في العمق

بقلم
الهادي بريك
الحرية أسبق من العقيدة والعدالة أسبق من الشريعة (1)

 حاجتنا إلى هذه المعالجة هي اليوم مؤكدة بسبب إندراجها ضمن فقه الأولويات ـ الذي كان يسمى قديما : فقه مراتب الأعمال ـ. ولا أظن أن مجادلا يجادل في تقديم ترتيب أولوياتنا على ترتيب مركبات تلك الأولويات ذاتها. فقه الأولويات لا ينتمي إلى فقه الشريعة الإسلامية فحسب. بل ينتمي ـ قبل ذلك أصلا ـ إلى فقه الحياة وإلى فقه المنطق العقلي البدهي الذي نخضع له في ترتيب حياتنا بما ركّب فينا من ملكات فطرية وغريزية وجبلية هادية. بعض الناس اليوم يفرون مما تتعلق معالجاته بالموضوعات الشرعية سيما إذا كانت على غير المنهاج السائد ظنا منهم أن ذلك أمر خاص بأهل الذكر في ذلك الحقل من جهة ومن جهة أخرى ظنا منهم أن الشريعة شيء والحياة شيء آخر أو أن النظام الإسلامي الدنيوي شيء وأن النظام الإسلامي الأخروي شيء آخر. النظامان إما أنهما يتماثلان أو يتجانسان عن كثب قريب جدا ـ وذلك هو رأيي ـ وإما أنهما يصدران عن مشكاة واحدة فهما صنوان شقيقان. ألا ترى ـ مثالا واحدا صغيرا على ذلك ـ أن النظام الأخروي شبيه جدا بالنظام الدنيوي سيما عندما نؤجل الحديث عن قيم العدل والجور وقيم الحق والباطل وقيم المصلحة والمفسدة. كلاهما يشتمل على نظام عقابي تأديبي وكلاهما يشتمل على نظام وقائي علاجي وكلاهما يشتمل على نظام تربوي تأهيلي إعدادي. عندما يقبل المرء على تعلم الإسلام وفق ذلك المنهاج الجامع بين النظامين في إنسجام ووئام وتكافل فإنه كمن يدخل بيتا من بابه المعروف لا متسلقا وذلك هو إحدى معاني قوله سبحانه في سورة البقرة ( الآية 189 ) : « وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البرّ من إتقى وأتوا البيوت من أبوابها وأتقوا الله لعلكم تفلحون».(1) إتيان البيوت من أبوابها ومن ظهورها ليس عملا له علاقة بالتطيّر في عصر الوثنيات الغابرة فحسب ولكنه عمل فكري كذلك مازال بعضنا يزاوله تطيّرا عقليا وروحيا. حياتنا مبناها مطالب كثيرة لا تنتهي ولا مناص لنا من النظر مليّا في تلك المطالب ـ مطالب فعل ومطالب ترك ـ بقصد ترتيبها ضمن سلم أولوي معقول ومفهوم يأخذ بعين الإعتبار مؤهلاتنا والمتاح لنا إذ مبنى فقه الحياة هو الموافقة بين ما هو واجب وبين ما هو ممكن. لو يعلم الذين يطحنون أنفسهم طحنا ـ إما بدوافع دينية  أو دنيوية ـ أن كسبهم في حصيلة الميزان النهائي لن يتعدى ما هو ممكن أبدا البتّة لفاؤوا إلى تلك المعادلة منذ البداية ولما عرّضوا أنفسهم إلى الإنبتات الذي لا يقطع بصاحبه أرضا ولا يبقي له على ظهر. ألست ترتب أولويات يومك عند كل فجر جديد وكذا أولويات أيامك القابلة وذلك بحسب مؤهلاتك البدنية والفكرية والمالية وبحسب ما هو متاح لديك من الأوقات والأعمال وممكنات المكان والحاجة مراعيا ضغوطات الضرورة. لم يحيّرني سؤال في حياتي سوى هذا السؤال : لم تفعل كذلك في حياتك الدنيوية فإذا إنقلبت إلى إهتماماتك الدينية تفكيرا وسلوكا طويت ذلك المنهاج العادل لتصبح عالة على الفوضى التي لا تعترف بفقه مراتب الأعمال أثرا من آثار النظر في الموازنات والمصالح والمفاسد وترجيحا بينها لتصيب أكثر الكسوب أجرا وفي أقصر الأوقات في كثير من الأحيان ولتجتنب أكثر العطوب وزرا.

