نحو أفق جديد

بقلم
أ.د.عبدالجبار الرفاعي
مناقشة الرؤى الرسولية لعبد الكريم سروش
 لكلٍّ من العلم والفنّ والغيب حقيقةٌ على شاكلته، يمكن التّعرّفُ على هذه الحقيقة في فضائها الخاصّ. للغيبِ حقيقتُه ومظاهره وفضاؤه، مثلما للعلم حقيقتُه وفضاؤه وقوانينه، وهكذا للفنّ حقيقتُه وفضاؤه. التّعرّفُ على الغيبِ في القرآن الكريم يكونُ من خلال ما تتحدّث به آياتُه. الحياةُ الرّوحيّة هي الأفقُ الأوضحُ الذي تظهر فيه آثارُ الغيب في حياة الإنسان، وهذا الأفقُ لا يتطابق مع الأفقِ المادّي الذي تنكشفُ فيه قوانينُ الطّبيعة. لا يخضع الغيبُ في اكتشافِ ذاتِه ومعرفةِ حقيقته للعلمِ ومناهجِ البحث العلمي، وإن كانت العلومُ هي الأداة الأساسيّة في التّعرّف على تأثيرِ الغيب في الواقع ودراسةِ تعبيراته في الحياة الفرديّة والمجتمعيّة.
يمكن اعتمادُ مناهج البحث العلمي في دراسة كلِّ شيء ينتمي للطّبيعةِ في القرآن الكريم، ومن العبثِ تطبيقُ هذه المناهج في اكتشاف ذات الحقائق الميتافيزيقيّة وما هو خارج الطّبيعة، دراسةُ ما بعد الطّبيعة أحدُ حقول الفلسفة. الوحي بوصفه حقيقةً غيبيّة ينتمي إلى ما بعد الطّبيعة، لذلك لا يصحّ تطبيقُ مناهجِ وأدوات علمِ النّفس وغيره من العلوم في الكشفِ عن ذات الغيب وتحليلِ مضمونه ومعرفةِ حقيقته. عندما تحاول نظريّاتُ علم النّفس أن تفسِّر الوحيَ فإنّ أولَ ما تبدأ به هو نزعُ مضمونه الغيبي والنّظرُ إليه على أنّه حالة سيكولوجيّة يعيشها النّبيّ. أخفقت محاولاتُ اكتشاف الغيب بوسائل العلوم المعروفة، وأدخلت الإنسانَ في متاهات تبدأ بالإنكار وتنتهي بالإنكار،كمَن يحاول معرفةَ ذاتِ اللّه وحقيقتَه وكنهَه بأدوات العلوم ومناهجها المعروفة. 
يمكن التعّرفُ على شيءٍ من ملامحِ الغيبيّات وصفاتِها ومظاهرِها وتجلياتِها بما تتحدّث به آياتُ القرآن. الآياتُ تتحدّث عن الغيبيات بلغةٍ رمزيّة، تستعين أحيانًا بالمحسوسات، بغيةَ تقريب ما لا صورةَ له بصور المادّي وخصائصه وصفاته. الصّورُ المحسوسة يدركها الإنسانُ عبر الحواس، إلاّ أنّه لا يعرف حقائقَ الغيبيات وذواتَها لأنّها لا صورةَ لها، وإن كان يمكن تقريبُها للذّهن عبر التّمثيل بالأشياء المادّية.  
