خواطر

بقلم
شكري سلطاني
عرفان العوارف
 يعيش الإنسان في ملكوت ربّه ساعيّا منصرفا لقضاء شؤونه الدّنيويّة، متنقّلا متحوّلا من مجال إلى مجال ومن حال إلى حال، محاطا بظروفه، مزوّدا بإمكانيّاته المادّيّة والمعنويّة وحظوظه، تحده محدّدات تجعل لوجوده معنى حقيقيا، ولمعناه حقيقة وجود، وبعلمه بها وعيّا وإدراكا، تتزيّن حياته وتتجمّل بنور المعرفة وبرهان الحقيقة حتّى لا يحيا حياة الأنعام والبهائم بغرائز منفلتة تدعو للإشباع، ونزوات قابلة للتّحقيق، لتنام الفكرة وتخرس الحكمة. فما هي هذه المحدّدات الأساسيّة  الحاسمة؟ وما هو تأثيرها على حياة البشر؟ 
إنّها رباعيّة مكثّفة يحيل الوعي بها وإدراكها كثائف الحسّ وغشاوة الدّنيا وضبابيتها وظلمتها إلى لطائف ونسمات عرفانيّة راقيّة .
1. الزّمن  
الزّمن هو البعد الرّابع المحايث غير المفارق لوجود الإنسان، فهو المستقلّ عن صيرورة البشر، فالإنسان متغيّر تابع لعنصر الزّمان يتأثّر ويتغيّر مع مرور الزّمن، ولا يثبت على حال، فنفسيته وعقليته ووجدانه تخضع كلّها لظروفه وزمانه.
والزمن قانون صارم من المحدّدات الأساسيّة لوجود الإنسان﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾(العصر:1-2)  إذا إتّسمت صيرورة الإنسان ومساره بالسّلبيّة والتّواكل والعبثيّة واللّهو والفوضويّة، كأن يتعامل مع ظروفه بحماقة وجهالة ليخيب مسعاه ويندم بعد إنقضاء فرصة حياته ونفاذ شحنة وجوده على ما مضى منه من إسراف وعدم إنتباه وتضييع لوقته .
يتواصل سفر البشريّة في رحلة العمر إلى منتهاها ليخلف جيل لاحق جيلا سابقا، ويستمرّ الزّمن حاملا أحلاما وأوهاما لتتحقّق آمال بسعي الكادحين والمغامرين الشّجعان، وتتبخّر أوهام القاعدين الواهمين الفاشلين، وينهل النّاس من ظروفهم وشواغلهم وهمومهم، وتتواصل الرّحلة في سفينة ركّابها الأحياء وبحرها الدّنيا وأمواجها الفتن والبلايا والرّزايا، ولا ينجو إلاّ السّابح المحمود والربّان اليقظ، والباقي صرعى ظروفهم وشواغلهم وشواغبهم وهمومهم وقيودهم.
فمن سيطر على زمانه الذّاتي، واغتنم هبوب رياحه، واقتنص الفرص الدّافعة المحفّزة لنجاحه وتحقيق وعيه الذّاتي ووجوده الفعلي بالقوّة والحضور، عاش زمانه واعيّا فاهما مدركا مستنيرا إيجابيّ الفعل والممارسة.
2. الحول والقّوة البشريٌة
كثيرا ما يعتدّ الإنسان ويغترّ بحوله وقوّته وبإمكانياته وذكائه وإرادته، مستقلا بنفسه وهواه وإختياراته وقراره وتوجهاته. ولكن هل هو حقيقة كينونة مستقلة بذاتها في الوجود ذا حول وقوّة، خالصة بفردانيّته ووجوده الواهم بذاته؟
إنّ البشر سائرون بنواصيهم وأقدامهم، عقول تفكّر في حاضرها ومستقبلها، ساعيّة لنيل حظوظها وتحقيق مصالحها ورغباتها وطموحاتها، تسير وتسعى بمشيئة وإرادة ربّانيّة مطلقة، سرّ خفيّ ساكنها ومحرّكها يُيسّر سعيها وحركاتها، فلا يمكن أن يقع ما يقع وأن يكون ما يكون إلّا بأمره سبحانه وتعالى ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(التكوير:29)، فلا يعزب عنه شيء ولا تخفى عنه خافية.
