بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
براءة الشهادة الحلقة الخامسة: مفهوم الشهادة في فضاء المرويات - السيف والقتل
 بعد أن خصّصنا الحلقة الأولى من هذا البحث (العدد 191، جوان 2023) في تتبّع ما أثاره أصحاب المعاجم من معان ودلالات عليقة بمادّة «شَهِدَ»، مبتدئين بابن فارس، ثمّ الرّاغب الأصفهاني، ثمّ ابن منظور. عمدنا من خلال البحث في المدوّنة التفسيريّة بمذاهبها المختلفة في الحلقة الثّانية (العدد 192، جويلية 2023) إلى رصد مفهومي «شَهِدَ» و«الشّهادة»، وفي الحلقة الثالثة (العدد 193، أوت 2023) إلى مفهوم «الشّهيد الحي»، وفي الحلقة الرّابعة (العدد 194، سبتمبر 2023) إلى مفهوم «الشّاهد».
واتضح بعد التّحليل، أنّ دلالة فعل «شَهِدَ» مبنيّة على الحياة والحضور والعلم والدّراية. وأنّ الشّهادة تتمثّل في تبنّي الرّأي والاقتناع به والإدلاء بمقتضاه عن طريق العلم  والاستدلال. وبالتالي فإنّ «الشّهيد» بريء من الموت، وما فكرة الموت إلاّ معنى مضاف عمّقه الاستعمال وكرّسته الثّقافة السّائدة.
وفي هذه الحلقة من بحثنا حول الشّهادة والشّهيد، نسعى إلى رصد التّباين الحاصل بين ما ينصّ عليه القيل القرآني من معاني الحياة والسّلم الواردة في لفظتيْ الشّهادة والشّهيد، وما تقوله الرّوايات من إضافات تكشف عن حجم الانزياح والتّوسع في المعنى إلى حدّ المناقضة التّامة، حيث  أصبح مفهوم الشّهادة معادلا للموت أو هو شرط من شروط تحقّقها. ونتّخذ من إبراز قيمة السّيف وليجة للخوض في مسألة ارتباط الموت بمفهوم الشّهادة.
السّيْفَ السّيْفَ
يحسن البدء بالتّنبيه إلى أنّ تسمية آية من آيات المصحف باسم «آية السّيف» وهي الآية 5 من التّوبة(1) على الرّغم من عدم ورود هذه المفردة في السّياق القرآني البتّة، هو أمر يدعو إلى القول إنّ هذه الآية قد نسخت أربعا وعشرين ومائة آية عند الحلّي(2)، ووافقه ابن العربي في نسخها هذا الكمّ من الآيات(3)، وخالفهما ابن خزيمة الفارسي إذ يرى أنّها نسخت ثلاث عشرة ومائة آية فحسب(4). وهذه الآية تتضمّن حسب الحلّي نسخها في حدّ ذاتها بما تتضمّنه من شرط في جزئها الثّاني، يقول الحلّي في هذا المجال: «هذه الآية من عجائب القرآن، لأنّها نسخت مائة وأربعا وعشرين آية، ثمّ نسخها، ثمّ استثنى من ناسخها، فنسخه بعدُ قوله: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ﴾(التوبة: 6)(5). 
وهكذا يصبح النّاسخ منسوخا والمنسوخ ناسخا، وأضحت القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة الّتي تنشدها وتشيد بها آيات غير قليلة من القرآن، تبعا لهذا الإجراء يُؤمر بها حينا وتُنسخ حينا آخر، وتكون بذلك الآية 5 من التّوبة، في الموروث الدّيني، قد ألغت كثيرا من القيم الإنسانيّة كالسّلم والمحبّة والصّبر وحريّة المعتقد والتّفكير، فالآية الّتي تنصّ على ألاّ إكراه في الدّين(6)، على سبيل المثال، أضحت بمفعول النّسخ عند قوم هي خاصّة بأهل الكتاب فقط لا يجوز إكراههم على الإسلام بشرط أداء الجزية. وقال آخرون هي عامّة ثمّ نُسخت بالآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾(التّوبة: 73)، ويخالفهم الحلّي إذ يرى أنّ الآية النّاسخة هي الآية 5 من التّوبة، وأمّا الطّبري فينكر نسخها(7). 
