خواطر

بقلم
شكري سلطاني
من الخلق إلى البعث
 كثيرا ما يتبادر للذّهن مسألة بعث الإنسان بعد موته وحياته الاُخرويّة، أهي حقيقة يقينيّة ستتحقّق أم وهْمُُ لن يقع؟
موضوع بعث الإنسان بعد موته أشكل على البعض فخاضوا فيه دون هُدى وعلم وبرهان ودليل، فلقد تناولوا الإشكال من زاوية فلسفيّة ماديّة حسيّة صرفة ضمن حدود الإمكانات الحسيّة الماديّة المتاحة للنّظر والتّفكير لتطغى على تفكيرهم وذهنيتهم «أرحام تدفع وأرض تبلع»، مستندين إلى مبدأ (Lavoisier): «لا شيء يضيع، لا شيء يُخلق وكلّ شيء يتحوّل». فهل يثبت هذا المبدأ والرّؤية الأحاديّة في نفي قضيّة الخلق والبعث أمام المقاربة الشّاملة التّي تتناول وجود الإنسان بكل أبعاده الماديّة والمعنويّة؟
لقد أثبت العلم التّكوين المادّي والتّرابي للإنسان بوجود تشابه مكوّناته وعناصره المعدنيّة مع معادن التّربة وهذا منطقي جدّا، فالإنسان يتغذّى من التّراب ومادّة تكوينه التّراب، فقالبه الجثماني الذي يوارى التّراب من تراب.
ولسائل أن يسأل من أتى بالإنسان للوجود وقد كان عدما؟ فعلمنا بأنّ مصدره خليّة أوليّة، بويضة ملقّحة لا يكفي لتفسير وجوده حيّا يُرزق بأجهزة مختلفة وجسد متكامل الوظائف متّحد بنيّة ووظائف  وسرّ الحياة فيه وقد كان عدما. لا بدّ من وجود سرّ الحياة يرافق الإنسان لكي يتحوّل من العدم إلى الحياة. فمن سخافة العقل البشري الإعتقاد بالبُعْد المادّي فقط لتفسير معنى الحياة.
النّظريّة المادّيّة والأحاديّة عاجزة عن التّفسير، ويستحيل أن يُفهم  تحوّل الانسان من عدمه إلى وجوده بمجرّد إكتساب مادّة جامدة طفرات وتفاعلات كيميائيّة حوّلتها من حالة اللاّشيء إلى حالة الحياة الكينونة. ولذلك يُستعصى تيقّن بعثه من جديد بعد موته، فمفهوم المادّيين وتمثّلاتهم أنّ الإنسان مادّة انتهت واضمحلت وتلاشت وتحوّلت نهائيّا إلى مادّة أخرى ليستحيل بعد ذلك وجوده وبعثه من جديد.
إنّ عمق التأمّل والتفكّر في وجود الإنسان وحياته ببصيرة حيّة غير عمياء يُحيل الباحث عن الحقيقة إلى فهم أرقى وأعمق. إذ أنّ قليلَ العلم والفلسفة يؤدّي إلى الإلحاد والتعمّق والكدح يؤدّي إلى الإيمان وتجاوز ظاهر الظّواهر والمظاهر. إنّه من البلاهة والحماقة والسّفاهة الإعتقاد بالطّرح المادّي.
إنّ تحوّل الإنسان من الحالة العدميّة إلى الحياة والوجود بكينونته وصفاته لا يمكن أن يكون إلاّ بسرّ الحياة وإشعاع نور الحياة في ظلمة العدم: ﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾(الإنسان: 1)
نور الحياة وسرّها قبس إلاهي من خالق حكيم عليم خبير، فلا  يمكن أن يكون معنى الحياة والوجود  صدفةً عبثيّة عمياء وإلاّ لكان الإنسان عبثيّا أعمى لا حياة ولا بصر ولا إحساس ولا تفكير ولا إرادة ولا سعي ولا إنفعال ولا تفاعل، كُتلة لحميّة دون شكل وبدون معنى.
إنّ الكون يحتضن الإنسان ومهيّأ لإستقباله، فهو يحتويه لكي يكون لحياته معنى ولوجوده هدف وقصد، نقضا للعبثيّة والفوضويّة :﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾(المؤمنون: 115)
إنّ فهم الإنسان حقيقة لا يُمكن أن يُفهم إلاّ بمفهوم متعالٍ متجاوز للإنسان، إذ كيف يحيط المُحاط بما لا يحيط به، غيب قد خُفي عنه ؟!