أليس الإنسان عبدا لربّه خلقا وإيجادا، بنيةً وتكوينًا ووظائفَ، أجهزة وآلات ساكنة في ذوات البشر تُسهّل عيشهم وسعيهم. قشرة مخيّة بدونها تستحيل الأحاسيس الشّعوريّة والأفعال الإراديّة، وكذلك أعضاء حياتيّة وأجهزة تحقّق وظائف الإنسان وتوازنه وحياته. فكيف للإنسان أن يستقلّ بذاته ويعتدّ بحوله وقوّته وهو المُيسّر للفعل بمشيئة ربّه سبحانه ؟!
النّاس كلّهم سائرون بمشيئة ربّهم  المطلقة وإرادتهم البشريّة النّسبيّة في الزّمان والمكان، إذ الرّوح فيهم وديعة وسوف تُسلب، والنّفس مُعطى إلهي من ربّ وهّاب كريم. وهي هويّة الإنسان المعنويّة التّي تُميّزه عن غيره من البشر، فليس مالكا لها بل مؤتمن عليها.﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾(الشمس:7-8).
الإنسان عبد للّه سبحانه مواجه بحقيقة الوجود،ينعكس عليه ضياءها وظلامها، سالك لطريقه ساعّ، فإمّا غريق الأنوار مطموس الآثار أو مطموس الأنوار غريق الآثار، وجوديا ووجدانيا، وذلك بحسب همّته وعزيمته وكياسته وحكمته.
مشكلة البشرية أنّها ترى للأسباب فعلا وجعلا، فتتعلّق بالأسباب والوسائط وآثار الأغيار وتنسى مُسبّب الأسباب فتتكّل على حولها وقوتّها، وتتناسى وتتغافل عن حول اللّه سبحانه وتعالى وقوّته. إنها لعبوديّة منحرفة تائهة عن مقصدها مستقلّة عن ربّها، قد زادها خبلا وتيها ووهما إحساس الإنسان بالأغيار والتعلّق بالآثار .
3. الغيب
يظلّ الإنسان يتطلّع إلى المستقبل متخوّفا تارة ومستبشرا تارة أخرى، لجهله بما سيقع وما ستؤول إليه الأمور والأحوال، ولكن يبقى المستقبل مجهولا مخفيّا سره عن البشر، يجهله عامّة النّاس ويبقى من وراء وعيهم وإدراكهم وإن أراد البعض العلم به أو اعتقدوا بتمكنهم من فهم وإدراك ما سيقع في المستقبل فإنهم واهمون جاهلون.
الغيب سرّ خالص ربّاني من مطلق علمه وحكمته، فهو علاّم الغيوب والبشر سائرون في دنياهم يخيّم ويستوعب وجودهم غيب محدّد لمصائرهم رزقا وأجلا محتوما، مكتوب بقلم القدرة في اللّوح المحفوظ، ينعكس ويتجلّى فعليّا في حياتهم قضاء وقدرا، تستوعبه الضّمائر الحيّة والنّفوس المؤمنة، فتساير نسق حياتها وعيشها برضا وإطمئنان، وتنفر منه وتنكره وتكفر به ذوات جاهلة بربّها.
الغيب غيب غاب عن حسّ البشر ووعيه وإدراكه لا يعلمه إلاّ اللّه سبحانه وتعالى لسعة علمه وإحاطته التّامة والكاملة بكلّ مخلوقاته، فالتّحوّلات والتّغيّرات والأحداث التي ستقع في المستقبل القريب أو البعيد يعلمها الخالق  البارئ منذ الأزل، وهي مسجّلة مدوّنة بقلم القدرة في اللّوح المحفوظ ،ليظلّ الغيب إختصاص إلاهي بحت لا يشاركه أحد من مخلوقاته﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾(البقرة:255). فالعلم بأحوال البشر ومآلهم وآجالهم موكول لربّ العالمين، ولا علم للبشر  بما سيقع وما سيكون.﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾(لقمان:34) .
