تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
مبدأ الحرية
تُعتبر مبادئ الحرية في عالمنا المعاصر واحدة من أبرز المواضيع التي تثير الاهتمام والنّقاش. ويُعدّ  فهم مبدأ الحرّيّة أمرًا بالغ الأهمّية لفهم وجود الإنسان وتفاعله في المجتمع. ولتحليل مبدأ الحرّيّة بشكل أعمق، يمكن تقسيمه إلى نوعين رئيسيّين: الحرّيّة السّلبيّة التي تعني الحرّيّة في فعل شيء دون قيد وهذا المفهوم تبنّته الحداثة الغربيّة (بمركزيها الدّولة الحديثة والرّأسماليّة المتوحّشة)، والحرّيّة الإيجابيّة التي تعني حرّية الفرد من فعل الشّيء، فعوض أن تكون الإرادة في غاية الشّيء تصبح الإرادة متحرّرة من الأشياء أي أن يتحرّر الفرد من عبوديّة المادّة، وهذا هو التّصوّر الإسلامي (شريعة وتصوّفا) الأمر الذي يتيح للإنسان الوصول إلى الفرص والموارد الضّروريّة للتّمتّع بحياة كريمة ومتوازنة..

يمكن تعريف الحرّيّة بكونها القدرة على فعل الأمر، أي أن يكون الفعل نابعا من إرادة داخليّة على القيام وفقا لمشيئته الخاصّة. فالحرّيّة إذن، مفهوم يشير إلى حالة عدم التّقييد أو القيود وإلى القدرة على اتخاذ القرارات والتّصرّف بمشيئة خاصّة، دون تدخّل قهري أو إكراه من قبل الآخرين أو السّلطات. إنّها حالة تتيح للأفراد والجماعات التّفكير والتّعبير والتّحرّك وفقًا لاختياراتهم الخاصّة وقيمهم واعتقاداتهم.تتضمّن مفاهيم الحرّيّة أيضًا الحقوق والحرّيّات الأساسيّة مثل حرّيّة التّعبير، وحرّيّة الدّين والمعتقد، وحرّيّة الجمع والتّجمّع، وحرّيّة الحركة، وحقوق الإنسان الأخرى. إن توفير بيئة حرّة تمكّن الأفراد من تطوير ذاتهم والمساهمة في المجتمع بطرق متعدّدة ومتنوعة. ومع ذلك، يجب مراعاة أنّ حرّيّة الفرد ليست بلا حدود مطلقة، حيث يجب أن تنسجم مع حقوق الآخرين والمصلحة العامّة. وفي المجتمعات المختلفة، يتمّ تحقيق توازن بين حرّيّة الفرد والقواعد والقيود التي تضمن التّعايش والعدالة. وقد اختلف الفلاسفة في تصنيفهم للحرّيّة، فمنهم من اعتبر أنّ الحرّيّة حقّ(1) ومنهم من اعتبرها قيمة(2) ومنهم من اعتبرها مبدأ(3) وآخرون اعتبروها مقصدا(4) إلاّ أنّه يمكن تصنيفها بأنّها مبدأ يحكم الفعل الإنساني والفعل السّياسي على حدّ سواء.الجزء الأول: مبدأ الحرية في ذاتهيمكن تقسيم الجزء الأول إلى عنصرين؛ أساس المبدأ (العنصر الأول) ومبرّرات المبدأ (العنصر الثّاني) العنصر الأول: أساس المبدأيعدّ مبدأ الحرّيّة مفهوما أساسيّا في الفلسفة السّياسيّة والاجتماعيّة، ويعتبر واحدًا من أهمّ الرّكائز التي تشكّل أساس الحكومة الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان بالمفهوم الحداثي الغربي. يمكن تتبّع أسسه النّظريّة إلى العديد من المصادر الفلسفيّة والفكريّة، ومن بينها:* جون لوك: يُعَد واحدًا من أهم المفكرين في تطور فكرة الحرية. وقد أشار في كتابه «مقال عن الحكومة المدنية» (1690)، إلى فكرة أساسيّة تقول إنّ الفرد يولد حرًّا وله حقوق طبيعيّة تشمل حقّ الحرّيّة وحقّ الملكيّة الفرديّة.* جان جاك روسو: تناول في كتابه «العقد الاجتماعي» (1762)، مفهوم الحرّيّة بعلاقتها بالعقد الاجتماعي. فأشار إلى أنّ الحرّيّة تتأتّى من قبول الأفراد لقواعد تنظيم المجتمع بموافقتهم الحرّة.* إيمانويل كانت: أسس من خلال كتابه «النّقد للعقل النّقدي» (1781)، فلسفة الانفراد وأكّد على أهمّية حرّية الفرد في اتخاذ قراراته الشّخصيّة والتّفكير بحرّيّة.* جون ستيوارت ميل: أكمل في كتابه «عن الحرّيّة» (1859)، مفهوم الحرّيّة بتأكيده على أنّ الحرّيّة الفرديّة يمكن أن تمارس بشرط عدم التّسبّب في الضّرر للآخرين.* إيمانويل كانتي: أسهم في تفسير الحرّية كواجب أخلاقي، حيث يجب أن يقوم الفرد بالتّصرّف بحرّيّة واستقلاليّة وفقًا لقوانين الأخلاق والواجب.