من وحي الحدث

بقلم
أ.د انيس الرزقي
علمتني غزة: المقاومة جوهر الحضارة الإنسانية
 منذ الهجوم الذي نفّذته المقاومة الفلسطينيّة داخل الأراضي المحتلة يوم 7 أكتوبر 2023 وأنا أتعرّض لأشدّ أنواع التّساؤلات والمراجعات، فهول المشهد في غزّة أرّق الكثيرين عبر العالم بأسره، ممّا أدى إلى اشتعال شبكات التّواصل الاجتماعي بصور أهلنا في غزّة وهم يُقتلون بدم بارد عبر قصف جبان من قبل طيران الاحتلال، ناهيك عن المظاهرات التي اندلعت في جميع عواصم العالم نصرة لهم وتنديدا بجريمة الإبادة الجماعيّة التي ينفّذها جيش الاحتلال أمام الصّمت المخزي والمتواطئ للقوى الغربيّة والعربية. 
حاولت آلة الدّعاية الصّهيونية تضليل الرّأي العام العالمي عبر بث الأكاذيب وتزوير الحقائق مستعملة جبروتها وسيطرتها على وسائل التّواصل الاجتماعي وعلى جلّ الإذاعات العالميّة، ولكن سرعان ما انقلب السّحر على السّاحر وانكشفت الأكاذيب بسرعة ممّا أدّى إلى نتيجة عكسيّة، فتعاظم التّعاطف مع القضيّة الفلسطينيّة وازداد اهتمام جميع الشّرائح المجتمعيّة، عبر العالم، بمعرفة حقيقة الاحتلال الصهيوني وبشاعته، وتاريخ القضيّة الفلسطينيّة وتفاصيلها، فرأينا أنماطا جديدة ومبدعة من التّعبير عن القضيّة والتّنديد بها. 
في الواقع وبالرّغم من إيماننا الرّاسخ والمطلق بمشروعيّة مقاومة الاحتلال وتداعياتها على مستقبل القضيّة وعلى مسار التّحرّر، إلاّ أنّ التّساؤل يبقى مشروعا وضروريّا حول وجاهة هجوم السّابع من أكتوبر، فهل يعتبر ما قامت به المقاومة في ذلك اليوم مجازفة غير محسوبة باعتبار عدم قدرتها على حماية المدنيين الغزاويين العزّل؟ خاصّة أمام الاختلال الرّهيب في موازين القوى بين الفلسطينيّين والاحتلال، ونحن نشاهد بأمّ أعيننا وحشيّة ردّ الاحتلال وفظاعته الذي اقتصر فقط على الانتقام الجبان من المدنيّين العزّل بالقصف العشوائي لقطاع غزّة شمالا وجنوبا ممّا أدّى إلى استشهاد عشرات الآلاف من المدنيّين جلّهم من النّساء والأطفال. وهنا يأتي تساؤلنا الثّاني من زاوية مختلفة، ألا يعتبر هذا العبث وهذه اللاّمبالاة بسفك دماء عشرات آلاف المدنيّين العزّل أمام مرأى العالم بأسره ومسمعه، في مشهد غير مسبوق في تاريخ الإنسانيّة، تهديدا للسّلم العالمي وللحضارة الإنسانيّة حتّى؟ 
وأيضا من زاوية أخرى، لا يخفى على عاقل مدى التّفوق التّكنولوجي والعسكري للكيان وهوله وداعميه من قوى عظمى في العالم، ومدى القوّة الماليّة الجبارة التي يمتلكها أو التي تُرصد له، وتربّعه على عروش جلّ الإعلام العربي والغربي، ناهيك عن حالة الضّعف والعجز التي تعيشها الأمّة العربيّة وحتّى الإسلاميّة على المستويين الحكومي والشّعبي، التي وصلت إلى التّطبيع مع الكيان واستعداء الإخوة والجيران. فلماذا وبالرّغم من كلّ هذا لم يتمكّن الغرب وكيانه المصطنع من تصفية القضيّة؟ 
