بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
براءة الشهادة الحلقة السادسة: الشهيد الميت، الفضل والمصير
 بعد أن خصّصنا الحلقة الأولى من هذا البحث (العدد 191، جوان 2023) في تتبّع ما أثاره أصحاب المعاجم من معان ودلالات عليقة بمادّة «شَهِدَ»، مبتدئين بابن فارس، ثمّ الرّاغب الأصفهاني، ثمّ ابن منظور. عمدنا من خلال البحث في المدوّنة التفسيريّة بمذاهبها المختلفة في الحلقة الثّانية (العدد 192، جويلية 2023) إلى رصد مفهومي «شَهِدَ» و«الشّهادة»، وفي الحلقة الثالثة (العدد 193، أوت 2023) إلى مفهوم «الشّهيد الحي»، وفي الحلقة الرّابعة (العدد 194، سبتمبر 2023) إلى مفهوم «الشّاهد».
واتضح بعد التحليل، بما لا شكّ فيه، أنّ دلالة فعل «شَهِدَ» مبنيّة على الحياة والحضور والعلم والدّراية. وبالتالي فإنّ «الشّهيد» بريء من الموت، وما فكرة الموت إلاّ معنى مضاف عمّقه الاستعمال وكرّسته الثّقافة السّائدة.
وفي الحلقة الماضية (العدد 195، أكتوبر 2023) سعينا إلى رصد التّباين الحاصل بين ما ينصّ عليه القيل القرآني من معاني الحياة والسّلم الواردة في لفظتيْ الشّهادة والشّهيد وما تقوله الرّوايات من إضافات تكشف عن حجم الانزياح والتّوسع في المعنى إلى حدّ المناقضة التّامة حيث أصبح مفهوم الشّهادة معادلا للموت أو هو شرط من شروط تحقّقها. واتخذنا من إبراز قيمة السّيف وليجة للخوض في مسألة ارتباط الموت بمفهوم الشّهادة بما أنّ النّتيجة الطّبيعية لإعلاء قيمة السّيف وتمجيده هي استساغة فكرة الموت إلى حدّ تمنّيه، باعتبار أنّ الموت سيُمثّل الشّهادة ويجسّدها، والشّهادة هي بوّابة الجنّة. ممّا يدفعنا إلى الحديث عن مفهوم «الشهيد الميّت» كبديل عن «الشهيد الحيّ».
***
لقد تعلّقت بمفهوم الشّهيد روايات عديدة وأخبار متنوّعة غذّتها الثّقافة الشّفويّة وتضافرت فيها حكايات وفدت مع من أسلم من أهل الكتاب، فعبّرت عن مشهديّة عجيبة وتصوّرات هي أقرب إلى التّخييل منها إلى منطوق النّصّ القرآني، ونحاول في هذا العنصر الإتيان على أهمّها. 
فالنّاظر في تفسير مُقاتل بن سُليْمان(1)، يجده يذكر في تفسيره للآية ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ» قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا  بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَُ﴾(آل عمران: 169)، أنّ القتلى المقصودين هم الّذين قُتلوا يوم بدر. وكونهم ليسوا أمواتا بل أحياء عند ربّهم يرزقون يعني تمتّعهم بالثّمار في الجنّة، ذلك أنّ اللّه تعالى جعل أرواح الشّهداء طيرا خضرا ترعى في الجنّة لها قناديل معلّقة بالعرش تأوي إلى قناديلها (2)فاطّلع اللّه عزّ وجلّ عليهم فقال سبحانه: «هل تستزيدوني شيئا فأزيدكم؟»، قالوا: «أو لسنا نسرح في الجنّة حيث نشاء»، فاطّلع عليهم أخرى فقال سبحانه: «هل تستزيدوني شيئا فأزيدكم؟» ثمّ أطّلع الثّالثة فقال سبحانه: «هل تستزيدوني شيئا فأزيدكم؟» فقالوا: «ربّنا نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا فنقاتل في سبيلك مرّة أخرى، لما نرى من كرامتك إيّانا»، ثمّ قالوا فيما بينهم: «ليت إخواننا الّذين في دار الدّنيا يعلمون ما نحن فيه من الكرامة والخير والرّزق فإن شهدوا قتالا سارعوا بأنفسهم في الشّهادة: فسمع اللّه عزّ وجلّ كلامهم، فأوحى إليهم أنّي منزّل على نبيّكم ومخبر إخوانكم بما أنتم فيه، فاستبشروا بذلك، فأنزل اللّه عزّ وجلّ، هذه الآية يحبّب الشّهادة إلى المؤمنين. ثمّ قال سبحانه: ﴿ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(آل عمران: 170) أي راضين  بما أعطاهم اللّه من فضله المتمثّل في الرّزق. والاستبشار متعلّق برحمة اللّه وفضله ورزقه(3). 