كثيرا ما تمتلئ أذهاننا بدلالات خاطئة ونحن لا نشعر ومنشأ ذلك التعجّل هو عدم تأملنا في العبارات. من ذلك أن كثيرا من الشباب اليوم لا يفهم مسألة الأولويات سوى أنها صرف لتلك الأولوية المؤخرة من دائرة الإهتمام والحقيقة على خلاف ذلك بالتمام والكمال إذ الترتيب الأولوي لأعمالنا ـ تفكيرا وإنجازا ـ هو ترتيب أفضلي أسبقي وليس ترتيبا إلغائيا ومن بعد ذلك فإن الترتيب الأولوي عملية تنظيمية تقتضيها ما شكا منه المصلحون دوما أي رجحان كفة المطلوبات على كفة الممكنات.
منشأ المشكلة وتحريراتها المطلوبة
نفي طروء المشكلات الذي يلجأ إليه بعضنا هو الحكم بالإعدام على إمكانيات التطور والتحسن والتقدم وبمثله في ذلك جعل تلك المشكلات ألغازا وطلاسم وجودية لا سبيل إلى معالجتها إلا بالإقصاءات والإلغاءات والتضييقات. ثمرة المسارين واحدة رغم أن كلاهما يسير في الإتجاه المعاكس للآخر.
المشكلة هي علاقة الإسلام بالحياة. علاقة تطرحها العالمانية الغربية لفسح المجال أمام الحياة وحسرها أمام الإسلام. وهي علاقة أخرى تطرحها السلفية العربية لفسح المجال أمام الإسلام وحسرها أمام الحياة. هؤلاء ينطلقون من منطلق صحيح في الأصل ولكن تنكبوا حسن فقهه. صحيح أن الإسلام إنما جاء لتوجيه الحياة وتخليص الأحياء من ربقات الرّق ووهدات الإستعباد. ولكن الذي تنكبوا فهمه هو أن الإسلام إنما جاء لتحقيق ذلك بالرضى والتعاقد والتفاهم والإقتناع وذلك هو معنى الإيمان الذي يسبق العمل دوما بمثل ما يسبق الكفر عمل الكافر. المشكلة هي علاقة الإسلام بالإنسان. وهي علاقة يتنكبها الفريقان : الفريق العالماني الغربي الذي يكره الإنسان على تقديم الحياة ـ أو قل الدنيا ـ وتأخير الإسلام وهي إكراهات طامنت من غلوائها المواثيق الحقوقية الإنسانية التي فرضتها إستحقاقات الحرب العالمية الثانية. والفريق السلفي العربي الذي يكره الإنسان على تقديم الإسلام وتأخير الحياة أو الدنيا وهي إكراهات تغذيها مساحات غير قليلة من تراثنا وتاريخنا ويستجيب لها الناس لفرط الجهل حينا وليقظة العاطفة الدينية حينا آخر ولحدة السؤال المطروح بقوة وشدة منذ قرون طويلة وهو سؤال النهضة العربية المعاصرة. أي : لم تقدم غيرنا وهو كافر وتأخرنا نحن ونحن مسلمون. السؤال صحيح ولكن المقاربة خاطئة. السؤال ذاته صحيح في الجملة ولكن التفصيل لا يضمن تلك الصحة كاملة. ذلك أن معايير التقدم والتأخر التي تأبطناها في المعالجة هي معايير غربية لأنها مادية فحسب. ولكن دعنا نقرر صحة السؤال رغم ذلك لأن معالجته تخرج بنا عن دائرة إهتمامنا في هذه المقالة المتعجلة المرتجلة. أما المقاربة فهي خاطئة وذلك بسبب أنها تواضعت في الجملة على كون تأخرنا هو ثمرة للبعد عن الدين. أصل المقاربة لا يخلو من صحة في الظاهر ولكن عند مباشرة التنزيل للقرب من الدين الذي إبتعدنا عنه نقترف خطأ شنيعا جدا قوامه أن بعدنا عن الدين كان بعدا مسلكيا عمليا فحسب ولذا تكون المعالجة من جنس الخطإ أي نفيئ إلى الدين عملا وسلوكا فحسب. منشأ الخطإ الأكبر هنا هو أن بعدنا عن الدين كان بعدا فكريا بالأساس. كان بعدا فكريا بالتاريخ ثم بالترسب والتراكم والإلف والعادة والتقليد وطول الأمد ظل ذلك البعد الفكري التاريخي واقعا ماثلا شاخصا لا ينكر وأنى لفاقد الشيء أن يعطيه ومن جهل شيئا عاداه بالطبيعة والضرورة.
صحيح أن الأطروحات العالمانية الغربية إنهزمت شر هزيمة في الدار الإسلامية وما كان ينبغي لها سوى ذاك لمن يدرك فقه السنن الإجتماعية التي أودعها الباري سبحانه كونه وخلقه. ولكن هزيمة تلك الأطروحات لم تكن لتنشئ نهضة من تلقاء نفسها. عندما تهجم على بيتك البالي فتهدمه فإن البيت الجديد الذي عمّر مخيالك أياما لن يقوم مكان البيت المهدوم بقانون : كن فيكون. أمر النهضات العمرانية الروحية والفكرية لدى الأمم والشعوب هو كذلك بالتمام  والكمال. الذي حدث فينا كان أشد علينا من ذلك بقليل. الذي حدث فينا هو أن غروب البديل العالماني الغربي المتطرف كانت تعتمل في أحشائه بدائل إسلامية تختلف ولاءاتها إلى الإسلام من بديل إلى آخر وتتعدد وفاءاتها لرسالة الإسلام ومبادئه وعقائده ومقاصده كذلك من بديل إلى آخر. هما بديلان كبيران جديران بالمعالجة. البديل الوسطي المعتدل المتوازن والبديل السلفي المتورم والمغالي. أما البديل الوسطي فبالرغم من نجاحاته الكثيرة والكبيرة فإنه أخفق في شيء مهم وكبير وهو التعبئة الشعبية الواسعة بالمفاهيم الإسلامية الناصعة الصحيحة في قضايا مفتاحية من مثل المرأة والأسرة ومن مثل الدولة والسياسة والشأن العام وغير ذلك. ظل ذلك البديل نخبويا إلى حد بعيد كما أنهكته المعارك السياسية التي جنى منها دون شك مساحات معتبرة لفائدة البديل الإسلامي. ولكن تفريطه في المعركة الفكرية التثقيفية التنويرية ـ بله الإجتهادية التحديثية التجديدية ـ من جهة وتورم الإهتمامات الداخلية التنظيمية فيه على حساب العمل الشعبي الميداني الجماهيري من جهة أخرى .. كان ذلك الفراغ محلا للملء ـ جزئيا وليس كليا ـ من لدن البديل السلفي المتورم المغالي. وذلك هو الذي يفسر الإنقسام الإخواني السلفي الذي أفرزته الإنتخابات المصرية التشريعية من بعد الثورة الأخيرة. ينحاز المثقفون في العادة إلى التيار الوسطي وجزء كبير من عامة الناس من أصحاب التدين التقليدي إلى التيار السلفي. تلك هي جغرافية الإرث الداخلي فكريا من بعد ضمور التأثير العالماني الغربي. 
ولا يسعنا الحديث هنا عن تيار ثالث آخر يشق صف الأمة بوزن شبه ثقيل وهو التيار الصوفي بمختلف مدارسه الطروقية المغالية والمعتدلة وذلك بسبب إشتراكها جميعا في كلمة السر التي قوامها : زكّ نفسك وطهرها ولا عليك في الآخر إن ضل أو إهتدى. كما لا يسعنا الحديث عن تيار آخر عريض هو تيار جماعة الدعوة والتبليغ وهو تيار وإن كان إنتماؤه إلى التيار الوسطي المعتدل أدنى نسبيا فإن تأثيره محدود جدا إذ لا يتعدى الشأن الفردي الخاص. ذانك تياران أدنى إلى إعتزال الدنيا والحياة تأثرا وتأثيرا وصناعة لا فكرية ثقافية ولا سياسية وبذلك فإن الحديث عنهما غير ذي جدوى هنا سيما أن الحرب طاحنة شرسة بين أحدهما ـ وهو الإتجاه الصوفي ـ وبين التيار السلفي صاحب التأثير المعتبر في هذه الأيام. ولا يندّ ذلك كله عن المخلفات الطبيعية لرحيل البديل العالماني الغربي المتطرف.
معنى ذلك هو أن السرطان العالماني الغربي ـ مثله مثل كل سرطان بدني عافاكم الله جميعا ـ ما كان ينبغي له أن يرحل دون أن يخلف تشوهات جلدية أو في الأسماع والأبصار. وذلك هو الذي يجعلنا في مرحلة إعادة البناء ولعق الجراحات وتصويب المسار أوّلا قبل معالجة ما هو مطلوب إنمائيا ماديا وعمرانيا.
ولا ريب في أن الأمة التي تغيبت عن رسالتها الإسلامية الجامعة بين الدين وبين الحياة لا مناص لها من أن تواجه مثل ذلك. صناعة الأفكار وتصحيح العقول ليس هناك أشق منهما على وجه الأرض طرا مطلقا. قضايا الشريعة والحرية وغيرها لم تكن مطروحة لا زمن الإحتلال الذي خضعت له الأمة طويلا إذ كانت الأولوية للمقاومة ولا زمن الإستبداد السياسي الذي خيّم على الأمة من قبل ثورات الربيع العربي الراهن ردحا من الزمن طويلا وقاسيا وكانت الأولوية يومها كذلك للمقاومة. ولذا لا بدّ من مرحلة إنتقالية تفصل بين المقاومة وبين إعادة البناء وتصل بينهما كذلك. أما الإنتقال الآلي فلا تخضع له حتى الآلات الصماء فكيف بالإنسان مركب التكوين. 
ما معنى أسبقية الحرية عن العقيدة
أسبقية الحرية عن العقيدة معناها أن الإسلام ميثاق تعاقدي بين الإنسان وبين الله سبحانه وهو ميثاق تعاقدي حر لا إكراه فيه البتة بل إن الإكراه فيه من مبطلاته حتى لو لم تجد في كتب الفقه المدون أن الإكراه مبطل من مبطلات الإيمان وحسبك أنك لاف ذلك في كتاب الفقه الأول أي القرآن العظيم. أسبقية الحرية عن العقيدة معناها أن ذلك الميثاق التعاقدي الحر بين الإنسان وبين الله تعالى هو عقد ثنائي قد يشهده الإنسان بصفته ضيفا أو شاهدا أو غير ذلك ولكن لم يرد البتة أنه لصحة ذلك العقد لا بد له من شاهد أو شاهدين لا عدلين ولا فاسقين ولم يرد ذلك سوى في عقود دنيوية من مثل عقد النكاح وبعض عقود البيوع والمعاوضات وغير ذلك حفظا لحقوق الناس وليس تعسيرا على الناس أن يتبادلوا المنافع بما يقيم ضرورات حياتهم. تعال نستجلب شواهد على ذلك من الإسلام ذاته سيما من كتابيه الناطقين بإسمه أي القرآن والسنة. ذلك أدعى إلى التمكين لتلك الأسبقية ووضعها فوق طاولة الحوار معزرة بأدلتها المطلوبة. 
دعنا قبل ذلك نعالج مسألة تلك الأسبقية معالجة عملية. المعالجة العملية معناها هنا هو أن بسط الحرية أمام الناس هو الكفيل بإنجاز أمرين كلاهما أشد حلاوة من الآخر. الأمر الأول هو أن الإسلام وليد شرعي من صلب الحرية دون ريب في ذلك ولا شك. تلك قاعدة من أكبر قواعد الدعوة وتلك حقيقة تاريخية. أما الأمر الثاني فهو أن بسط الحرية أمام الناس يولد مناخا جديدا من الثقة في النفس والعزة والكرامة والصدق بين الناس والتكافل بينهم بما يوحد صفهم حتى وهم مختلفين لا فكريا فحسب أو مذهبيا ولكن دينيا كذلك. ذلك من شأنه أن يحقن المناخ الإجتماعي العام بحقنات المسؤولية ومن شأنه كذلك أن يبعث على الفعل والإنجاز والمشاركة بدل الإنزواء والتقوقع والتفرغ في الخلاء إما لحبك المؤامرات السرية أو للموت البطيء والإنتحار السريع. فإذا تحقق الأمر الأول من بسط الحرية أمام الناس أي إقبالهم على الإسلام إلتزاما فكريا وتدينا عمليا بتكافل وإجتماع وإشتراك وفقه وفهم ووعي فبها ونعمت وإن لم يحصل ذلك ـ دعنا نبسط فرضية لا مكان لها ـ فإن المجتمع يتعرض لما هو مثل ذلك أثرا إيجابيا أي أنه يتعرض لصناعة جديدة ملؤها الكرامة وحيثما وجدت الكرامة وجد الخير في الناس وبات التعاون منهم على الحق والقوة والمرحمة أمرا واردا في كل آن وأوان. أي أنك لو جنيت الأمر الثاني فحسب من وراء بسط الحرية أمام الناس فإنك كمن لقح بييضة بنطفة من نطف الإيجابية في التفكير بما لا يحتمل سوى تطور تلك النطفة إلى علقة ثم إلى مضغة ثم إلى إنسان سوي حر وليس هناك من خيار بين يدي الإنسان الحر سوى خيار الإسلام. يستوي في ذلك أن تكون المجتمعات التي تبسط فيها الحرية مجتمعات مؤمنة مسلمة أو غير ذلك أو هي مجتمعات رقّ دينها وهي في حاجة إلى تجديدات وتحسينات ونهضات أو حتى مجتمعات بلغت من ذلك مبالغ كبيرة إذ ليس للنهضة سقف يمكن أن ترتدّ عنه.
في الحلقة القادمة سنحاول الإجابة على السؤال التالي: « ماهي الأدلّة على أسبقيّة الحريّة على العقيدة في الكتاب والسنّة؟»