1. أنت تقاوم أنت إنسان 
في محاولة لتناول السّؤال الأوّل حول وجاهة هجوم السّابع من أكتوبر من الزّاوية الفكريّة والمبدئيّة وليس من زاوية الجهوزيّة أو السّياسيّة. نبدأ بالتّذكير ببعض المدركات العلميّة التي لا يمكن التّشكيك فيها، وهي حقيقة أنّ الإنسان كائن ذو عقلين، الأوّل وظيفي يُمَكّنه من إدارة جسده وحواسه وغرائزه وهو نفس العقل الوظيفي الذي تمتلكه الحيوانات، وقد يكون لدى بعض الفصائل الحيوانيّة عقل وظيفي أكثر تطوّرا. أمّا العقل الآخر فهو معرفي فكري يُمَكّن الإنسان من إدراك محيطه المادّي والمعنوي والحسّي والعلمي والتّقني والحضاري، ممّا يجعله كائنا متأمّلا في كلّ شيء ومتسائلا عن كلّ شيء، وكأنّه مبرمج للاستكشاف بدءا من ذاته ووصولا للكون بأسره، وهذا بالتّحديد ما يميّز الإنسان عن الحيوان، فالأخير لا يمكنه أن يفكّر، وهو لا يتطوّر ولن يتطوّر إلى كائن أكثر وعيا مهما طال به الزّمن. ولربّما يكون بعض المقصود من الآية القرآنية الكريمة ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء: 70)، هو تكريم الإنسان عن باقي الكائنات بهذا العقل المعرفي الجبّار، فأخلُص إلى القول إنّ كرامة الإنسان تكمن في الواقع في عقله المعرفي. 
وبالتّالي فإنّه يمكن القول أنّ كرامة الإنسان بما أنّها عقله المعرفي، فهي التي تمكّنه من التّمييز بين الحقيقة وبين الكذب وبالتّالي بين الحقّ وبين الباطل، وبالتّالي تجبره نوعا ما على اتخاذ موقف من أيّة قضيّة تعترض سبيله بغضّ النّظر عن الخصوصيّة وعن الاختصاص، بمعنى أنّه حتّى لو لم تكن القضيّة تخصّه بصفة مباشرة، وحتّى وإن كانت خارج دائرة اختصاصه المعرفي والتّقني، فهو بالنّهاية مسؤول عن تحديد موقفه من هذه القضيّة. على عكس الحيوانات التي لا تميّز بين الحقيقة والكذب ولا يمكنها البتّة أن تتبنّى أيّ موقف مهما كان بسيطا. هذا هو الإنسان الذي نعرفه كائن لديه كرامة أي لديه مواقف ومبادئ. وهنا نأتي إلى تساؤل نعتبره جوهريّا: هل يمكن للإنسان أن يعيش بلا كرامة بمعنى من دون أيّة مواقف؟ أو ربّما هل هناك حدّ أدنى من الكرامة الإنسانيّة التي يأبى الإنسان أن يعيش دونه، ويكون مستعدّا للمقاومة دفاعا عنه مهما كلّفه ذلك؟ وهل هذا الحدّ الأدنى هو قاسم مشترك لكافة النّاس أو هو مسألة شخصيّة يحدّدها كلّ شخص حسب مدركاته المعرفيّة وحسب خياراته الإنسانيّة؟ 
نعتقد وبقوة أنّ كلّ إنسان سويّ لديه حدّ أدنى من الكرامة لا يمكنه أن يقبل الحياة من دونه، بمعنى أنّه سوف يقاوم حتّى الموت إذا حاول أحدهم أن يسلبه هذا الحد ّالأدنى من الكرامة، ولكنّه مخيّر أن يحدّد هذا الحدّ الأدنى. فعلى سبيل المثال يمكن لإنسان أو مجموعة من النّاس ألاّ تقبل بأن تعيش في بلد محتل من قبل قوّة غازية، فتختار المقاومة من أجل تحقيق هذا الحدّ الأدنى من الكرامة مهما اختلّت موازين القوى ومهما كلّفها ذلك. 