وليس من العسير على المتأمل في هذه القصّة أن يلحظ أنّ الموت والشّهادة قد أصبحتا وجهيْن لورقة واحدة أو قُلْ هما شيء واحد، وتأمّل ما رواه سهل بن حنيف من أنّ النّبي ﷺ  قال: «من سأل اللّه الشّهادة بصدق، بلّغه اللّه منازل الشّهداء، وإنْ مات على فراشه»(4). كما رُوي عنه قوله: «من عشق وكتم وعفّ فمات، فهو شهيد»(5). وهذا المعنى يدعّمه تعريف الجرجاني للشّهيد في قوله: «هو كلّ مسلم طاهر بالغ قُتِل ظُلما ولم يجب مال ولم يُرْتث»(6). 
وقد ترّسخ  هذا المفهوم في الثّقافة الدّينية وتمّ توارثه من كاتب إلى آخر، وهذا محمّد بن أبي بكر الرّازي يعرف الشّهيد بكونه هو القتيل في سبيل الله(7). وهذا عبد الرّحمن بن غرمان يقول: «إنّ لفظة الشّهيد عند الإطلاق تدلّ على المقتول في سبيل اللّه وله أحكام تخصّه من عموم الموتى، وهو أيضا من يقتل في سبيل اللّه لإعلاء كلمة اللّه، في أرض الجهاد»(8).
كما أنّ الدّارس لا يعدم ملاحظة إساءة التّقدير لعلم اللّه الذي من المفترض أن يكون شاملا لدواخل أهل الجنّة، إذ هو أعلم بالسرّ وما يخفى وهو شرط كاف لتوفير كلّ المباهج والملذّات لهم بمجرّد أن تخطر ببالهم. ولكنّ اللّه بدا في الرّواية متسائلا عمّا يرغبون في الاستزادة منه وهو تصوّر متطابق تمام المطابقة للإله التّوراتي المُشبع بالصّفات الإنسانيّة، بالإضافة إلى أنّ الأرواح صُوّرت على أنّها تتغذّى من الثّمار المتوّفرة في الجنّة وكأنّها أجسام تجوع وتعرى، وذات نوازع وطبائع دنيويّة. وكلّ ذلك يعكس مبلغ المعرفة الدّينيّة من القدرة على التّجريد بحكم ارتهانها إلى فترة حضاريّة بعيْنها من عمر الإنسانيّة. 
وأمّا الطّبري فقد ذكر أنّ الآية، المشار إليها آنفا، وهي 169 من آل عمران 3 قد تكون نزلت في قتلى أُحد أو هي في أصحاب الرّسول الذين أرسلهم إلى بئر مَعُونة لتبليغ رسالته. ولما تقدّم ابن ملحان الأنصاري  يدعو أهل الحيّ إلى التّوحيد، خرج إليه رجل فضربه برمح حتّى خرج من  شقّه الآخر، فقال: «الله أكبر، فزت وربّ الكعبة». واتّبعوا أثره حتّى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم عامر بن الطُّفيْل جميعا، فنزلت فيهم الآية «بلّغوا عنّا قومنا أنّا قد لقينا ربّنا فرضي عنّا ورضينا عنه»، ثمّ نُسخت ورُفعت واستبدلت بهذه الآية. ويسترسل الطّبري في استعراض الرّوايات التي نقتصر على عرض البعض: 
- منها عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه ﷺ: «الشّهداء على بارق نهر بباب الجنّة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنّة بكرة وعشيّا»(9). 
- ومنها: أنّ الشّهداء أقسام: من تسرح أرواحهم في الجنّة، ومنهم من يكون على هذا النّهر بباب الجنّة، وقد يُحتمل أن يكون منتهى سيْرهم إلى هذا النّهر فيجتمعون هنالك ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح. 