إذا سلمنا بداهة بإستحالة إيجاده من عدم إلاّ بقدرة وحكمة ربانيّة تجلّت في بنية الإنسان ووظائفه الحياتيّة، فكلّ جهاز يشتغل بدقّة لأداء وظيفة ذات دلالة بارزة وبرهان ساطع لأولي الألباب:﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونََ﴾(الذاريات: 21)
في خلق الإنسان يقول العزيز الحكيم:﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُون﴾(الحجر: 28) ثم يعقّب قائلا سبحانه﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾(الحجر: 29)، إذن هي قاعدة ماديّة للإنسان صلصال من حمأ مسنون أي من سلالة من طين، والطّين يتكوّن من الماء والتّراب:﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾(المعارج: 12) وقال سبحانه:﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾(المؤمنون: 115)وقال:﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(آل عمران: 59) وقال أيضا:﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾(الروم: 20)، فالإنسان ترابيّ المنشأ والخلق.
 كان في العدم حيث لم يكن للإنسان وجود في ذلك الزّمان الربّاني إلاّ في علم اللّه الباطن، ثمّ سوّاه ربّه لتتحدّد ملامحه الجثمانيّة بمادّيتها الطّينيّة التّرابيّة. إنّا كذلك نفهم شأنه بعد الموت ورجوعه إلى العدم غير المعدوم بموته ورحيله عن الدّنيا، فهو حينئذ قاعدة مادّيّة مُستسلمة صاغرة ذليلة ساكنة دون نبض الحياة. ولكن أين يكمن الفرق الذّي يدُلّ على الحياة والبعث؟
فبعد أن سوّاه ربّه عزّ وجلّ من صلصال من حمأ مسنون نفخ فيه من روحه:﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ﴾(الحجر: 29)، هنا يُفهم سرّ الحياة ومعنى البعث، فنسمات الرّوح الإلهيّة التّي غمرت جسد الإنسان وقالبه الجثماني الطّيني جعلت منه كائنا حيّا مُبْصرا مُفعما بالأحاسيس، يتلمّس ، يتحسّس ويتحرّك ساعيّا إلى قصد وهدف.
هذا معنى لسرّ الحياة التّي تدفّقت في كيان البشر لتنقلهم من العدم إلى الحياة.
فما أيسر البعث إذن بعد حصول  الخلق! فإن غاب جسد الإنسان وتحلّل في التّراب فروحه عند ربّه لطيفة إلاهيّة مُكتملة المعاني حاملة عنوان ومدوّنة الحياة تجعل من وجوده العدمي غير المعدوم في القبر إمكانيّة العودة كرّة أخرى إلى حياة أخرويّة سرمديّة بقدرة قادر إذ أنّ أمره بين الكاف والنون.
ولكن كيف يُحيط الإنسان بما خفي عنه من غيب وهو المحاط؟
إنّ عملية البعث التّي أنكرها الملحدون وارتاب فيها المرتابون أيسر من عمليّة الخلق في الفهم وكلاهما عند العزيز الحكيم يسير فعله: ﴿إِنَّمَا أَمْرهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(يس: 82)
لقد اختفى بالموت جسم الإنسان وغاب عن بصائرنا، وإن إضمحلّ وتحلّل وتلاشى في التّراب فروحه عند ربّه، وقد كانت عند الإنسان وديعة في الحياة الدّنيا وسُلٍبت بالموت، فعندما يأذن سبحانه يتمّ إعادة تحميض الهيئة المعنويّة للإنسان في المخبر الربّاني لترجع صورته البشريّة كما كانت من قبل بلباس سرمديّ أُخروي: ﴿مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا﴾(يس: 52)
وكمقاربة للتّشبيه -وللّه المثل الأعلى - فإنّ المصوّر عندما تكون لديه صورة مهترئة فقدت بريقها ومعالمها وأراد أن يعيدها كما كانت من قبل، فهو يستعمل سالب الصّورة « négatif» ويقوم بعمليّة التّحميض في مخبره لترجع الصّورة بعد ذلك ناصعة كما كانت من الأوّل بعد فسادها.
ولو ألقينا نظرة فاحصة لمفهومنا الدّيني لوجدنا في تراثنا التّليد أنّ الملك الطّاهر «إسرافيل» يقوم  بمهمّة النّفخ في الأرواح، ليتمّ البعث وبداية الحياة الأخرويّة.
فالخلق من العدم إنطلاقا من علم اللّه الباطن، فلقد كان البشر أعيانا ثّابتة في علم اللّه والبعث من العدم غير المعدوم حيث الرّوح عند ربّها ولا رادّ لحُكم اللّه سبحانه وتعالى عندما يأمر بعمليّة البعث والحياة الأخرويّة.