شذرات

بقلم
د.محمد عمر الفقيه
في تجديد مفهوم السنة
 المتأمل لكتاب اللّه تعالى يلحظ دون عناء أنّ المحاور الرّئيسة ذات الثّقل التي تناولها القرآن الكريم، تختلف تماما عن المحاور الرّئيسة التي تناولتها الأحاديث والرّوايات، فعلى سبيل المثال لا الحصر من أبرز القضايا التي عالجها القرآن الكريم وبإهتمام بالغ قضيّة العدل، وبيّن أنّ العدل من أبرز الغايات التي من أجلها بعث اللّه الرسل فقال تعالى : ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ....﴾(الحديد: 25) فقضيّة القسط والعدل ، قضيّة حاضرة في القرآن الكريم بقوّة، وقلّما تخلو سورة من سور القرآن لم تتناول العدل، بينما في الثّقافة الرّوائيّة والحديثيّة فقضية العدل مطروحة ولكن ليس كمحور رئيس.
وكذلك من القضايا التي طرحت بقوّة في القرآن الكريم قضيّة العقل والتّدبّر والتّأمل والنّظر والعلم والسّير في الأرض والتّفكّر، فلا تخلو سورة من سور القرآن الكريم إلّا وتناولت هذه القضايا وبقوّة وجعلتها محورا رئيسا من محاور الإيمان، بينما في الثّقافة الحديثيّة والرّوائيّة لا يصحّ حديث مطلق يتناول العقل.
وكذلك فيما يتعلّق بعمليّة التّفكير والتّحليل، بل على العكس من ذلك فمعظم الأحاديث التي يتمّ ترويجها تقع في إطار تقديم النّص على العقل، وأنّ الدّين لا يؤخذ بالعقل، وأنّه لو كان الدّين يؤخذ بالعقل لكان مسح باطن القدم أولى من ظاهره(1).
فالثّقافة الرّوائيّة والحديثيّة أهملت العقل إلى درجة أنّ كتب الصّحاح التي لم تترك موضوعا سواء كان مهمّا أو هامشيّا إلاّ وأفردت له بابا مستقلّا، إلاّ العقل فقد تمّ إهماله تماما. 
أمّا فيما يتعلّق بآيات الأحكام فلم يتجاوز عددها في القرآن الخمسمائة آية، أي ما نسبته أقلّ من عشرة في المائة من مجموع آيات القرآن الكريم، بينما تمّ تضخيم المسائل المتعلّقة بالأحكام في الثّقافة الرّوائيّة والحديثيّة حتّى أصبحت تشكّل أكثر من تسعين بالمائة من مجموع الأحاديث والرّوايات. 
وكذلك فيما يتعلّق بالآيات الكونيّة التي تتحدّث عن خلق السّماوات والأرض والسّير في الأرض وتأمّل سير الأمم السّابقة، فقد ركّزت عليها الآيات القرآنيّة وأولتها اهتماما بالغا، فهذه الآيات تعتبر الأساس في التّقدم الحضاري والفكري والإنساني، ولكن للأسف لم تحظ هذه القضايا بالاهتمام الذي يليق بها في الثّقافة الحديثيّة والرّوائيّة. 
وكذلك فيما يتعلق باقتران العمل بالإيمان، فالثقافة القرآنيّة تربط وبشكل دائم ما بين القول والعمل وما بين الإيمان والعمل، بينما ترفع الثّقافة الرّوائيّة والحديثيّة من قيمة القول، وأنّ مجرد أقوال وأوراد معيّنة يمكن قولها بدقيقة واحدة، تغفر خطايا قائلها ولو كانت كزبد البحر على ما كان من العمل.
وللأسف فإنّ الثّقافة الرّوائيّة والحديثيّة هي الثّقافة المهيمنة والمسيطرة على العقل المسلم منذ مئات السّنين، ليس هذا فقط وإنّما تغلّبت الثّقافة الرّوائيّة على الثّقافة القرآنيّة، الى درجة أنّ الثّقافة الرّوائيّة هي التي أصبحت موجّهة للثقافة القرآنية ومفسّرة لها .
فكم نحن بحاجة الآن الى إعادة تشكيل العقل المسلم وإعادة تكوينه، بحيث يتمّ تفريغه تماما من الثّقافة الرّوائية الماضويّة وتخليته تماما عنها، ثمّ إعادة تكوينه وبنائه من جديد في ظلّ ثقافة قرآنيّة واعية ومبصرة .
الهوامش
(1) أثر منسوب لعلي بن أبي طالب يقول فيه : «لو كان الدينُ بالرأي لكان أسفلُ الخفِّ أولَى بالمسحِ من أعلاهُ ، وقد رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم يمسحُ على ظاهرِ خفَّيهِ» أخرجه أبو داود (162) واللّفظ له، والنّسائي في «السنن الكبرى» (119)، وأحمد (737)