الدولة في الحديث النبوي

بقلم
الهادي بريك
الدولة والمقاومة دون سيادتها الترابية و العسكرية
 الإشكالية المعاصرة
كلّ ما ورد من تعليمات في نصوص الوحي من قرآن وسنّة في موضوع المقاومة دون إنتهاك السّيادة العسكريّة والتّرابيّة للأمّة ـ وهو الجهاد القتاليّ الدّفاعيّ بالتّعبير الإسلاميّ نفسه ـ هو في إطار أنّ الأمّة الإسلاميّة أمّة واحدة ذات قيادة واحدة. ومن ذا فإنّ كثيرا من الأسئلة المعاصرة التي لا تراعي أكبر تغيّر جدّ في وضع الأمّة ـ أي وضع التّفكّك والتّجزئة ـ تقع في إحراجات بالغة. كيف نعيد تكييف قيمنا وتحيينها لتستوعب هذا الواقع الجديد : واقع الدّولة الوطنية القوميّة القطريّة التّابعة المستقلّة؟
أحاديث نبويّة صحيحة متشدّدة في وحدة الأمّة
أخرج مسلم عن عرفجة أنّه ﷺ قال : «إنّه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمّة فاضربوه بالسّيف كائنا من كان». وفي رواية أخرى : فاقتلوه. وفي رواية ثالثة : من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه. ومنها كذلك ما أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدريّ أنّه ﷺ قال : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». وحدة الأمّة في الإسلام لا تعني عدا وحدة القيادة العليا. ولا يعني ذلك عدم التّمصير والولايات الفرعيّة مادامت تحت سقف السّلطان الأعلى للأمّة. ومن ذا فإنّ من لم يفقه ـ حقّ الفقه ـ أخطر جديد جدّ فينا ـ أي إنهيار آخر سقف سياسيّ سياديّ قبل قرن كامل على ما كان فيه من العطب والخواء ـ فإنّه غير مؤهّل للحديث عن الأمّة سياديّا وعسكريّا وجهاديّا ومقاومة وتحريرا. 
يمكن التّغاضي في الفقه الإسلاميّ ـ وليس في الشّريعة ـ عن أمرين هما عماد دولة الأمّة : الشّرعيّة التي تعني أنّه لا طاعة لدولة مغتصبة لإرادة النّاس بأيّ وجه من وجوه الإغتصاب (وهو الإنتخاب بتعبيرنا المعاصر) والمشروعيّة التي تعني أنّه لا طاعة لدولة لا تعمل بأعظم آيتين دستوريتين وردتا تباعا في سورة النّساء، آية الرّسالة :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(النّساء: 58) وآية المنهاج الدّستوريّ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ﴾(النّساء: 59) يمكن التّغاضي جزئيّا ـ درءا لمشكلات أخرى ـ عن نقص في الشّرعيّة والمشروعيّة معا. ولكن لا يمكن التّغاضي مطلقا عن تمزّق الأمّة إلى كيانات ودويلات وأمصار مستقلّ بعضها عن بعض. فكيف إذا كانت تلك الدّويلات موالية لعدوّ الأمّة أو يوالي كلّ غريب؟ وضعنا المعاصر سياديّا ـ فيما ليس فيه أيّ تسامح ـ هو وضع غير مسبوق. من يفقه هذا كلّ الفقه وحقّ الوعي لا يستعجب كيف يأمر ﷺ بقتل (الخليفة الثّاني). إذ المقصد الأسنى من هذا التّشدّد إنّما هو : حفظ وحدة الأمّة ذات الرّسالة الواحدة والقيادة الواحدة حتّى لو كانت القيادة مقترفة لشيء من إغتصاب الإرادة أو كانت لا تحكم بما أنزل اللّه في كلّ شيء.
الأمّة الإسلاميّة أمّة مقاومة خارج حدودها
قال ﷺ فيما أخرجه أحمد عن إبن عمر  «إذا رأيت أمّتي تهاب أن تقول للظّالم يا ظالم فقد تودّع منها». وبأيّ حقّ يقصر قول الحقّ هنا داخل الأمّة فحسب. أي علاقة بالدّولة أو بالمجتمع نفسه؟ لا شيء يمنع من تعدية قيمة المقاومة هنا لتشمل الظّلم العالميّ والقهر الدّوليّ. وذلك هو ما فعله هو بنفسه ﷺ في المدينة عندما أدّب الإسرائيليّين الذين نقضوا عهدهم الوطنيّ معه (بنو النّضير وبنو قريظة وغيرهم) وعندما تعاقد في الحديبية مع قبيلة خزاعة المشركة وكان الإنتصار لها ضدّ قريش سببا مباشرا لفتح مكّة. وبمثل ذلك فعل الخلفاء الرّاشدون ومن بعدهم ممّن حرّر شعوبا كثيرة كانت ترزح تحت نير القهر الرّومانيّ والفارسي ومنهم أهل الكتاب من يهود ونصارى. من يستقرئ تصرّفات الدّولة التي أسّسها محمّد ﷺ وورثها عنه في رسالتها الخلفاء الرّاشدون يعلم بيسر أنّ الإسلام لم يشيّد دولة لمعالجة الشّأن الدّاخليّ فحسب علاقة بين الدّولة والمواطن إنّما لتحرير النّاس كلّ النّاس كلّما كان ذلك ممكنا.