تنتمي تجربةُ النّبوّة لذلك الميتافيزيقي/ الغيبي الذي لا صورةَ له، ولا يمكنُ فهمُه وإدراكُ حقيقتِه بمناهج وأدواتِ العلم، لأنّ تجربةَ النّبوّة ذاتُ طابعٍ وحياني. الوحيُ حالةٌ وجوديّة بالمعنى الأنطولوجي وليس بالمعنى المادّي للوجود، تتحقّق هذه الحالةُ الأنطولوجيّة عندما تتكامل كينونةُ الإنسان. الإنسان المؤهّل وجوديًا للنّبوّة هو الوحيد الذي يتلقَّى الوحي. مَنْ يرى النّبيَّ كالشّاعر والنّبوّةَ كالشّعر ينفي كونَ النّبوّة مقامًا وجوديًّا يبلغه الإنسان، الشّاعرُ إنسانٌ موهوب يتميزُ بقدرته على إبداع الشّعر، مرتبةُ الشّاعر الوجوديّة هي مرتبةُ غيره من البشر. النّبيُّ مثلُ غيره من النّاس في حياته ومعاشه وطبيعته البشريّة، إلّا أنّ مرتبتَه الوجوديّة ارتقت، ولذلك اصطفاه اللّهُ للنّبوة. 
الوحيُ صلةٌ وجوديّة تصل عالمَ الغيب بعالم الشّهادة، صلةٌ تصيّر ‏النّبيَّ شاهدًا للغيب بمثوله في حضرة اللّه، إنّها نحو تجلٍّ للإلهي وانكشافه للبشري، وإن كان النّبيُّ بوصفه بشرًا يلبث على انتمائِه لعالم الشّهادة، ولا يفتقد بواسطة صلتِه بالغيب ماهيتَه الممكنة. النّبيُّ من ناحية الوحي يشهد عالمَ الغيب، وبوصفه بشرًا يحتفظ بحضوره في عالم الشّهادة، أي يحتفظ بطبيعته التي يشترك فيها مع الكلِّ وتنعكس فيها بشريتُه. ما هو مرآةٌ لعالمِ الغيب الوحيُ الإلهي، ‏وما يعبّر عن عالم الشّهادة الطّبيعةُ البشريّة، ‏وهذا ما ينكشفُ بوضوحٍ في القرآن الكريم:﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ...﴾(الكهف:110).
لا يمتلك كلُّ إنسان إمكاناتِ وجودٍ تمكّنه من أن يشهد الغيب، ‏الإنسانُ الذي يشهدُ الغيبَ يَحْدُثُ تكاملٌ في ‏كينونته الوجوديّة، بنحوٍ يسيرُ صعودًا ليبلغ مرتبةً يشهدُ فيها الإلهيّ. يَحدثُ لدى النّبيّ تحولٌ أنطولوجي في كيفيّةِ وجوده، بالشّكل الذي يتَّسعُ وجوده فيتجلّى له الحقّ. ‏الإنسانُ الذي يتحقّقُ ‏له هذا الطّورُ ‏يصل مقامًا وجوديًّا أكمل من غيره من النّاس، يكتسب وجوده في هذا المقام غناه من اتصاله بوجود اللّه. عندما يتحقّقُ الإنسانُ بهذا الطّور الوجودي يكون مؤهَّلًا لمقام النّبوّة، وكلّما اتسع وجودُ الإنسان وكانت مرتبتُه أكملَ اتَّسعت تبعًا لذلك نبوَّتُه وصارت رسالتُه بسعة إمكانات وجوده. فوقَ كلِّ مرتبةِ كمالٍ ‏للإنسانِ مراتبُ أكملُ منها. ‏النّبيّ إنسانٌ لم يفتقد طبيعتَه البشريّة. يواصل النّبي التّكاملَ الأنطولوجي ما دام حيًّا، ‏وهو ما تشير إليه الآية:﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾(طه:114).
لا طريقَ للتعرّف على الوحي بوصفه ينتمي إلى عالم الغيب إلاّ أن نستنطقَ آياتِ القرآن، كي نهتدي للمعنى الأوضح والأدقِّ في بيانه. عندما نقرأ القرآن نرى هذه الآيةَ تضيء مضمونَه:﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾(المزّمِّل:5). «القول الثّقيل» توصيفٌ يرمز لحقيقةٍ تنتمي إلى عالم الغيب. «القول» ليس كلماتٍ منطوقةً تشبه الكلماتِ المستعملة في اللّغات، كلُّ شيءٍ ميزانُه بحسبه، «الثّقيل» ليس كمّيةً يمكن أن توزنَ بالمقاييس المادّية. ‏تشير الآيةُ الى أنّ الوحيَ لا يتحقّق إلاّ إذا تحقّق طورٌ وجودي للإنسان يؤهّله لتحمّل القول الثّقيل الذي لا يطيقه وجودُ غيره. وصف الوحي بـ «القول الثّقيل» يتطلّب قدرةً وجوديّة استثنائيّة جدًّا لا يمتلكها الإنسانُ العادي، أي أنّ المهمّةَ التي يقوم بها النّبيُّ مهمّةٌ فريدة، لا يطيقها أيُّ إنسان ما لم يتكامل فَيَصِلَ إلى ذلك الطّور الوجودي. 
آيةٌ قرآنيّة أخرى تشير إلى أنّ النّبيَّ اختصّه اللّهُ بقربٍ لم يختصّ به أحدًا سواه:﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾(النجم:8-9)، القربُ هنا ليس إلغاءَ المسافة المكانيّة، القربُ في الغيب على شاكلة الغيب، القربُ هو المقامُ الوجودي الأكمل الذي يبلغه الإنسان، إنّه تعبيرٌ عن إمكاناتِ وجودٍ إضافيّة تمكّن النّبيَّ من الاتصال بوجود اللّه المستغني عن كلِّ وجودٍ سواه. 
وفي الآية القرآنيّة التي تقول:﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم :3-4)، إشارةٌ إلى البعد الوجودي للوحي، وأنّه لا يتحققّ إلاّ عندما تتكامل الكينونةُ الوجوديّة للإنسان.
أما قولُه تعالى:﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الأعراف:143) ، فيصوّر مشهدًا مهولًا، تهتزّ أمامه مشاعرُ الإنسان. في الآية إشارةٌ إلى التّجلّي الوجودي للحقّ، وكيف تهشّم الجبلُ وانهار فجأة. تجلّي اللّه للجبل مشهدٌ مهولٌ أصاب موسى بالذّهول وسقط مغشيًّا عليه على الرّغم من مقامه الوجودي. 
الوحي حالةٌ أنطولوجيّة وليس مشاعرَ نفسيّة، الوحي طورٌ وجودي يتّسعُ فيه وجودُ النّبيّ ويتسامى ويتكامل. ليس الوحي استنارةً ذاتيّة لا صلةَ لها بالغيب، أو صورًا ذهنيّة، أو نشاطًا للمخيلة، أو ظاهرة بيولوجيّة تنشأ عن اضطرابات هرمونيّة. 
في ضوء ما تقدّم يمكننا مناقشةُ رأي الدّكتور عبد الكريم سروش في: «الرّؤى الرّسوليّة»، الذي يذهب فيه إلى أنّ ما جاء من مشاهد للقيامةِ في القرآن الكريم وقصصِ الأنبياء وغيرِها لم يكن النّبيُّ محمد ﷺ فيها راويًا لمرويات أو ناقلًا لأخبار تلقّاها، بل كانت أحلامًا ورؤىً وقعت له وشاهدها مباشرةً في منامه، وفيها يتحدّث عن مشاهداته ولا ينقل عن غيره. يتساءل سروش عن المناظرِ والمشاهداتِ المتنوّعةِ الواردةِ في القرآن الكريم: «‏أين وقعت تلك المناظر والمشاهدات؟» ويجيب بقوله: «‏وقعت في الرّؤيا»(1). وأنّ ما ورد في القرآن الكريم على لسان النّبيّ من مشاهد للجنّة والنّار والقيامة ‏ويوم الحساب، وما وقع من حوادث للأنبياء، مثل انشقاق البحر لموسى وغيرها، رآها النّبيُّ في أحلامه، ‏وتحدّثَ عنها كما رآها. يقول سروش: «هو رآها بنفسه وعينه.كان ناظرًا وراويًا لتلك المناظر، رأى أهلَ الجنّة يتنازعون الشّراب، ورأى أهلَ النّار تسلخ جلودهم كلّما نضجت»(2). 