وهنا يمكنني القول بأنّ فعل المقاومة ضروري لا يمكن القفز عليه لتحقيق الحياة بكرامة وهو اختيار حرّ وواع لفرد أو لمجموعة من النّاس لديهم حدّ أنى مشترك من الكرامة. وهذا الفعل المقاوم مسؤوليّة مشتركة لهؤلاء بغضّ النّظر عن أيّ اختلال في موازين القوى وبغض النّظر عن تكلفته المادّية حتّى لو كانت الموت أو الفناء، فهو اختيار الموت من أجل الحياة فوق الحدّ الأدنى من الكرامة. على عكس الخنوع للظّلم والتّسلّط والخضوع له من أجل الحياة والذي هو في الواقع هروب من الموت من أجل حياة بلا كرامة أي موت بطيء في الذلّ والهوان. وهنا تحديدا تكتمل الصّورة العقلانيّة والمنطقيّة في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169). إذ أن اللّه هنا يطمئن الإنسان أنّه إذا تحمّل مسؤوليّة عقله المعرفي أو كرامته واتخذ الموقف المتناغم معهما أي الوقوف إلى جانب الحقيقة أو القضيّة الحقّ، فإنّه منتصر لا محالة في كلّ الحالات، والتّأمين على ذلك هو الارتقاء شهيدا. وما يفهم من مفردة الشّهيد أو الشّاهد في هذا السّياق، هو أنّ اللّه يعفي من مات مقاوما من أجل كرامته من كونه متّهما في قضيّة سيرورة حياته – بما اقترفه من معاصي ومظالم- ويرقّيه إلى مرتبة الشّاهد الذي لم يقترف أيّ ذنب أي فوق الشّبهات، فينجّيه بعقله المعرفي بكلّ ما يحمله من تجربة إنسانيّة، تاركا خلفه ذلك الجسد التّالف لا محالة والذي هو في الواقع مأساة هذا الإنسان في حياته الدّنيا. أخلُص إلى القول بأنّ الفعل المقاوم هو قوام الحياة الإنسانيّة بكرامة أي بعقل معرفي، ولولا هذه الثّقافة الإنسانيّة الأصيلة المتجذّرة في تاريخ الآدميّين منذ بداية التّاريخ لما كانت الحضارة الإنسانيّة أصلا.  
2.الكيان مركز الجريمة الكونيّة
نحن لا نستكثر على الغرب تربّعه على عرش الحضارة الإنسانيّة منذ الثّورة الصّناعيّة تقريبا، وإسهاماته المهمّة في خلق زخم فكري وقيمي وتكنولوجي مكّن الإنسانيّة من تطوّرات مهولة وغاية في الأهمّية. ولكن -ومن دون أيّة عقدة نقص حضاريّة- أعتبر نفسي كمسلم عربي سليل حضارة إنسانيّة سابقة ساهمت بدورها في تطوير الحضارة الإنسانيّة، وعليه فأنا أيضا جزء لا يتجزّأ من هذه الحضارة الغربيّة، فأتعامل معها بكلّ أريحيّة آخذ منها ما هو إنساني كوني، ولا أخشى انتقادها، ولا أعتبره من المحرّمات. 