- ومنها أنّ أرواح الشّهداء في حواصل طير خضر أو بيض، فهي كالكواكب بالنّسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنّها تطير بأنفسها(10). 
وما من شكّ في أنّ الجري وراء المرويّات من شأنه أن يتحوّل إلى حجاب يحول دون فهم آيات الكتاب. وإذا كان مُقاتل بن سُليْمان معروفا بروايته عن الضّعاف وأخذه بمّا عُرف بالإسرائيليّات، فلا عذر للطّبري في أخذه بهذه الأخبار المجافية لآيات القرآن إلاّ نزعته التّجميعيّة باعتباره مؤرّخا. وعليه فإنّ أرواح الشّهداء المشار إليها يجانب صريح القرآن، إذ الرّوح هي نفخة من اللّه تحوّل آدم بمقتضاها من المرحلة البشريّة إلى المرحلة الإنسانيّة. فالرّوح حينئذ هي حصيلة معرفيّة جعلت الإنسان قادرا على التّمييز بين الدّال والمدلول، ولا علاقة لها بالموت. وأمّا الكائن الّذي يطاله الموت فهو النّفس تبعا للآية: ﴿‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا  فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَُ﴾(الزمر: 42). 
وفي فضاء المرويّات الّتي لا تعترف بحدّ، نُلفي الطُّوسي يورد عن محمّد بن الحسن الصّفار عن عبد اللّه بن المنبه عن حسين ابن علوان عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه ﷺ : «للشّهيد سبع خصال من اللّه: أوّل قطرة من دمه مغفور له كلّ ذنب، والثّانية: يقع رأسه في حجر زوجتيْه من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه تقولان مرحبا بك، ويقول هو مثل ذلك لهما، والثّالثة: يُكسى من كسوة الجنّة(11)، والرّابعة: يبتدره خزنة الجنّة بكل ريح طيّبة أيهم يأخذه معه، والخامسة: أن يرى منزلته، والسّادسة: يقال لروحه اسرح في الجنّة حيث شئت(12)، والسّابعة: أن ينظر في وجه الله وأنها لراحة لكلّ نبي وشهيد»(13). 
كما نُلفي رواية عن أبي هريرة أنّ النّبي ﷺ  قال: «لا تَجِفُّ الأرضُ مِن دَمِ الشّهيدِ حتّى يبتدِرهُ زَوْجتاه، كأنَّهما طيّرانِ أضَلَّتَا فَصِيلَيْهما ببَراحٍ مِن الأرضِ، بِيَدِ كلِّ واحدةٍ منهما حُلَّةٌ خيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها»(14).
وبالنّظر إلى المدوّنة الفقهيّة، فإنّنا نجد أنّ الشّهيد لا يُغسلّ كما يُغسلّ سائر الموتى لأنّه طاهر وحيّ وكفنه هو ثوبه الذي استشهد به(15). والشّهيد حيّ لا يُمثل موته مصيبة شاقّة على الأهل وهو مكرّم عند ربّه. 
وفي فضاء الأحاديث يدخل الشّهيد الجنّة بغير حساب وهو أوّل الدّاخلين. ورد عن  أبي هريرة  قوله: أنّ النّبي ﷺ قال: «عُرض علي أوّل ثلاثة من أمّتي يدخلون الجنّة: الشّهيد، وعبد مملوك لم يشغله رقّ الدّنيا عن طاعة ربّه، وفقير متعفّف ذو عيال»(16). 
ولا يقنع الشّهيد بكونه أوّل الدّاخلين إلى الجنّة وإنّما هوّ يخوّل له بفضل شهادته، أن يشفع في طائفة من أهله، تبعا لما رواه نِمْرانُ بن عُتبَةَ الذّماريّ وقد كان مع إخواته، بعد أن فقدوا أباهم في حرب كانت في سبيل اللّه، قال:  «دخَلْنا على أمِّ الدَّرداءِ ونحن أيتامٌ، فقالتْ: أَبشِروا، فإنِّي سَمِعتُ أبا الدرداءِ يقولُ: قال: رسول اللّه ﷺ: يَشفَعُ الشّهيدُ في سبعينَ مِن أهلِ بيتِه»(17). 