‏ينبّه سروش إلى أنّ لغةَ الأدب وما فيها من مجازاتٍ وكناياتٍ واستعاراتٍ وتشبيهات، غيرُ لغةِ الأحلام بوصفها تتحدّث عن مشاهدات مباشرة، مَن يرى الرّؤيا يتحدّث عن المعنى الحقيقي لما رآه من صورٍ وأحداث ومشاهد. يقول سروش: «‏لغة الأحلام لا تحتوي على المجازات والاستعارات والكنايات، بمعنى أنّ التّصورات التي يراها الحالم في منامه لا تحمل إلاّ على معانيها الحقيقيّة، وليست بحاجة إلى مراجعة القواميس اللّغويّة للوقوف على معاني الألفاظ ودلالتها. ولعلّ مفسّري الأحلام هم القادرون على فهم دلالتها… لغة الأحلام تختلف عن لغة الأدب»(3). 
وبما أنّ الأحلامَ غيرُ منتظمةٍ في نسقٍ منطقي، ‏ولا تكون بالضّرورة محكومةً بنظام السّببيّة المعروف للإنسان، ولا تنطبق عليها دائمًا قوانينُ الطّبيعة المكتشفة،كثيرًا ما ‏يرى الإنسانُ الأحلامَ مشتّتة، خارجَ إطار التّراتبيّة المعروفة للحوادث ‏في الواقع الذي يعيشه. ‏يقول سروش: «‏لابدّ من الإذعان إلى أنّ تلك الفوضويّة ليست من فعل الأعداء ولا غفلة الجامعين، ولا هي دون علم صاحب الوحي، وإنّما راوي السّور المبتنية على الرّموز والرّؤى غالبًا ما يفتقر إلى المنطق والتّسلسل فيفقد الانسجام والانتظام. هذا هو أدب المنام، ولا وجود لليقظة فيه»(4). ‏وقد يختلط الواقعُ بالأحلام بالخيال ‏في «حديث النّبيّ عن حروب زمانه ‏خلطَ بين الواقع والخيال، حيث ينقل خبرَ نزول آلاف الملائكة لنصرة المؤمنين»(5). 
 وفي سياق مناقشة رأي العلامة الطّباطبائي في تفسير الميزان ‏بكون «المراد من السّماء التي تسكنها الملائكة عالمًا ملكوتيًّا، ذا أفق أعلى نسبة إلى هذا العالم المشهود»، يجيب سروش بقوله: «‏ولو تنبّه صاحبُ الميزان إلى أنّ رمي الشّياطين بالشّهب كان في عالم الرّؤيا لما أحتاج إلى كلّ تلك التّأويلات، ولذهب إلى خبير في الأحلام والأنثربولوجيا يدلّه على معنى أنّ شخصًا في تاريخ وجغرافيّة الحجاز ومن ثقافة تلك الحقبة، يرى في المنام أنّ الشّياطين تقذف الشّهب»(6). هذا ملخص شديد لما أفاده د. عبد الكريم سروش في «الرّؤى الرّسوليّة».
‏إن كان الإنسانُ لا يبلغ مرتبةَ النّبوّة إلاّ إذا تسامى في كينونته الوجوديّة وتحقّق بكمالٍ استثنائي يؤهّله لهذا المقام الإلهي، فلا يمكن أن تكون الرؤى في المنام وسيلةً لتكاملِه وبناءِ استعداده الوجودي لمقامٍ يؤهّله لتحمّل الوحي وتلقِّيه. النّبوّة مقامٌ لا يناله كلُّ إنسان، المرتبة الوجوديّة للنّبوة تتحقّقُ باستعدادٍ وتأهيلٍ بشري واصطفاءٍ إلهي. 