نعتقد وبقوّة أنّ كلّ الحضارات المتعاقبة عبر التّاريخ ارتكبت أخطاء وفظاعات بالرّغم من إسهاماتها، ولا أستثني من هذه الحقيقة الإنسانيّة الحضارة العربيّة الإسلاميّة. لكن يبدو أنّ الغرب ارتكب الخطيئة القاتلة «Le péché mortel»حينما أسّس الجريمة واستعملها لأغراضه الإمبرياليّة، وهنا أشير إلى صناعة الكيان في بداية القرن السّابق في سابقة تاريخيّة حيث، كما يقال، وعد من لا يملك أرضا لمن لا يستحق، في إشارة إلى وعد «بلفور» الشّهير. وعلى إثر هذا الوعد الباطل تأسّس الكيان عن طريق استقدام مهاجرين يهود وتسليحهم وتأسيس التّنظيم الإرهابي «الهاغاناه» الذي مارس القتل والتّهجير للسّكان الأصليين لفلسطين، ويعتبر هذا التّنظيم النّواة الأولى لجيش الكيان، حيث لا نستغرب اليوم ممّا نراه يحدث في غزّة من قتل وتهجير. اندلعت عدّة حروب بين دول الطّوق والكيان أهمّها سنوات 1948-1967-1973-1982، شاركت كلّ من مصر، وسوريا ولبنان والأردن، لن أغوص في التّفاصيل التّاريخيّة المعروفة نسبيّا، وسأقف فقط على نتائجها المتمثّلة في وضعيّة العجز الحاليّة التي عبّر عنها النّاطق باسم المقاومة الإسلاميّة، أبو عبيدة بلطف «لا سمح اللّه».
أعود للغرب وعلاقته بالكيان، فقد انقلب السّحر على السّاحر، وتوسّعت دائرة التّطبيع والتّورّط مع الكيان المجرم لتشمل صحافيّين وفنّانين ورجال أعمال وبالطّبع نخبا سياسيّة، حتّى بات شبه تقليد مقدّس أنّ كلّ من يتطلّع لسدّة الحكم في أمريكا أو في ألمانيا وفي بريطانيا وجب عليه الحجّ للكيان وذرف بعض الدّموع عند حائط المبكى، في تقليد أعمى يشبه طقوس المافيا، فقط لإثبات الولاء للمنظمة الإجراميّة. تشابكت المصالح الفرديّة للنّخب الغربيّة مع الجريمة المنظّمة المتمركزة في الكيان، فباتت جزءا منها. وهذا ما يجعل بالتّحديد رجل ثمانيني مثل «بايدن»، وهو سياسي مخضرم يتربّع على أعلى هرم للسّلطة في الولايات المتّحدة -الدّولة الأعظم والممثّلة بدون منازع للحضارة الغربيّة-، يردّد حماقات وأكاذيب الكيان من كذبة قطع رؤوس الرّضّع إلى تخدير الأسيرات واغتصابهن حتّى يبدون سعداء. هذا الخضوع الأرعن والمفضوح لدعاية الكيان من قبل جلّ قيادات الغرب وترديد الأكاذيب والمفبركات الإعلاميّة التّافهة والسّطحيّة من دون أيّ تحقيق، يدلّ وبوضوح على أنّ هذه الشّخصيّات متورّطة في الجريمة، ولا يمكنها التّحرّر من ذلك خشية الفضيحة أو التّصفية.    