ولقد سعت المرويّات إلى إلصاق السّيف بمحمّد بن عبد الله منذ وقت مبكّر حتّى قبل بعثه، مبشّرة بكونه صاحب شريعة وسيف. فقد ذكر صاحب السّيرة الحلبية أنّ النّبي ﷺ  لمّا كان في سفر مع عمّه، رأى راهب غمامة تظلّه تحت شجرة، فلم يتمالك أن انحدر من صومعته، وقال له: «باللاّت والعزّى ما اسمك؟»، فقال له: «إليك عني ثكلتك أمك»، ومع ذلك الرّاهب رِقّ مكتوب، فجعل ينظر في ذلك، ثمّ قال: «هو هو، ومنزّل التّوراة»، فظنّ بعض القوم أنّ الرّاهب يريد بالنّبي مكرا، فانتضى سيفه وصاح: «يا آل غالب يا آل غالب»، فأقبل النّاس يهرعون إليه من كلّ ناحية يقولون: «ما الّذي راعك؟»، فلمّا نظر الرّاهب إلى ذلك أقبل يسعى إلى صومعته، فدخلها وأغلق عليه بابها، ثمّ أشرف عليهم فقال: «يا قوم ما الذي راعكم مني؟ فوالذي رفع السّماوات بغير عمد، إنّي لأجد في هذه الصّحيفة أنّ النّازل تحت هذه الشّجرة هو رسول ربّ العالمين، يبعثه اللّه بالسّيف المسلول، وبالرّبح الأكبر، وهو خاتم النّبيين، فمن أطاعه نجا ومن عصاه غوى»(8).   
ولا تقتصر الرّوايات الممجّدة للسّيف والسّلاح على فترة زمنيّة دون أخرى من حياة النّبي ﷺ حتّى تنسب إليه أقوالا تُثني على حمل السّلاح والغزو لمدّة طويلة، وكأنّ الغزو هو أقوم عبادة لتعمير البلاد ونفع العباد وأفضل عمل صالح تُحقّق به معاني الاستخلاف في الأرض. فقد أورد الزّمخشري في كشافه، ثِنْي تفسيره لسورة القدْر، رواية عن النّبي ﷺ أنّه ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السّلاح في سبيل اللّه ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم فأُعطُوا ليلة هي خيرٌ من مدّة ذلك الغازي(9).
 وتزداد قيمة السّيف عندما تُصبح الجنّة مستظلّة به كما أشار إلى ذلك البخاري من أنّ النّبي ﷺ، قال: «اعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السّيوف»(10). 
وعندما يصبح هذا السّيْف رمزا تُختزل فيه قيمة الجهاد، فإنّه يكتسح عالميْ الشّعور واللاّشعور، اليقظة والحلم، ومصداق ذلك ما رُوي عن محمّد بن العلاء، عن أبي أُسامةَ، عن بُرِيْدِ بن عبد الله بن أبي بُرْدَةَ، عن جده أبي بُرْدَةَ، عن أبي موسى أُرَاهُ عن النّبي ﷺ قال: «رأيتُ في رُؤيا أنّي هَزَزْتُ سيفا فانقطع صدرهُ، فإذا هو ما أُصيبَ من المؤمنين يوم أُحُدٍ، ثمّ هَزَزْتُهُ أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء اللّه به من الفتح واجتماع المؤمنين»(11). 
والجدير بالملاحظة هو أنّ الرّواية تقول الشّيء أحيانا وضده أحيانا أخرى.  فتمجيدها للسّيف كما مرّ بنا، يتعارض رأسا مع روايات أخرى تحث على عدم تمنّي لقاء الأعداء وتحث على تجنّبه، ففي رواية عن سالم أبي النّضْرِ موْلى عُمَر بن عُبيد اللّه وكان كاتبا له قال كتب إليه عبد اللّه بن أبي أوْفى فقرأتُه فإذا فيه: أنّ رسول اللّه ﷺ قال: «لا تتمنّوا لقاء العدُوّ وسَلُوا اللّه العافيةَ»(12). 
ولا عجب، حينئذ، من تمجيد السّيف ضمن ثقافة ترى فيه أداة لكسب الرّزق من خلال الغارات وللذّبّ عن العِرض والأرض. وقد ورد عن عبد اللّه بن عمر أنّ النّبي ﷺ قال: «بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بالسَّيْفِ، حتّى يُعبدَ اللهُ وحده لا شريك له، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»(13). وتلك عوامل تهوّن من قيمة النّفس البشرية وتُسهّل الخوض في مسائل القتلِ.
