مرايا

بقلم
د.سالم العيادي
ابو نصر الفارابي الفيلسوف الحق والاستهتار بالحقيقة
 يشتمل هذا الكتاب على أربعةِ فنونٍ، عَرَضْنا في الأوَّل منها أهمَّ الإشكاليَّات والقضايا الفارابيَّة عرضًا تأليفيًّا مكثَّفًا، وخصَّصنا الثّاني للكشف عن المسارِ الّذي قادنا إلى المبحثِ الموسيقيِّ من حيث هو مبحثٌ فلسفيٌّ أساسيٌّ ومدخلٌ ممكنٌ إلى فلسفةِ المعلِّم الثاني. وقد أفردنا الفنَّ الثالث للنَّظر في أهمِّ الأطروحات والمفاهيم الّتي اهتدينا إلى وضعها وصياغتها في لقائنا بفلسفة الموسيقى والفلسفة السِّياسيَّة عند المعلِّم الثَّاني، وأقبلنا في الفنِّ الأخير على الدَّربِ الفيلوموسيقيِّ الّذي يدعونا الفارابي إلى اقتحامه والسُّلوك فيه وإنْ بشيءٍ من الاحتشام والتَّردُّد.
وقد خيَّرنا جمعَ الفنَّيْن الأوَّليْن في مقالةٍ أولى بعنوان «الفارابي والمسار إليه» منبِّهين بذلك على أنَّ الأمر يتعلَّق بصورةٍ تشكَّلت لنا عن الفارابي عبر لحظاتِ مسارٍ بحثيٍّ خاصٍّ احتلَّت الموسيقى مداره المركزيَّ باستمرار. وجَمَعْنا الفنَّيْن الثالث والرَّابع في مقالةٍ ثانيةٍ بعنوان «فلسفة الفارابي» منبِّهِين على أنَّ ضربًا من الاتِّصال بالحقيقة ممكنٌ بِغَيْرِ النَّحو الّذي يحدِّده المنطقُ وتَعْرِضُه نظريَّةُ المعرفة المقوليَّة- الاستدلاليَّة وتفترضه ميتافيزيقا التَّمثُّلِ والتَّماثل شديدة الحضور في المتن الفارابي. ونحن نذهب في هذا الكتاب إلى أنَّ ذلك الضَّربَ من الاتِّصال وجهٌ من وجوه الفلسفة الفارابيَّة. 
فأمَّا في ما يتعلَّق بالإشكاليَّات والقضايا الفارابيَّة فهي الّتي تنتسِج في سَداها لُحْمَةُ الميتافيزيقا والفلسفة السِّياسيَّة وفلسفة الفنِّ الموسيقيّ على نحوٍ يجعل صورةَ «الفيلسوف- الموسيقار» صورةً ممكنةً ومشروعةً للمعلِّم الثَّاني. وأمَّا في ما يتَّصل بالمبحث الموسيقيِّ فقد تتبَّعنا مسارَ تشكُّلِه من جهة المقصد والموضوع والأفق والرِّهان، وذلك لأجل الإبانة عن طبيعة الإشكال الموسيقيِّ من حيث هو إشكالٌ فلسفيٌّ جوهريٌّ وأرضيَّةٌ خصبةٌ قادرةٌ على تغذيةِ الدّراسات الفارابيَّة بأغراضٍ غيرِ مطروقةٍ بَعْدُ، وتطعيمها بمحاورِ نظرٍ مغايرةٍ للسَّائد منها. 
وأمَّا الأطروحات والمفاهيم الفارابيَّة فيعرضها الفنُّ الثالثُ في مستويات مختلفة، سواءً بالنَّظر إلى موضوع العلم الموسيقيِّ، أو بالنَّظر إلى علاقة الفنِّ الموسيقيِّ بالميتافيزيقا، أو من جهة الإشكال السِّياسيِّ الّذي يقود إليه التَّفكيرُ الفلسفيُّ في «صناعة الألحان». وفي ما يتعلَّق بالدَّربِ الفيلوموسيقيِّ فقد استشكلنا أمره من حيث منزلتُه السِّياسيَّةُ والاستطيقيَّة والإتيقيَّةُ وما تفترضه من أسُسٍ ورؤى تدلُّ عليها مفاهيمُ «الفيلسوف الحقّ» و«استعمال اللَّذَّة» و«المُسْتَهتَر»، وغيرها من المفاهيم الّتي شكَّلناها من طينةِ المعجم الفارابيِّ.
ولئن كان من المهمِّ في هذا الكتاب بيانُ المحصِّلات الأساسيَّة لأبحاثنا في الفارابي، فإنَّ الإشارةَ إلى مشاريع مُقْبِلة أمرٌ لا يقلُّ أهمِّيَّةً هو الآخر، وذلك من باب الوقوف على حدود تلك المحصِّلات واستثارة الهمَّة لاستئناف البحث في الفارابي ومعاودة القراءةِ لمتنه الفلسفيّ. ولهذا السَّبب سَعَيْنا إلى التَّنبيه على مواطن الإشكال في بعض المسائل الّتي هي في حاجة إلى مزيدٍ من الاهتمام والبحثِ، بقدر ما سعينا إلى الوقوف على نتائج الأبحاث الّتي شملت الإشكال الموسيقيَّ والسِّياسيَّ في فلسفة الفارابي من جهةِ المبحثِ والأطروحة والمفهوم. فهذا الكتابُ استهلالٌ لبحوثٍ أخرى ممكنةٍ في الفلسفة السِّياسيَّة وفلسفةِ الفنِّ، وذلك بالمعنى الّذي يفترضُه لفظُ الاستهلالِ. 
هذا العملُ إذن، مقدِّمةٌ أو مدخلٌ لفلسفة الفارابي، وذلك لأنَّه يشتمل على إشارات إلى أهمِّ ما اسْتَشْكَلَه المعلِّم الثاني من مسائل. وهذه الإشارات هي – في تقديري -  أوَّلُ ما يُقالُ في تلك الفلسفةِ ويَحسُن البدءُ به من جهةِ التَّمهيد أو الفاتحة. لذلك لم نعتمد في هذا العمل أسلوبَ الكتابةِ «المُسْتقصية» الّذي اعتمده الفارابي في كتابه فلسفة أرسطو، وإنَّما اعتمدنا أسلوب الإلماعِ إلى دروب يمكن سلوكُها لأجل لقاءٍ فلسفيٍّ أصيلٍ بعَلَمٍ بارزٍ من أعلام الفلسفة عبر تاريخها الكونيِّ. وطريقةُ الإلماع هذه قريبةٌ من الطَّريقة الّتي توخَّاها الفارابي في كتابه فصول منتزعة. 
يتعلَّق الأمرُ بفلسفة الفارابي على نهج التَّفصيل المنتَزَع. ونحن نقصِد هذه الفلسفةَ على سبيل «استخراج المعاني التي أومأ إليها» أبو نصرٍ. وبذلك يكون هذا الكتابُ بمثابةِ «العون لمن أراد معرفةَ الفلسفة الفارابيَّة وغنيةً لِمَنْ لا يحتمِل مشقَّة الدَّرس والتَّأمُّل»، وذلك على نحوٍ شبيهٍ بما عرضه الفارابي في مقدِّمةِ تلخيص نواميس أفلاطون، الّذي ختَمَه قائلاً: «... فتأمَّلناه وتصفّحناه واستخرجنا من معانيه ما لاح لنا... ولعلَّه قد أودع أقاويله... من اللَّطائف والدَّقائق والمعاني النَّافعة ما هو أضعاف ما قصدناه. إلاَّ أنَّ ما أتيْنا به هو ممَّا قصد بيانَه». 
وهكذا لئن كنَّا قد خيَّرنا وضع هذه البحوث تحت عنوان جامعٍ هو «الفيلسوف الحقّ والاستهتار بالحقيقةِ»، فإنَّ ذلك الخيار لا يدلُّ أبدًا على ادّعاء الإحاطةِ بفكر المعلِّم الثاني إحاطة تفصيليَّة شاملة لكلّ المباحث، وإنَّما يدلُّ فقط على أنَّ معاودةَ القراءةِ واستئنافَ البحث في فلسفةِ الفارابي مطلوبان، بالرّغم من كلِّ الدّراسات والأعمال المنشورة حوله. وذلك لا بسبب تقصيرٍ قد يكون اعترى تلك الدّراسات أو قصورٍ قد يكون أصاب تلك الأعمال (بل العديد من الدراسات في الفارابي دراسات جادَّة وجليلة، وقد أفدنا منها إفادة عظيمة)، وإنَّما لأنَّ الفارابي جديرٌ بقراءةٍ تقصده رأسًا وابتداءً لأجل «صداقةٍ» مَّا أو «تَتَلْمُذٍ» يستلهم منه استلهام المريدين. ولعلَّه قد أودع أقاويلَه من اللَّطائف والدَّقائق والمعاني النَّافعة ما هو أضعاف ما قصدناه.   
ولا يكون هذا الاستلهام الفلسفيُّ ممكنًا دون أن تتَّضح لنا أوّلا شرائطُ الفيلسوف الحقِّ كما وضعها الفارابي ضدَّ «الفلسفةِ البتراء». كما أنَّ المريدَ لا يقصِد مقامَ الحقيقةِ إلاَّ قصد عشقٍ وَوَلَهٍ واستهتارٍ. وإذا كان الفيلسوفُ «نافِعًا» للإنسانيَّة فلأنَّه مضطلعٌ بمسؤوليَّةِ التَّعقُّلِ السِّياسيِّ بقدر ارتباطِه بالعقلِ الميتافيزيقيِّ. وهو إذْ يجعل نفسَه «نافعًا» في «الأشياء الإنسانيَّة» لا يُهمِل «جمالَ» مقامِه الحرِّ في ما وراء هذه الأشياء. لذلك كان استهلالُنَا لفلسفة الفارابي مزدوَجًا: في الفلسفةِ السِّياسيَّة استقصاءً لمعنى «الفيلسوف الحقِّ»، وفي الفنِّ الموسيقيِّ بيانًا لمعنى الاستهتار بالحقيقةِ. 
ومن هذا المنطلق لسنا ندَّعي في هذا العمل أنَّنا قد وفَّينا الفارابي تمامَ حقِّه. وقد يكون من المفيد بالنِّسبة إلى تاريخ الفلسفة العربيَّة - والدِّراسات الفارابيَّة بالخصوص – أن تتعدَّد المداخلُ التَّأويليَّةُ وتتنوَّع خططُ البحثِ، وذلك خاصَّةً في ما يتعلَّق بمنطلقات فلسفة الفارابي الّتي تشكَّلت في قراءته لفلسفةِ الحكيميْن أفلاطون وأرسطو من ناحيةٍ، وفي ما يتعلَّق أيضًا بامتدادات الفارابي كما تجلَّت في مواقف الفلاسفة اللاَّحقين من ناحيةٍ أخرى. وهو أمرٌ صرفنا عنه النَّظر في هذا الكتاب حتَّى يتمحَّض لنا الفارابي خالصًا، من حيث هو فيلسوفٌ- موسيقارٌ، وتلك منزلةٌ فريدةٌ قلَّما نزل الفلاسفةُ نُزُلَها عبر تاريخ الفلسفة. 