* الطّاهر بن عاشور: تكمن في قدرة الإنسان على الاختيار والاعتبار، وهي جزء أساسي من الاستقلال الشّخصي الذي يسمح للفرد بأن يكون مسؤولاً عن أفعاله وقراراته أمام اللّه وأمام مجتمعه. تلك المصادر النّظريّة تجسّد أسس مبدأ الحرّية وتؤكّد على أهمّيته في بناء مجتمع يحترم حقوق الإنسان ويشجّع على التّطوّر والابتكار. يتمثّل المبدأ في الإيمان بحقّ الفرد في اتخاذ القرارات الشّخصيّة والمشاركة في تشكيل مصيره بحرّيّة، مع مراعاة حدود وقوانين تحمي حقوق الآخرين وتضمن العدالة الاجتماعيّة. العنصر الثاني: مبررات المبدأتؤثّر الحرّيّة في تطوير الثّقة بالنّفس وتعزّز الشّعور بالانتماء والمسؤوليّة. عندما يُمنح الفرد الفرصة للتّحكّم في مصيره، ينمو إحساسه بالقوّة والتّأثير، ممّا يسهم في تعزيز رغبته في تحقيق النّجاح والتّميّز. وبالخلاصة، تجسّد الحرّيّة طريقًا لتطوير القدرات الشّخصيّة وتحقيق الإبداع، من خلال توفير فرص التّجربة والتّعلّم والتّحكم في المصير. وهكذا يستطيع الأفراد تحقيق إمكاناتهم الكامنة وإحداث تأثير إيجابي في مجتمعاتهم.تشكّل الحرّيّة أساسًا لتعزيز التّعاون والتّفاعل الإيجابي بين أفراد المجتمع. عندما يتمكّن الأفراد من التّعبير عن أفكارهم وآرائهم بحرّيّة، يتمّ تعزيز الحوار والتّبادل البنّاء. يمكن للحرّيّة أن تفتح آفاقًا للتّفاهم والتّعاون من خلال تقدير تنوّع وجهات النّظر. كما تشجّع على مشاركة المعرفة والخبرات، ممّا يعزّز من تطوير الأفكار والحلول المبتكرة. عندما يشعر الأفراد بأنّهم محترمون ومستمعون، يزيد ذلك من رغبتهم في المشاركة بشكل فعّال في أنشطة المجتمع.إضافة إلى ذلك، تسهم الحرّيّة في بناء بيئة تفاعليّة تشجّع على الحوار البناء وحلّ النّزاعات بشكل سلمي، بدلاً من القهر والقيود. يتمكّن الأفراد من إقامة علاقات إيجابيّة تستند إلى الاحترام والتّفهّم. وباختصار، تكمن قوّة الحرّيّة في تعزيز التّعاون والتّفاعل الإيجابي بين أفراد المجتمع. من خلال تشجيع التّبادل الحرّ والمفتوح، يتمّ تعزيز بناء علاقات مجتمعيّة صحيّة وتحقيق تطوّر مستدام ومزدهر.الجزء الثّاني: مبدأ الحرّيّة في موضوعهيمكن تقسيم الجزء الثّاني إلى عنصرين: نتائج المبدأ (العنصر الأول) وحدود المبدأ (العنصر الثّاني) العنصر الأول: نتائج المبدأتلعب الحرّيّة دورًا أساسيًّا في تشكيل أنظمة الحكم وضمان حقوق المواطنين. عندما يتمّ تضمين حقوق الحرّيّات الأساسيّة في دساتير الدّول والنّظم السّياسيّة، يتمّ تعزيز التّوازن والعدالة في الحكم. علاوة على ذلك، تسهم الحرّيّة في تمكين المواطنين من المشاركة في صنع القرارات والمساهمة في تطوير المجتمع. ومن خلال دراسة حالات التّحوّلات السّياسيّة، يتجلّى بوضوح تأثير الحرّيّة في تغيير نهج الحكم. فعلى سبيل المثال، أبرزت ثورات الرّبيع العربي قيمة النّضال من أجل الحرّيّة. وفي حين أنّها أدّت إلى صراعات وتحديات، فإنّها سلّطت الضّوء على تعطّش المواطنين في تكريس حقوقهم السّياسيّة ولعلّ أهمّها الحقّ في التّعبير والمشاركة.بصفة عامّة، يظهر دور الحرّيّة في بناء نظم حكم مستدامة تحقّق العدالة وحقوق الإنسان. تاريخيًّا، تطلّبت الانتقالات الدّيمقراطيّة تضحيات جسام وجهود مضنية، لكنّها أثبتت أنها ضروريّة لضمان تكريس حقوق المواطنين وتحقيق التّقدم الاجتماعي والسّياسي.العنصر الثّاني: حدود المبدأيُعدّ تحقيق التّوازن بين حرّيّة الفرد وحقوق المجتمع ومصالحه تحديًا معقّدًا. فعلى الرّغم من أهمّية منح المواطنين الحرّيّة في تقرير مصريهم، فإنّ ذلك يجب أن يتمّ في إطار يضمن استقرار الكيان وتنميته المستدامة(5). ومن بين أهمّ التّحديّات -ذكرا لا حصرا- التّحديات الأمنيّة وتصاعد التّطرّف، خاصّة عندما يُفسح المجال للتّصرّف دون قيود. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لتحقيق الحرّية الفائضة للأفراد أن يُؤدّي إلى انعدام الانضباط الاجتماعي وإلحاق الأذى بالمجتمع.يجب أن تُؤخذ في الاعتبار القرارات التي تؤثّر في التّوازن بين الحرّيّة والمصلحة العامّة (التّوجّهات الاجتماعيّة والثّقافيّة والاقتصاديّة نموذجا). كما يمكن تجنب الانحرافات من خلال إقرار سياسات توجيهيّة تحمي الحرّيّات الأساسيّة وتحدّ من سلبيّات الاستغلال. بالنّهاية، يتطلب تحقيق التّوازن جهودًا مستمرّة لتعزيز تفهّم مبدأ الحرّيّة ومسؤوليتها في بناء مجتمع يتّسم بالازدهار والعدالة.ختاما، يمكن الإقرار بأنّ الحرّيّة هي من أهمّ المبادئ الحاكمة في الفعل الإنساني والسّياسي على السّواء وإن اختل توازن هذا المبدأ يختل توازن الذّات (إنساني) والكيان (سياسي) وبالمحافظة على الحرّية (شروطا وأركانا) تُبنى الذّات ويتطوّر الكيان من خلال توجّهات إستراتيجيّة واضحة المعالم والأركان. جميلة هي العبارة التي تقول «تمام الحرّيّة في كمال العبوديّة».