لم تعرف التّربيةُ إعدادَ إنسان وتأهيلَه لمهمةٍ حياتيّة عبر الأحلام، فكيف يمكن افتراضُ إعداد إنسانٍ تُناط به وظيفةٌ إلهيّة استثنائيّة، ويصطفيه اللّهُ ويوكل إليه أداءَ مهمّةٍ عظمى في الحياة، ويؤهّله لتحمّل رسالته من خلال أحلامٍ يراها في المنام؟. الإنسانُ العادي لا يمكن إعداده لتحمِّل أيّة مسؤوليّة باعتماد الأحلام، فكيف إذا كانت مسؤوليّةُ هذا الإنسان إلهيّةً وهي أكبرُ من كلِّ مسؤولية، ووظيفتُه أصعبُ من كلِّ وظيفة؟. وكيف إن أناطَ اللّهُ بهذا الإنسان بناءَ أسس التّوحيد في مجتمعٍ مُشرِك، وتحمّلَ رسالة اللّه الخاتمة للعالمين. إنّها وظيفةٌ لم يكن بإمكانه إنجازُها إلاّ بعد أن يتحقّقَ بطورٍ وجودي أغنى وأعمق وأكمل. 
لا يكتسبُ النبيُّ استعداده من الأحلام ولا تكتسبُ النّبوّةُ مقامَها الوجودي منها. ‏يلزم من القولِ بالأحلام النّبويّة ‏أن تكون مهمّةُ النّبيّ في إبلاغِ الرّسالة وتلقيها أهونَ من مهمّة رجل العلم أو السّياسة أو العسكر أو التّجارة وأمثالهم، لأنّ إعدادَ مثل هؤلاء لا يعتمد الأحلام، عادة ما يكون إعدادُهم من خلالِ برامجَ تربويّة وتعليميّة، وتراكمِ خبرات عمليّة تتطلّب المواظبةُ عليها إنفاقَ سنوات عديدة من أعمارهم من أجل التّأهيل لمثل هذه المهمّات. 
يمكن تشبيهُ النّبوّة بحالةِ ضيافة الغيب للإنسان وضيافةِ الإنسان للغيب. ‏هذا المستوى الفريد من الضّيافة الذي يكون المُضيفُ فيه اللّهَ والضّيفُ النّبي، لا يمكن أن يستمدّ وجوده من الرّؤى في المنام. الوحي ليس شعورًا نفسانيًّا باطنيًّا، وليس ديالكتيكًا داخليًّا تستبطنه الذّات،كي نتعرّفَ على حقيقته بقراءةِ مدرسةِ التّحليل النّفسي للأحلام وتفسيراتِ علماء النّفس وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة.
ذكرنا أنّ الوحي حقيقةٌ من حقائق الغيب، ‏هذه الحقيقةُ ينكشفُ فيها الإلهيُّ للبشري، ويتجلّى فيها للإنسان ما هو إلهي. وأنّ شهودَ ‏الإنسان للإلهي لا يتحقّق إلاّ إذا تكامل الإنسانُ في طورٍ وجودي يفتقر إليه غيره من البشر، ‏ذلك ما يؤهّله لأن يكون نبيًّا. تظهر تمثُّلاتُ الوحي وآثاره في لغة الإنسان وثقافته وتقاليده ومواقفه ‏فردًا وجماعة، وهذه الآثار تُدرس بواسطة العلوم والمعارف البشريّة كما تُدرس غيرها من الظّواهر في حياة الإنسان، لكن لا يمكن أن ندرس البعدَ الغيبي في الوحي بأدوات هذه العلوم والمعارف. 
نحتاجُ إلى إعادةِ تعريف الوحي وبيانِ صلته بالغيب بوضوح، وهكذا إعادةِ تعريف النّبوّة،كي يتّضحَ ما ينتمي لعالم الغيب في النّبوّة، وما ينتمي لعالم الشّهادة. التّعريفُ يكشفُ حدودَ المعرَّف وحقله، ويكشفُ حقلَ اشتغال أدوات العلوم والمعارف البشريّة في المجال الذي ينتمي لعالم الشّهادة، وما هو خارج حقل اشتغال تلك الأدوات في المجال الذي ينتمي لعالم الغيب، الذي تكشف شيئًا من ملامحه آياتُ القرآن. عالمُ الغيب عالمُ الأسرار، الأنطولوجيا الميتافيزيقيّة في القرآن فضاءٌ لعالم الأسرار.كلُّ لغة تتحدّثُ الغيبَ لا تتحدثُ منطقَ العلم. لغةُ الغيب تحاول أن ترسمَ صورةً مألوفة لتقريب ما لا صورةَ لذاته في ذهن الإنسان. 