وعن المقدام بن معدي كرب رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه ﷺ: «للشّهيد عند اللّه سبع خصال، يغفر له في أوّل دفعة، ويرى مقعده في الجنّة، ويجار من عذاب القبر، ويؤمّن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار: الياقوتة منها خير من الدّنيا وما فيها، ويزوّج اثنتيْن وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه»(18). 
وفي هذا المجال لا يفوت الدّارس التّنبيه إلى أنّ القرآن شديد الوضوح في حصر الشّفاعة في من يأذن اللّه له بها في قوله تعالى:﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندهُ إِلَّا بِإِذْنِهُِ﴾(البقرة: 255) . وانظر إلى عدم قدرة النّبي نفسه على تحقيق الشّفاعة في هذه الآية الّتي وردت في لهجة قوّية:﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارُِ﴾(الزمر: 19). ولمّا كان النّبي نفسا بشريّة، فإنّ الآية الواردة في سورة الانفطار واضحة بما فيه الكفاية أنّ الشّفاعة الأولى والأخيرة بيد اللّه تعالى وحده لأنّ الأمر كلّه بيده: ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهُِ﴾(الانفطار: 19). 
ومازالت المرويّات تحلّق بالمرء في عوالم الماوراء حيث سلامة جثة الشّهيد من كلّ ما يطرأ على بقيّة الجثث، وما يمكن أن تفعله الملائكة بأرواحهم، وما يمكن أن تكون عليه قبورهم، فما رواه عبد اللّه بن عمرو يُثبت أنّ المائد في البحر كالمتشحّط في دمه وإذا ماتَ لم يدوَّدْ في قبره(19). 
وما رواه جابر بن عبد اللّه، يقرّر أنّ أباه أُصِيبَ يَومَ أُحُدٍ، فَجَعَل يكشف الثَّوْبَ عن وَجْهِهِ، ويبْكي فنهاه الحاضرون، وَرَسولُ اللّهِ ﷺ لم ينْهه، قالَ: وَجَعَلَتْ فَاطِمَةُ بنْتُ عَمْرٍو، تَبْكِيهِ، فَقالَ رَسولُ اللّهِ ﷺ: تَبْكِيهِ، أَوْ لا تَبْكِيهِ، مازَالَتِ المَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بأَجْنِحَتِهَا، حتَّى رَفَعْتُمُوه(20). وفي رواية أخرى رائحة دم الشّهيد، يوم القيامة، كرائحة  المسك(21). 
وفي رواية عن أبي هريرة أنّ القتيل لا يشعر بآلام القتل تبعا لما أورده عن النّبي ﷺ أنّه قال: «ما يجد الشّهيد من مسّ القتل إلاّ كما يجد أحدكم من مسّ القرصة»(22). 
وأنّ الشّهيد يؤول إلى الجنّة دون حساب عن أنس بن مالك أنّ أُمّ الرُّبيّع بنت البرَاء وهي أمُّ حارثةَ بن سُراقةَ أتتْ النّبي ﷺ فقالت: يا نبيّ اللّه، ألا تُحدّثُني عن حارثة وكان قُتل يوم بدر أصابه سهم غَرْبٌ، فإنْ كان في الجنّة صبرت، وإنْ كان غير ذلك اجتهدت عليه في البُكاء، قال: «يا أمَّ حارثة، إنّها جنان في الجنّة وإنَّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى»(23). وفي رواية أخرى تُصوّر أنّ الشّهيد يدخل دارا هي أحسن وأفضل لم يُر قط أحسن منها هي دار الشّهيد(24). 
إلى هذا الحدّ من العرض يمكن الخُلوص إلى القول إنّ لفظ الشّهيد في المرويات قد تمحّض إلى دلالة اصطلاحيّة بعيدة عن الدّلالة القرآنية(25). الشّهيد في القرآن حيّ يرزق وهو سميع بصير. وهو في الاصطلاح المتداول ميْت بالضّرورة، وإنْ كان حيّا عند ربّه. وهذا المفهوم الاصطلاحي منتوج ثقافي لاحق أُلصق باستعمال قرآني سابق. وهكذا أصبحنا إزاء مغالطة منطقيّة وإسقاط تاريخي بارزيْن. 