«من حفر جبّا لأخيه وقع فيه»، نعم هذا المثل الطّفولي ينطبق بحذافيره على واقع الحال للغرب المتغطرس والمهيمن، فلقد وقع الغرب عبر نخبه في فخّ الجريمة المنظّمة، وأصبح الكيان عبارة على منصّة عالميّة لتبييض أموال دافعي الضّرائب الأمريكان والغربيّين التي تتدفّق بسخاء في شكل إعانات دوريّة دائمة تصل إلى مليارات الدّولارات –وما خفي أعظم- تنتهي جلّ هذه الأموال إلى جيوب أفراد العصابة العالميّة من سياسيّين متنفّذين وتشترى بها ذمم مثقّفين ومفكّرين وصحفيّين مرموقين لتلميع صورة العصابة وصناعة ذرائع فكريّة، على غرار معاداة السّاميّة والنّسويّة المتطرّفة والمثليّة الجنسيّة. يبدو أن الحقيقة المرّة التي تمنّيت لو لم أدركها حتّى، هي أنّ الغرب الذي كنّا نحسبه مركز الحضارة الكونيّة الحاليّة هو في الواقع مجرّد واجهة للجريمة المنظّمة العالميّة، والتي في تقديرنا وصلت إلى مستوى غير مسبوق من السّيطرة والتّمكين في تاريخ الإنسانيّة. وهنا أعود لمسألة وجاهة المقاومة من عدمها، فإنّه بفضل حركة المقاومة الإسلاميّة «حماس» وما قامت به من اختراق لخطوط الكيان في السّابع من أكتوبر، وبفضل إدارة المعركة البريّة والإعلاميّة بكفاءة عالية، تمّ فضح الطّابع الإجرامي للكيان وللغرب عبر العالم وخاصّة في وسط المجتمعات الغربيّة ذاتها التي بدأت بالتّساؤل الجدّي على حجم المساعدات التي تذهب للكيان وجدواها. أنهي هذه الفقرة بتساؤل أعتبره جوهريّا ومصيريّا ولكنّي لا أملك له أيّة إجابة: هل يمكن لحضارة باتت مرتبطة بالجريمة المنظّمة ومطبّعة معها أن تتواصل؟  
3. الحقيقة والحقّ جوهر الوجود الإنساني
نتطرّق هنا إلى التّساؤل حول عدم تمكّن الغرب وكيانه المصطنع من تصفية القضيّة الفلسطينيّة، بالرّغم من تفوّقه الهائل وإمكانيّاته اللاّمحدودة تقريبا في كلّ المجالات. فهل أنّ قوانين الكون لا تسمح بالقفز على القضايا العادلة مهما كانت قوّة المعتدي وجبروته، ما دام هناك من يقاوم؟ من قبيل ما ضاع حقّ وراءه طالب. وإن كان فعلا كذلك، فلماذا لا يمكننا أن نقفز على القضايا العادلة بالرّغم أنّنا كبشر ننزع طبيعيّا إلى شيء من الأنانيّة والتّسلّط ولا نتردّد في استعمال الكذب لتبرير ذلك؟ سوف نقلّص دائرة تفكيرنا إلى المجال المعرفي لبساطته أمام مجالات الحياة عامّة والتي هي أكثر تعقيدا. نتساءل لماذا لا يمكننا القفز على الحقيقة بالرّغم من أنّنا يمكننا الكذب كما نشاء ومتّى نشاء؟ تجدر الإشارة إلى أنّ معنى الحقيقة فيه كثير من الجدل الفلسفي كما هو معتاد عند الفلاسفة، فهناك من لا يعتقد في وجودها أصلا، وهي في نظرهم مجرد اعتقادات لاغير، تعوّدنا عليها مع مرور الوقت. 
من وجهة نظري ومن منطلق مرجعيّتي العلميّة الرّياضيّة أعتقد في حقيقة الحقيقة العلميّة والمعرفيّة وأعتبر أنّ الإنسان مهما حاول فهو تحت رقابة عقله الذي يعمل كآلة بحث عن الحقيقة على مدار السّاعة. فبمجرد أن يبدأ الإنسان عمليّة التّفكير والتّساؤل في موضوع ما يبدأ عقله لا إراديّا في مراكمة المعلومات وفحصها وتمحيصها وترتيبها، ولا يكفّ عن البحث حتّى يستقرّ ولو على جزء من الحقيقة وكلّما زادت إرادة السّائل وسعيه للاطلاع والمراجعة، وكلما تخلّص من هواه وتراكماته النّفسيّة المعقّدة، كلّما طوّر العقل امتلاكه للحقيقة وتمكّنه منها. وأكبر دليل على ذلك هو المراكمة العلميّة في شتّى العلوم والتي بدأت منذ آلاف السّنين عند الصّينيين والمصريّين( 3000 سنة قبل الميلاد) مرورا بالإغريق (700 سنة قبل الميلاد) ووصولا إلى عصرنا الحالي والتي لا تمرّ فيه ثانية من دون تطوّر علمي أو تكنولوجي. 
إنّ الحقائق العلميّة طوّرت فهم الإنسان لمحيطه وزادت في قدرته على إنتاج القيمة والثّروة، وبالتّالي تحقيق الخيريّة للإنسانيّة جمعاء، حتّى أنّ الإنسان بات يؤمن بالحقيقة العلميّة وهو مستعدّ للمقاومة من أجل التّعريف بها ولو أدّى ذلك إلى هلاكه. من ينسى قصّة العلاّمة الفيلسوف ابن رشد من مواليد قرطبة سنة 1126م والذي مات بحسرته منفيّا في مراكش من أجل إيمانه بأنّ الفلسفة والتّفكير لا يتناقضان البتّة مع الدّين بصفة عامّة والدّين الإسلامي بصفة خاصّة، ولم تشفع له لا وجاهته العلميّة ولا غزارة كتبه وتنوعها، وخاصّة منها ترجماته لأفلاطون وأرسطو ومناقشته لهما، والتي كانت جسرا أساسيّا عبرت من خلاله أوروبا نحو حداثتها، واستطاعت تأسيس مسار طويل من العقلانيّة ومن ثمّ تطوّر معرفي وحضاري. وقصّة «قاليلي» ذلك الفيزيائي الإيطالي المولود في مدينة بيزا الإيطاليّة سنة 1564 والذي أصرّ على حقيقة أنّ الأرض ليست ثابتة وهي تدور حول الشّمس، وخالف بذلك المعتقد المسيحي آنذاك، فسجنته الكنيسة حتّى توفي سنة 1642م وهو يردّد جملة الشهيرة «Et pourtant elle tourne» أي «ورغم ذلك فهي تدور»في إشارة إلى دوران الأرض حول الشّمس. 
لقد قاوم «ابن رشد» و«قاليلي» لا لشيء إلاّ من أجل الحقيقة ونشرها، غير مبالين بتبعات ذلك من نفي وسجن. وبفضلهم وفضل غيرهم من المقاومين انتشرت الحقيقة المعرفية وانتصرت على الإسقاطات وعلى المقدس الجامد وعلى الخرافة، فخضع الإنسان وأذعن إلى الحقيقة المعرفيّة والعلميّة، ولم يعد يشكّك فيها أحد في عصرنا الحاضر، فباتت المرجعيّة المطلقة لكلّ تطوّر تحقّقه الإنسانيّة. 
إن الإنسان بخضوعه للمعرفة وللعلم تحرّر كلّيا من الرّجعيّة والجمود الفكري، وأصبح يسافر على الدّوام في ملكوت الحقيقة -لا أريد إقحام اللاّهوت في هذا السّياق بالتّحديد، ولكنّي أأْبى إلاّ أن أقول ملكوت اللّه- باحثا عن حقيقة علميّة جديدة هنا وهناك تزيد من الخيريّة للبشريّة جمعاء. 
لقد كلف الإنسان آلاف السّنين حتّى يذعن للحقيقة العلمية ويخضع لها، وسوف يخضع الإنسان، طال الزّمن أو قصر، للحقّ وللعدالة ولكلّ القيم الإنسانيّة، وسيقف الجميع إلى جانب القضايا العادلة، وتتحرّر الإنسانيّة من الخضوع للجريمة، بالضّبط كما هو الحال في المسألة العلميّة. 
وبخضوع الإنسان للحقيقة العلميّة وللحقّ كقيمة أخلاقيّة يخضع شيئا فشيئا للحقّ المطلق ألا وهو اللّه الحقّ، وحينها تتحقّق حرّية الإنسان من نزعاته الإجراميّة الرّجعيّة ويسافر بلا معوقات في ملكوت الحقّ لتحقيق المزيد من الخيريّة للجميع والمزيد من الحضارة. 
ننهي بالقول شكرا ابن رشد، شكرا قاليلي، شكرا غزّة، شكرا للمقاومة.