وقد تكون الموسيقى - من زاوية النَّظر هذه - من مقتضياتِ التَّشكيلِ المعرفيِّ - السِّياسيِّ لصورة «الفيلسوف الحقّ». فبأيّ معنى تمثِّل الموسيقى مَحْمَلاً ملائمًا لرسم الفلسفة الفارابيَّة على نحوٍ أكثرَ عمقًا ووضوحًا في آن؟ وكيف تكون السِّياسةُ بؤرةَ الإشكالِ الفلسفيِّ في علاقتِه بالأسس العقليَّة الميتافيزيقيَّة من ناحية، وفي صلتِه بتعبيراته التَّعقُّليَّة العمليَّة من ناحية أخرى؟ وإذا كان بالإمكان فارابيًّا بناءُ المشتركِ الكونيِّ المعموريِّ، فما الدَّورُ الموكَلُ للفنِّ الموسيقيِّ في هذا البناء التَّخييليِّ الانفعاليِّ؟
غايةُ المرادِ من هذا الكتاب أنْ نكشف عن بُعدٍ من أبعاد الفلسفة الفارابيَّة، وذلك من جهةِ أنَّ الفلسفةَ الجديرةَ بالاعتبار إنَّما هي «علمٌ وسيرةٌ» كما تبيَّن ذلك للفارابي في مفتتح كتابِه فلسفةُ أفلاطون وفي مجمل مباحث كتاب تحصيل السَّعادة: فالفلسفةُ الحقُّ علمٌ ناظرٌ في الوجود على سبيل التَّأمُّل «في ما ليس لنا فِعلُه» (العلمُ الكاشفُ عن الحقيقةِ) وسيرةٌ تنحت الكينونة على أرضيَّة «ما لنا فعلُه» استكمالاً للإنسانيَّة وتَجَوْهُرًا لصورتِها النَّوعيَّة (الفعلُ المحصِّلُ للسَّعادةِ). 
ونحن نذهبُ في هذا الكتاب إلى أنَّ هذا البعد لا ينكشف إلاَّ بقدر ما تتَّضح أشكالُ التَّقاطعِ والتَّواشجِ والتَّصادي بين الحكمة والموسيقا، على نحوٍ يجعل من الممكن «مَوْسَقَةُ» الفلسفة بقدر ما يكون من الممكن «فلسفةُ» الموسيقى. وذاك هو دَرْبُ المُسْتَهْتَرِ بالحقيقة والمولعِ بــ «الأشياء الإلهيَّةِ» وجدًا وعشقًا، وذاك هو اقتدارُ الفيلسوف الحقِّ «علمًا وسيرةً». وفي ذلك وجهٌ من وجوه الطِّبِّ الإنسيِّ الأسمى السَّاعي إلى معالجةِ أمراضِ الحضارةِ وأسقامِ المدينةِ وعِلَلِ الأنْفُسِ. 
وهذا الأفقُ الموسيقانيُّ الكاشفُ عن مدخل الموسيقى في الإنسانيَّة «يُحتَاجُ فيه إلى أقاويل كثيرة» كما تشير إلى ذلك الفقراتُ الأخيرةُ من كتاب الموسيقى الكبير. وقد يكون هذا التَّوَعُّرُ والاستعصاءُ مردودًا إلى أنَّنا لم نتبيَّن بَعْدُ وشائجَ القُرْبى بين صناعة الحكمة وصناعة الألحان على نحو تتجلَّى به موسيقانيَّةُ الفلسفةِ الفارابيَّةِ. فهذه الموسيقانيَّةُ شديدةُ التَّأثيرِ في «تَفلْسُفِ» الفارابي، وذلك بِقَدْرِ تأثيرِ «المنطقِ»، حتَّى صار ذكرُ التَّأثيريْن ذِكرًا على سبيل «المَعِيَّة» الواصلة. وعلى هذا النَّحو صار من المقبول أن يوصَف الفارابي في كتبِ التَّراجِمِ بأنَّه «صاحبُ التَّصانيف في المنطق والموسيقى».