ثقافة مدرسيّة تعزّز العلاقات التي تقوم على أسس التّشاور والاستماع والإشراك الفعلي لمختلف الأطراف التّربويّة.
لهذا تبرز العديد من المعيقات التي تواجه الإدارة المدرسيّة نحو تطوير مقارباتها التّنظيميّة لضمان التّغيير المؤسّسي الفعلي والتي من أهمّها:
* مازالت الهياكل التّنظيميّة تعتمد على المركزية الإداريّة والمغالاة في البيروقراطية والرّوتين. فالإدارة المدرسيّة عندنا مازالت مكبّلة بأنظمة وقوانين لا تتمتّع بالمرونة وتسهيل الإجراءات وتبسيط المعاملات،
* عدم وضوح دور المدير وآليات تسيير الإدارة خصوصا في ظلّ موجات الخوصصة الرّاهنة للحقل التّربوي،
* هناك عادات وترسّبات تنظيمية وثقافيّة من النّظام المركزي مازالت متجذّرة وماثلة في تقاليدنا الإداريّة على جميع المستويات المركزيّة والجهويّة والمدرسيّة، وكذلك في طريقة تأدية العاملين لوظائفهم،
* عدم وضوح الحدود الفاصلة بين المسؤوليات والصّلاحيات الإداريّة والسّياسية داخل الإدارة المدرسيّة، وذلك نتيجة غموض الأدوار وكثرة التّعاميم الإداريّة وتناقضها أحيانا،
* يتمّ أحيانا تكليف غير المختصّين للقيام ببعض المهام الفاعلة في التّخطيط والبرمجة والتّسيير للشّؤون الإداريّة التّربويّة، 
* ضعف مشاركة كل المتدخّلين والفاعلين التّربويين، سواء كانوا ينتمون إلى المؤسّسة أو لا ينتمون إليها، إضافة إلى ضعف آليات التّفعيل والتّواصل بين مختلف أطراف المؤسّسة وبينهم وبين الإدارة.
 
النتائج: إعادة هيكلة الفضاء المدرسي
 والتّحوّل نحو الخوصصة:
 
 إنّ استقلاليّة الإدرات المدرسية، وفق الخطاب التربوي الجديد، سوف تمكن من عقد شراكات مع الشّركات والمؤسّسات الاقتصاديّة بوجه خاص. فقد أشارت اللّجنة الأوروبية حول "الأهداف الملموسة لأنظمة التّعليم منذ 1995، إلى إنّ  أقلّ الأنظمة التّعليميّة تمركزا هي أيضا الأكثر مرونة، والأسرع تكيّفا والمتّجهة أكثر لتطوير أشكال شراكة جديدة"(9). وأشار هذا التّقرير إلى الطّابع الدّولي لحركة "تحرير" النّسيج التّعليمي. فما لحق الإدارة العامّة لنظام التّعليم من إصلاحات يتلخّص أساسا في حركة نزع مركزة تدريجيّة وتفويض السّلطات للجميع.
لقد أصبح واضحا من خلال هذه الآليات المعولمة، أنّ قطاع التّعليم اليوم، يشكّل أهمّ سوق لاستثمارات الرّأسمال العالمي وبأداة رئيسيّة هي الاتّفاق العام بين المسؤولين والمواطنين. فالبورجوازيّة الباحثة عن مجال لاستثمار أموالها ترى في التّعليم ميزانيّة مغرية سنويّا، إذ تقدّر عالميّا بـ"ألف مليار دولار" سنويا. وأصبح قطاع التّعليم يقارن بقطاع إنتاج السّيارات من حيث عدد مواطن الشّغل الذي يوفّرها والمبالغ الهامّة التي يعبّئها.
 لقد فتحت كل هذه المرجعيات والنصوص، بشكل لا لبس فيه، باب تمويل المؤسّسة التّربوية أمام الخواص. وهو من المداخل التي تشرّع تنصّل الدّولة التّدريجي من تحمّل نفقات التّعليم العمومي.
لقد بدأ التّفكير في تنويع مصادر التّمويل بالنّسبة إلى القطاع التّربوي وذلك من خلال:
1ـ فتح المجال أمام المؤسّسات الاقتصاديّة والماليّة(البنوك، الشّركات..) لتمويل المدرسة من حيث التّجهيز والصّيانة والبناء وذلك في نطاق تبنّي "تعهد" المؤسّسات للمدارس والمعاهد والجامعات،
2ـ إقامة "تعاون" متبادل بين المؤسّسة التّربوية وهذه المؤسّسات في إطار التّسيير المادي والبشري من خلال مفهوم الشّراكة بينهما،
3ـ تمكين المؤسّسات (المدارس، المعاهد) من إحداث مشاريع اقتصاديّة صناعيّة وتجاريّة تمكّن من تمويل بعض حاجيّاتها الرّئيسة،
4ـ خلق آليات جديدة تمكّن من تفعيل دور لجان الصّيانة والجمعيّات ذات العلاقة في تمويل "المشاريع المدرسيّة" عن طريق عمليّات الرّسوم والتبرّع والتّطوّع (التّلاميذ، الأولياء، الهياكل المحلّية).
  فما يتعرّض له نظام التّربية والتّعليم اليوم من تغييرات و"إصلاحات" متتالية عبر اللاّمركزيّة في التّسيير وعدم التّقنين والتّبشير باستقلال المؤسّسات وغياب الضّبط عن البرامج، واعتماد مقاربات جديدة (الكفايات) وإقامة شراكات مع عالم المقاولة والمال وتشجيع التّعليم الخاص تعبّر جميعها عن ظهور "ثوابت" أو "مبادئ" (des principes) جديدة في السّياسة التّربويّة تماثلا مع سياسات التّربية في أغلب دول العالم اليوم.
فتمّت مطابقة المدرسة مع مقتضيات السّوق سواء في مستوى المضامين المعرفيّة (البرامج الدّراسيّة) أو في مستوى المناهج (المقاربات البيداغوجيّة) أو في مستوى البنيات والهياكل التّنظيميّة. 
     
الاستنتـاجات
 
 من خلال عمليّة استقرائنا لواقعنا التّربوي، تبيّن لنا إنّ المتغيّرات السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة لها تأثيرات مباشرة في الحقل التربوي ولا تقبل التّجزئة عندما ندرس مسألة الإصلاحات التّربويّة الرّاهنة أي لا بدّ من أن ننظر إليها كمنظومة متّصلة ومتفاعلة مع بعضها في تشكيل السّياسات التّربوية وفي تحديد آثارها الثقافيّة والقيميّة والرّمزيّة في مجتمعنا المعاصر.
وتعود أيضا إلى عدّة إكراهات ماديّة وبشريّة مستأصلة تاريخيّا في الحقل التّربوي والنّسق المجتمعي وهي:
1 ـــ الضّغوطات الماديّة والاقتصادية: وتشمل كلّ ما يتعلّق بالبنى التّحتيّة للمؤسّسة (infrastructures) ومشاكل التمويل التي لا تستجيب في – عمومها - إلى المعايير الجديدة، بل بقيت متكيفة بتلاؤم خصائص كلّ وسط مدرسي – محلّي وجهوي- من النّواحي البيئيّة والاجتماع