الهوامش

(1) من بين الذين اعتبروا الحرّيّة حقًا إيمانويل كانت، الذي اعتبر الحرّيّة حقًا أساسيًّا للفرد، وأشار إلى أنّه يجب على الأفراد أن يتمتّعوا بالحرّيّة في حدود لا تنتهك حرّيّة الآخرين.

(2) من بين الذين اعتبروا الحرّيّة قيمة جان جاك روسو، الذي رأى أنّ الحرّيّة هي قيمة أساسيّة وأنّها تتطلّب تجاوز القيود الاجتماعيّة لتحقيق حالة طبيعيّة من الحرّيّة.

(3) من بين الذين اعتبروا الحرّيّة مبدأً فريدريش نيتشه، الذي اعتبر الحرّيّة كمبدأ أساسي يتطلب تجاوز العوائق والقيود لتحقيق القوّة والتّطوّر الذّاتي.

(4) من بين الذين اعتبروا الحرّيّة مقصدا الطّاهر بن عاشور، المفسر التّونسي والعالم الإسلامي،الذي اعتبر الحرّيّة مقصدًا سادسًا من مقاصد الشّريعة الإسلاميّة، إلى جانب المقاصد الخمسة المعروفة وهي الحفاظ على الدّين، والنّفس، والعقل، والمال، والنّسل. هذا يعكس أهمّية الحرّيّة في الإسلام كقيمة مهمّة يجب الحفاظ عليها، وتوفيرها للأفراد والمجتمع.

(5) التنمية المستدامة هي التي تتوفّر فيها التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة