همسة

بقلم
محمد المرنيسي‎
رحلة الخبز المكسور
 على مائدة الإفطار في إحدى غرف فندق بمكّة المكرمة، جلس الشّيوخ الأربعة يتناولون ما كتب اللّه لهم من رزق، وكان الحساء المغربي حاضرا ذاقه «أبو عليّ» فأحرق صفحة لسانه، وصرخ: «أعوذ باللّه من النّار». ضحك الثّلاثة وأخذوا يحرّكون حساءهم لتخفيف حرارته. يقول أحدهم : «شاهدت دخانا كثيفا يخرج من فمه». فيردّ عليه آخر: «ألا ترون أن نحيط رجال الوقاية المدنيّة بالحادث؟»، فيعلق الشّيخ الثّالث وهو أصغرهم: «نقيّم الأضرار داخل الفم أوّلا قبل اتخاذ أيّ قرار». تعالت الأصوات بالضّحك، و«أبو عليّ» يهدّد ويردّد: «سوف أردّ لكم الجميل بما لا تشتهون، سوف ترون».
انخفضت حرارة الحساء، وصارت الملاعق تنقل بجدّ ما استقرّ في القاع من حبوب وتوابل، تذكّر «أبو عليّ» خبزه اليابس الخالي من الملح الذي أعدّ له في بيته، وقد تمّ تكسيره وإحراقه حتّى لا يفسد. حمله معه من بلده ليستعمله عند الحاجة،وأراد أن يأخذ كسرة يابسة ليغمسها في حسائه ليتحلّل ويستمتع بها، فطلب من أحدهم أن يناوله إياها، فانفجر الثّلاثة بالضّحك مرّة أخرى، وقال أحدهم: «إنّها في بطن طائر». وقال الثّاني: «والطائر يتنقل في الأجواء، وينزل أنّى شاء آمنا وما له من جائر». وقال الثّالث: «ولأبي عليّ الأجر الأوفى والنّصيب الأعلى؛ لما أصابه في صفحة لسانه، وما آل إليه خبزه المكسور من طعامه».
ارتفعت وتيرة الضّحك، وأبو علي مندهش حائر، لا يدري ما حدث؟ وكيف ضاع خبزه وهو تحت أنظاره وبين أحضانه؟طلب منهم في نبرة رجاء: «باللّه عليكم أخبروني ماذا جرى لخبزي المكسور؟ وماذا فعلتم به يا أخي أبا منصور؟، اكشف المستور؟ارحني وارحمني. وقاك اللّه عقوق الأصلاب والحاشية، وأدام عليك نعمتي الصّحة والعافية». 
أطرق أبو منصور متحسّرا متأثّرا بدفء العبارة، ثمّ قال بلغة الإدارة: «في إطار المراجعة والتّقويم لغرفتنا الجامعة للنّوم والطّبخ والتّخزين لممتلكاتنا الخاصّة، قرّرت لجنة التّموين والحكامة إخلاء الغرفة من كلّ ما لا يُستعمل؛ طلبا للسّلامة، وكان الخبز المكسور على رأس القائمة.درست اللّجنة كيفيّة التّخلّص منه بطريقة آمنة، مع مراعاة الحفاظ على البيئة، وبعد تبادل الأفكار ومناقشتها تمّ الاتفاق على ما يأتي:
- ضرورة التّخلّص من الخبز المكسور بوضعه في  إناء بلاستيكي وتغطيته بالماء الفاتر لكسر صلابته وتأمين خطره.
- تفتيته في أكياس صغيرة لتيسير حمله ونقله وتوزيعه في أماكن شتّى.
- تفريغ الأكياس في أماكن نظيفة يعتاد حمام الحرم النّزول بها في الأوقات المناسبة.
وعلى الجهة المعنيّة تنفيذ هذا القرار فور الاطلاع عليه، مع توقيع محضر لما تمّ إنجازه . رئيس اللّجنة»
ضرب أبو علي بشدّة فروة رأسه وصاح:
«يالها من لجنة بائسة، عن السّداد طائشة، تطبّق قاعدة إخلاء ما لا يستعمل على خبزي المكسور،  ولديها في مساكنها من الزّوائد في الملابس والمطاعم والمشارب والمراكب والأموال والأواني والمفروشات والأغطية والأوعية والأجهزة والأدوات وكلّ أنواع المتاع الذي لا يستعمل ما لا يعدّ ولا يحصى،ولو أنّهم وهبوا ما لا يستعملونه لمن هم في حاجة إليها لخفّفوا عن الضّعفاء والمحرومين الكثير من المعاناة، ولو طبّقت هذه القاعدة على نطاق أوسع في القرى والمدن والأقاليم بمختلف الدّول في أرض اللّه الواسعة لحقّقنا الكثير من التّضامن الإنساني، ولرفعنا العنت عن كثير من سكان المعمورة، ولكن الحرّص والبخل وحبّ التّملّك والتّعالي يحجب البصيرة، ويضعف الفضيلة، ويقوي الرّذيلة، فيؤدّي ذلك  الى الطّغيان والعدوان والخسران».
أولئك الذين  يجمعون من الطّعام ما لا يأكلون، ويكنزون من المال ما لا يحتاجون، ويتعالون لجهلهم بما لا يعلمون، ويتهافتون على الدّنيا كما يتهافت الذّباب على الموائد العارية، والفراش على المصابيح الكاشفة، شعارهم: «منزلتك بقدر ما تملك». حياتهم جوع دائم، وضمأ لازم، وظلم غاشم، لا يكفّ أحدهم عن إذاية الآخرين، ولا يرتاح إلاّ لمشاهد المتحاربين، لا يدين إلاّ بما يقوده اليه هواه، ولا يلتفت إلى ما عداه، لا تؤثر فيه النّذروالاعتبار بمن غبر، حتّى إذا أدركه اليقين غارت عيناه، وثقل لسانه، واستسلم كرها لما أصابه، وترك ما جمعه لمن خلفه.
فلا تثقل أخي كاهلك بما لا ينفع، ولا تدع أو ترج غير اللّه ممّن لا يرى ولا يسمع، والزم طريق الاستقامة تغنم، واترك ما ليس لك تسلم، وادع الى ربّك بعلم، واعمل بصدق، وعامل بعفو وحلم، واصبر وصابر واتق الشّبهات قبل أن تندم، وتزوّد لآخرتك من دنياك بما تعلم، وخير الزّاد التّقوى.