وعليه فإنّ الدّارس يجد نفسه أمام مفهوميْن للشّهيد أحدهما لغوي قرآني، باعتبار أنّ القرآن بناء لغويّ. وثانيهما اصطلاحي، عملت الثّقافة على ترسيخه. والعلاقة بين هذيْن المفهوميْن علاقة تضادّ وتناقض وتعارض.
وإذا كان الشّهيد يدخل الجنّة بشكل مباشر، ودون حساب، فإنّ هذا الفضل لا أثر له في القرآن، ولم يُؤته حتّى الأنبياء المرسلين، لأنّ إلغاء الحساب يتعارض رأسا مع العدالة الإلهيّة. وإنّما نُسبت صفة بغير حساب إلى الرّزق الّذي يمنّ به اللّه على أهل الجنّة، واسمع هذه الآية: ﴿‏مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍُ﴾(غافر: 40)، والدّخول إلى الجنّة إنّما يكون بعد إقامة الحساب. وأمّا الإرزاق فهي العمليّة التي تعلّق بها انعدام الحدود  داخل الجنّة.
وفي معالجة مفهوميْ الحياة والموت اللّذيْن تكرّرا في آيات عديدة، واللّذيْن مثّلا للمفسّرين مدخلا لإثبات الحياة البرزخيّة للشّهيد، نشير بدءًا إلى أنّ سيطرة القول بالتّرادف وباشتراك البنيتيْن في المعنى ذاته قد حالا دون التّفريق بين استعماليْ القرآن لمفردتيْ الموتى والأموات. فهذا ابن منظور يجعل المَيْت كالميّت والقوم الموتَى كالأموات والميّتين كالميْتين(26). 
ولمّا كان لكلّ لفظ مصداق حقيقي وآخر مجازيّ، فإنّ الرّاغب الأصفهاني قد اعتبر أنّ حياة الذين قُتلوا في سبيل اللّه بمعنى نفي الموت عن الأرواح(27). وذهب ابن فارس إلى أنّ الموت هو ذهاب الطّاقة والقوّة  مستشهدا بحديث نبوي مفاده: «من أكل من هذه الشّجرة الخَبِيثَة فَلَا يَقْرُبَنَّ مَسْجِدَنَا، فإنّ كُنْتُم لاَبُدّ آكِلِيهَا فَأَمِيتُوهَا طَبْخًا»(28). وقد أوجز علي الجرجاني ثنائيّة الحقيقة والمجاز في قوله: «مَن مات عن هواه فقد حيّي بهداه»(29).
وفي هذا الإطار بدا لفظ «الموتى» في المصحف متعلّقا بمن فارق الحياة على الحقيقة. وبدا لفظ «الأموات» متعلّقا بمن ضعفت عقولهم وتبلّدت أذهانهم ونقُص إدراكهم لحقائق الأشياء وهم الّذين يعتبرهم القرآن كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا. وانظر إلى هذه الآية: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ  بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَُ﴾(البقرة: 154). 
وتتضّح الدّلالة الجارية‏ في لفظة «الأموات» أكثر فأكثر، ضمن الآيتيْن التّاليتيْن عندما تُطلق على الأحياء الّذين يدعون آلهة من دون اللّه: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَُ﴾(النّحل: 20-21). أمّا الموتى فهم في انقطاع تامّ مع هذا العالم وفي صمم مطبق، ومصداق ذلك ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَُ﴾(النمل: 79). ولكنّ الضّمير الدّيني المشبع بالمرويّات والمكبّل بها يصرّ على أنّ الشّهيد حيٌّ في قبره لا يتأثّر جسده بالقوانين التّي أودعها اللّه في الكون والطّبيعة، وإليك بعض هذه المرويّات: 
عن جابر بن عبد الله بن حرام قال: لما أراد معاوية أن يجري الكظامة قال: قيل: من كان له قتيل فليأت قتيله، يعني قتلى أُحد، قال: فأخرجناهم رطابا يتثنّون، قال: فأصابت المسحاة إصبع رجل منهم فانفطرت دما. وقال أبو سعيد الخدري رضي اللّه عنه: ولا ينكر بعد هذا منكر أبدا(30)، وعنه أيضا أنّه قال: «فرأيت أبي في حفرته كأنّه نائم، وما تغيّر من حاله قليل ولا كثير، فقيل له: فرأيت أكفانه؟ فقال: إنّما كُفّن في نمرة، خمر بها وجهه، وجعل على رجليْه الحرمل، فوجدنا النّمرة كما هي، والحرمل على رجليْه على هيئته، وبين ذلك ستٌّ وأربعون سنة»(31). 