علم خالص يختصّ به ربّ العباد، ولا يمكن للبشر أن يعرفوا عنه إلاّ بإخبار للّه عنه على لسان الأنبياء والمرسلين، وهم كذلك لا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء وكشف منه .﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ٍ﴾(الأعراف:188) .
اتّصال البشر بالعالم المرئي والحسّي والمادّي يتمّ بأعضائهم الحسيّة وقشرة مخّهم، فليس لهم مع عالم الغيب إلاّ القلب الصّافي والنيّة الطّيّبة والفطرة السّليمة والبصيرة، لعلّهم يتبصّرون بحول وقوّة ربّهم ومنّه وكرمه على الإطلاع على بعض ما أخفي عنهم من عالم الغيب بما حباهم من لطف وعطاء وجذب كشفا ربّانيّا يثبّت  به فؤادهم ويزيدهم يقينا.
4. الموت
سيف القضاء الصّارم المسلّط على كلّ المخلوقات والقدر الذّي لا مفر منه ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾(ق: 19) ،فالموت حقّ يُنهي مسيرة ورحلة البشر الدّنيويّة ويلحقهم بعالم الأموات .
والعاقل لا ينسى مصدره وأصله ومآله ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(الملك:2) ،فالموت سهم موجّه لكلّ الأحياء لا يُخطئ هدفه ولا يُسْتثنى منه أحد ،فلكُلّ أجل كتاب .
يبقى الموت لغزا محيّرا لمن خاض فيه فلسفيّا أو علميّا لعلّه يُدرك كنهه ومغزاه عسى أن يتمّ دفعه والتخلّص من كابوسه ووطأته عليهم . ولكي يستقرّ الإنسان هانئا عند ذكر الموت أو حلوله بفنائه فعليه أن يعلم أنّ كلّ ما يتحوّل ويتغيّر مع الزّمن مآله الفناء، فلا يثبت ليبقى، فجثمانيّة الإنسان أو بدنه يتغيّر ويتحوّل، فالموت يستهدفه ويُفنيه ويحيله جثّة هامدة لا حراك بنفاذ الطّاقة وشُحنة وجوده .
والمقاربة التي يُمكن أن تنقذ الإنسان من وطأة الموت وتُخلّصه من كابوسه هي مقاربة شاملة تأخذ بعين الإعتبار مصدره ( إنّا للّه ) ومآله ( وإنّا إليه راجعون )، تربط بين ماديّته وروحانيته، بين مبناه ومعناه، إذ الموت يُخلّص  الإنسان من بدنه وتكوينه الطّيني الذي يلفّ كينونته ليتحقّق بروحانيّته الخالصة ومعناه الحقيقي بلا زيف وتشويه أو تجميل.
فالموت مجرّد رحلة وسفرة من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، من سفر الظّاهر عالم الحسّ والكثائف إلى سفر الباطن عالم الغيب والكشف ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(ق:22) .إنّها خطوة نحو الأبديّة والأزليّة بولوج عالم البرزخ إلى حين يضع اللّه عزّ وجلّ الموازين القسط ليوم القيامة حيث تستقّر المحكمة الإلهيّة للحساب.
الحياة الدّنيا تستوعب وجود الإنسان وتحتضنه وتحتويه بكليّة جسده، فتؤثّر فيه ويتأثّر بمتغيّراتها وأحداثها وتحوّلاتها مع إستقلاليّة نسبيّة لأبعاده المعنويّة روحه ونفسه المتعاليتين على الإحاطة الماديّة.فلا يهِن الإنسان العاقل الرّاشد ولا يحزن لذكر الموت ووقعه على النّفوس، فالكلّ راحل ومسافر ومفارق ولو بعد حين﴿وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾(الرحمان:27).
إنّ الزّمن والحول والقوّة البشريّة والغيب والموت مسائل جدّ هامّة في حياة البشر وهي محدّدات وقيّم جوهريّة تحيط بوجودهم كينونة وصيرورة حياتيّة لا تنفكّ عنهم ولا تُفارقهم، والعلم بها وإستيعابها من العلم اليقين الذي يُيسّر عيشهم وسعيهم ويُساعد بتحقيق عبوديتهم لرّبهم، فتنقشع غشاوة الوهم وظلمات سوء الفهم.