محمّد ﷺ يعلّمنا سنّة التّدافع الدّولية
أخرج أحمد عن ثوبان أنّه ﷺ قال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم. قالوا : أو من قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : لا. بل أنتم كثير ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل. ولينزعنّ الله من صدور أعدائكم المهابة منكم وليقذفنّ في قلوبكم الوهن. قالوا : وما الوهن يا رسول اللّه؟ قال: حبّ الدّنيا وكراهية الموت». 
حديث يعلّم النّاس فقه السنّن العمرانيّة في الكون وخاصّة سنّة التّدافع التي لأجلها خلق اللّه النّاس وجعلهم مختلفين. معنى ذلك هو أنّ الأمّة التي لا تعدّ القوّة ـ بكلّ معانيها ـ تنتهك بيضتها. وهو المعنى الذي عبّر عنه المعاصرون بتوازن الرّعب. فلا سلام يكفل الحقوق إلاّ بقوة تحميه. ومن يظنّ أنّ الأرض آمنة لا تعدو فيها ذئاب فلا يؤبه لسذاجته.
من لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم
هذا حديث صحيح أخرجه الطّبرانيّ عن حذيفة. حديث عقد كلّ معاقد التّهديد والتّحذير أن ينأى المسلم بنفسه ويهتمّ بخويصة أمره فلا يفرح لنصر أصاب الأمّة ولا يحزن لكرب ألمّ بها. (فليس منهم) ليس تكفيرا يخرج به من حظيرة الإسلام. ولكنّه وعيد شديد. وهو منسجم كلّ الإنسجام مع حديث آخر صحيح «مثل المؤمنين في تواددهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى». وهو متّفق عليه عن النّعمان بن بشير. 
ذلك هو التّصوّر العقديّ الصّحيح الذي يحمله المسلم. هو عضو. الحدّ الأدنى لتلك العضويّة الحيّة هو بذل النّصيحة لقوله ﷺ فيما أخرجه مسلم عن أبي تميم الدّاريّ «الدّين النّصيحة. قيل لمن؟ قال : لله ولرسوله ولكتابه ولأئمّة المسلمين وعامّتهم». تأخذ النّصيحة الواجبة في الإسلام صورا لا تحصى. منها في حياتنا المعاصرة: الكلمة المسموعة والكلمة المقروءة والكلمة الفنّية (تمثيلا وسنما ونحتا وتصويرا وغير ذلك). كما تأخذ صورة الجمعيّة والمنظّمة والحزب والمبادرة وكلّ تخصّص في أيّ مهارة ما أو دراسة ما أو بحث ما. أرأيت كيف حصر الإسلام كلّه في النّصيحة؟ ذلك يعني أنّ المسلم لا يكون مسلما حتّى يكون نصوحا لمن ينتمي إليهم سواء قسطوا أو أقسطوا. فإن قسطوا وجبت عليه معارضتهم ومقاومتهم حتّى يفيئوا إلى سبيل الرّشد. وإن أقسطوا وجب عليه تشجيعهم.
معيار قدسية الأمّة 
قيامها على الحقّ والعدل والإنصاف
قال ﷺ فيما أخرجه أبو يعلى عن أبي سعيد الخدريّ: «لا قدّست أمّة لا يعطى فيها الضّعيف حقّه غير متعتع». بأيّ حقّ نقصر الأمّة اليوم ـ وبعد أن أصبنا بسرطان التّجزئة ـ على هذه البلاد دون تلك؟ هذا مصير أريد لنا لنظلّ تابعين خانعين. مهما أوغلت فينا مباضع التّمزيق فإنّ أملنا الذي نحيا به ونموت دونه إنّما هو إعادة توحيد هذه الأمّة. كأنّ الحديث يخبرنا بأنّ قدسيتنا هي في تحاضّنا جميعا على حقّ الضّعفاء بكلّ معاني الضّعف. ومن مظاهر الضّعف اليوم الخضوع للإحتلال الإسرائيليّ الذي يسلب منّا أغلى شيء فينا وفي عقيدتنا أي القدس : مسرى محمّد ﷺ ومبدأ معراجه وثالث الحرمين
قدر الأمّة هو عون المجاهد في سبيل الله
ورد ذلك في حديث أخرجه التّرمذي عن أبي هريرة وفيه يقول ﷺ : «ثلاث حقّ على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله والنّاكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء». الجهاد في سبيل الله عمل يشمل كلّ عمل يعيد الإعتبار لأيّ قيمة من القيم التي أشاد بها الإسلام في مصدريه الأسّين (القرآن والسنّة). (حقّ على اللّه) يعني حقّ على كلّ من يؤمن باللّه. اللّه لا يحقّ عليه شيء. ولكن عندما يحقّ هو على نفسه شيئا فهذا يعني أنّ ذلك الحقّ هو فريضة على من يؤمن به. قدر الأمّة عون المجاهد دون كرامته والمقاوم دون حرّيته حتّى لو كان غير مسلم مادام مظلوما مقهورا. فكيف إذا كان المقهور هو الأمّة نفسها؟ أليس قدرها أن تجاهد لتحرير نفسها؟