وفي حقيقة الأمر يجد المرء نفسه تبعا لهذه المرويات إزاء التّساؤل عن جدوى القيام بصلاة الميْت وجدوى الدّفن من الأساس إذا كانت هذه الأجساد لا تتغيّر ولا تتحلّل. 
الهوامش
(1) أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي البلخي، ت 768م، 150هج، يلقّب بكبير المفسّرين، يروي على ضعفه البيّن وتشبيهه، عن مجاهد والضّحاك وابن بُريدة. انظر شمس الدّين الذّهبي، سير أعلام النّبلاء، ج1، تحقيق حسّان عبد المنّان، بيت الأفكار الدّولية، لبنان، 2004، ص3924. 
(2) مسلم، الصّحيح، مج7، ج13، م ن، كتاب الإمارة، باب: بيان أرواح الشّهداء في الجنّة، وأنّهم أحياء عند ربّهم يرزقون، حديث رقم1887، ص21.
(3) مُقاتل بن سُليْمان، التّفسير، ج1، دراسة وتحقيق عبد الله محمود شحاته، مؤسسة التّاريخ العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1423ه، 2002م،  ص314.
(4) مسلم، الصّحيح، مج7، ج13، م ن، كتاب الإمارة، باب: استحباب طلب الشّهادة في سبيل الله تعالى، حديث رقم1909، ص38.
(5) أبو بكر الخطيب، تاريخ بغداد، ج5، دار الفكر، مكتبة الجاني، د ت،  ص156. وقد حكم ابن القيم الجوزية بوضعه في المنار المنيف في الصّحيح والضّعيف، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط2، 1402ه، ص156.
(6) علي الجرجاني، معجم التّعريفات، تحقيق محمّد صديق المنشاوي، دار الفضيلة للنّشر والتّوزيع والتّصدير، مصر، د ت، مادّة «الشّهيد»، ص111. والمرتث هو من أصيب في المعركة أو غيرها ولم يُجهز عليه في مصرعه ثمّ مات بعد ذلك متأثرا بجروحه. ابن منظور، لسان العرب، مج 2، م ن، مادّة «رثث»، ص151.
(7) محمّد بن أبي بكر بن عبد القادر الرّازي، مختار الصّحاح، دائرة المعاجم، مكتبة لبنان، بيروت، 1992، ص9.
(8) عبد الرّحمن بن غرمان، أحكام الشّهيد في الفقه الإسلامي، دار الجبهة للنّشر والتّوزيع، جمادى الأولى 1428ه، ص3، وص110.
(9) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحيْن، ج2، دائرة المعارف، الهند، 1340ه، ص75.
(10)  الطّبري، جامع البيان، مج3، م ن، ص ص2059،2054.
(11)  تلقّف الأدب  هذه المعاني فكُتبت فيها الأشعار ومن ذلك قول أبي تمام في رثائه الطّوسي:  تَـرَدّى ثِـيابَ الـمَوتِ حُمراً فَما أَتى = لَـها اللَيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ. يمكن العودة إلى أمير مقدم متقى، الشّهادة والشّهيد في الشّعر العربي المعاصر، آفاق الحضارة الإسلامية، أكاديمية العلوم الإنسانية والدّراسات الفقهية، ع1، السّنة الرّابعة عشرة، ربيع وصيف 1342ه، ص2.
(12)  ما يدلّ على أنّ هذا الكلام غير صادر عن النّبي هو استعمال لفظ «الرّوح» لأنّ النّبي دأب على استعمال مفردة «النّفس» في قوله: «والّذي نفس محمّد بيده» علما بأنّ الرّوح هي ضرب من المعرفة حاصل من أوامر الله. انظر محمّد شحرور، الكتاب والقرآن، م ن،   وبالتّحديد نفخة الرّوح ص304. وطارق محمّد شحرور، عن الرّوح والنّفس والمعرفة في التّنزيل الحكيم، دار السّاقي، بيروت، لبنان، ط1، 2018، ص89 وما بعدها.