الثغرةُ الأساسيّة في «الرّؤى الرّسوليّة» وأشباهها للدّكتور سروش هي غيابُ القرآن كمرجعيّة، وتسيّدُ مثنوي جلال الدّين الرّومي وحضوره الطّاغي في تفكيره وتعبيره، واتخاذه مرجعيةً بديلة في تفسير القرآن وتأويل عالم الغيب فيه. عندما يتخذُ سروش أبياتَ شعر المثنوي مرجعيّةً لفهم الغيب ويعتمدها بديلًا لآيات القرآن يخطئ الطّريق. مفتاحُ دراسة الغيب في القرآن ما تقوله آياتُه، ومرجعيتُه في تفسير الغيب ما تشي به دلالاتُها. جلال الدّين الرّومي والعرفاء مفسرون للقرآن على طريقتهم، بصيرتُهم حاذقة أحيانًا وأحيانًا تشطح. الطّريقُ لتفسير القرآن هو أن نستنطقَ القرآنَ لمعرفة ما ورد فيه لكلِّ شيء يختصّ بالغيب وبما بعد الطّبيعة، وبوسعنا أن نستضيء باستبصارات العرفاء وبما يقوله المفسّرون، أمّا الطبيعةُ فنعود في اكتشافِ قوانينها والتّعرّفِ عليها إلى علوم ومعارف وخبرات الإنسان. 
الطّبيعةُ تخضعُ لقوانين تتحكمُ في أسباب ونتائج الظّواهر فيها، ما وراء الطّبيعة لا يخضعُ لهذه القوانين، ولا سبيلَ إلى فهمِه بأدواتها وتعريفِه في ضوئها. يخطئ مَن يعتقد بعالَم ما وراء الطّبيعة عندما يوظِّف مناهجَ استكشاف الطّبيعة للتعرّف على ذلك العالَم. القرآنُ يتحدّث عن الغيب وما وراء الطّبيعة أكثر ممّا يتحدّث عن الطّبيعة، ليس من العلمِ تجاهلُ ما وراء الطّبيعة في القرآن، أو تأويلُ آيات الغيب تأويلًا بمناهج وأدوات العلوم التي تدرس الطّبيعةَ وظواهرَها وقوانينَها وما فيها من كائنات وأشياء. 
في الوحي بُعدان، بُعدٌ إلهيٌّ وآخرُ بشري، لا يمكنُ دراسةُ البُعد الإلهي الغيبي في الوحي في ضوءِ هذه المناهج العلميّة المعروفة لدراسةِ الطّبيعة ومَن يعيش فيها، وإن كان يمكنُ دراسة البعدِ البشري في الوحي في ضوءِ هذه المناهج. يمكن تمييزُ نوعين من دلالات لغة القرآن، لغةُ آياتٍ تتحدّثُ عن الغيب، هذه اللّغةُ تنطق بإشارات ورموز لحقيقةٍ لا مرئيّة ولا محسوسة. ولغةُ آياتٍ تتحدّثُ عن الإنسانِ والكائنات والأشياء والقوانين في الطّبيعة، هذه اللّغةُ نفهمُ دلالاتها في سياق مواضعات اللّغة، وما تكشفه العلومُ المتنوّعة.
الهوامش
(1) سروش، ‏عبد الكريم، كلام محمد رؤى محمد، ترجمة: أحمد الكناني، ص 82، 2021، دار أبكالو، بغداد.
(2)  نفسه، ص، 77.
(3) نفسه، ص، 84.
(4) نفسه، ص، 107.
(5) نفسه، ص، 107.
 (6) نفسه، ص، 87.