(13)  الطّوسي، تهذيب الأحكام، ج6، ، تحقيق السّيد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلامية،  طهران، إيران، ط4، 1365ه، حديث رقم 208، ص ص122،121. وفي هذه الرّواية ريبة تُثير أكثر من سؤال لعلّ من أبرزها: أين جزاء المرأة إنْ ماتت شهيدة؟ ومن سيتلقّاها في الجنّة؟ وابن الجوزي، العلل والمتناهية في الأحاديث الواهية، ج1، قدّم له وضبطه الشيخ خليل الميْس، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1403ه، 1983م،  ص585.
(14) ابن قيم الجوزية، زاد المعاد  في هدي خير العباد، ج3، مطبعة السّنة المحمّدية، د ت، ص83. 
(15) يذكّر هذا الأمر بقولة القدّيس كبريانوس: «إنّ في استشهاد الموعوظين بسفك الدّم تقوم الملائكة بطقس التّعميد».
  Eusébe de Césarée, Histoire Ecclésiastique, livres I-IV, traduit par Emile Grapin, Paris, Alphonse Picard Et Fils, 1905, p40
(16) جلال الدّين السّيوطي، الجامع الصغير في أحاديث البشير النّذير،  دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، د ت،  ص ص203،202.
(17) أبو داود، السّنن، ج2، م ن، كتاب الجهاد،  باب: في الشّهيد يشفع، حديث رقم 2522، ص ص219،218.
(18) التّرمذي، السّنن، بيت الأفكار الدّولية، د ت، كتاب الجهاد، باب: في ثواب الشّهيد، حديث رقم1663، ص285.
(19)  ابن الجوزي، العلل المتناهية  في الأحاديث الواهية، ج1، م ن، ص579. وانظر البخاري، الصّحيح، م ن، كتاب الجنائز، باب: هل يخرج الميْت من القبر واللّحد لعلّة، حديث رقم1351، ص278.
(20) مسلم، الصّحيح، مج8، ج16،  م ن،  كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب: فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر، رضي الله عنه،  حديث رقم 2471، ص169. والبخاري، الصّحيح، م ن، كتاب الجهاد، باب: ظلّ الملائكة على الشّهيد، حديث رقم2816، ص594.
(21) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ رسول الله قال: «والّذي نفسي بيده، لا يُكْلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يُكْلم في سبيله، إلاّ جاء يوم القيامة، واللّون لون الدّم، والرّيح ريح المسك». البخاري، الصّحيح، م ن، كتاب الجهاد، باب: من يخرج في سبيل الله عزّ وجلّ، حديث رقم 2803، ص591.
(22) أبو عبد الرّحمن أحمد بن شعيب النّسائي، السّنن، رقمه وصنع فهارسه عبد الفتاح أبو غدة، دار البّشائر الإسلامية، بيروت، ط4، 1414ه،  كتاب الجهاد، باب : ما يجد الشّهيد من الألم، حديث رقم 3161، ص36.
(23) البخاري، الصّحيح، م ن، كتاب الجهاد، باب: من أتاه سهم غرب فقتله، حديث رقم 2809، ص592.
(24) البخاري، الصّحيح، م ن، كتاب الجهاد، باب: درجات المجاهدين في سبيل الله، حديث رقم2791، ص589.
(25)  للاستزادة  من الاطّلاع على دلالة الشّهيد الاصطلاحية يمكن العودة إلى عبد الرّحمن بن غرمان، أحكام الشّهيد في الفقه الإسلامي، م ن، ص 14 وما بعدها.
(26)  ابن منظور، لسان العرب مج 2، م ن، مادّة «موَت»، ص91.
(27)  الرّاغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ج2، م ن، ص 617.
(28)  ابن فارس، معجم مقاييس اللّغة، ج 5، م ن، ص 283.
(29)  علي الجرجاني، التّعريفات،  م ن، مادّة «مَوَتَ»، ص199.
(30) ابن المبارك، الجهاد، تحقيق نزيه حماد، دار المطبوعات الحديثة، جدة، د ت، ص112.
(31) ابن سعد، الطّبقات الكبرى، ج3، دار صادر، بيروت، لبنان، د ت، ص ص563،562.