القتلَ القتلَ
إنّ النّتيجة الطّبيعية لإعلاء قيمة السّيف وتمجيده هي استساغة فكرة الموت إلى حدّ تمنّيه، باعتبار أنّ الموت سيُمثّل الشّهادة ويجسّدها، والشّهادة هي بوّابة الجنّة. وقد أورد مسلم في صحيحه بابا لافتا للنّظر عنونه بباب «الدّليل على أنّ قاتل نفسه لا يكفر» وهو عنوان عامّ يكتنفه كثير من اللَّبس وهو لا ينطبق تمام الانطباق على قصّة الرّجل الذي مرض فجزع فقطع براجمه(14)، فشخبتْ يداه حتّى مات موتة دون قصد(15). ومن هذا المدخل أصبح القتل المضاف إلى سبيل اللّه مطلبا في حدّ ذاته دون تحديد أو تدقيق المراد من عبارة «في سبيل اللّه». فهذا أبو هريرة يذكر أنّ رسول اللّه ﷺ قال: «والذي نفسي بيده وَدِدْتُ أنّي لأُقاتلُ في سبيل اللّه فأُقْتَلُ، ثمّ أُحْيَا ثمّ أُقْتَلُ، ثمّ أُحْيَا ثمّ أُقْتَلُ ثمّ أُحْيَا، ثمّ أُقْتَلُ ثمّ أُحْيَا»، فكان أبو هريرة يقُولُهُنَّ ثلاثا أشْهَدُ باللّه(16). وعن أنس رضي اللّه عنه عن النّبي ﷺ قال: «ما أحد يدخل الجنّة يحب أن يرجع إلى الدّنيا وله ما على الأرض من شيء إلاّ الشّهيد، يتمنّى أن يرجع إلى الدّنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة» (17)  
وعليه فإنّ قتل النّفس سيتحوّل إلى سيف مسلول على رقاب المخالفين في الاعتقاد والفكرة والمذهب، قال علي رضي اللّه عنه: سمعت النّبي ﷺ يقول: «يأتي في آخر الزّمان قوم حُدثاءُ الأسنان سُفهاءُ الأحلام يقولون من خير قول البريّة يمْرقُون من الإسلام كما يَمْرُقُ السّهم من الرّميّة لا يُجاوز إيمانهم حناجرهم، فأيْنما لقيتُمُوهم فاقتُلوهم، فإنّ قتْلَهُمْ أجرٌ لمنْ قتلهم يوم القيامة»(18). 
والمتأمل في هذه الرّواية يلحظ أنّ النّبي ﷺ قد أُسند إليه علم الغيْب ما خوّل له الإخبار بما ستأتي به الأيّام بعده، وهو ما يُدلّل على فعل السّياسة بالدّين. إنّ تصوير النّبي ﷺ عالما بالغيْب يتناقض رأسا مع القيل القرآني في الغرض: ﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(الأعراف: 188)، وما الغيب الّذي ارتضاه اللّه لرسوله إلاّ ما تجسّد في الوحي الذي بلّغه في شكل نبوءة ورسالة. 
لقد أصبح دم المسلم مباحا بمقتضى اقترافه لبعض المعاصي أو تخلّيه عن الدّين الذي هو في حقيقة الأمر محض اختيار حرّ علما بأنّ الطّاعة من التّطوّع والطّواعية، ولم يؤْثر عن النّبي ﷺ أنّه تعقب تاركي الشّعائر أو المرتدّ عن دينه. وانظر إلى ما ورد في صحيح مسلم من أنّ النّبي قال رواية عن عبد اللّه: «لا يحلّ دم امرئ مسلم، يشهد  أنّ لا إله إلاّ اللّه، وأنّي رسول اللّه، إلاّ بإحدى ثلاث: الثّيب الزّاني، والنّفس بالنّفس، والتّارك لدينه، المُفارقُ للجماعة»(19). وواضح تخبّط هذه الرّواية بين تأثيريْن: الأوّل توراتي لأنّ التّوراة تنصّ على أنّ عقوبة الزّاني هي الرّجم(20)، والرّجم لا ذكر له في المصحف، ولو كانت فريضة لذكرتها سورة النّور باعتبارها سورة مفروضة، والفرائض فيها محدّدة﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النّور: 1)، وبوصفها قد حوتْ أحكام الزّنى بطريقة مفصّلة. والثّاني سياسي لربطه مفارقة المرء للدّين بالابتعاد عن الجماعة لأنّ الحاكم تاريخيّا، كان أحوج ما يكون إلى الجماعة الّتي تُضفي المشروعيّة على حكمه. ولمّا كان محتكرا للدّين فإنّه كان يعتبر أنّ من عارضه سياسيّا قد خرج عن حدود الدّين ومرق منها. وعليه فهو زنديق وكافر وملحد جاز قتله. 
ومازالت دوائر الموت تتداخل وتتماهى مع دوائر الشّهادة لتطال صُنوفا عديدة منها الغريق والحريق والهالك تحت جدار أو حجارة سقطت عليه وغيرهم تبعا لما ورد عن النّبي ﷺ من أنّ المبطون والموتى بالغرق والحرق وصاحب الهدم وذات الجَنْب كلهم شهداء(21). ويدعّم هذا المعنى حديث آخر  مفاده أنّ الشَّهداء سَبْعة سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَيرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ(22). وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ(23). وعَنْ أَبي قتَادَةَ أنَّ رَسُول اللَّهِ  ﷺ قَامَ فيهمْ فَذَكَرَ أنَّ الجِهادَ في سبِيلِ اللَّهِ، وَالإيمانَ بِاللَّهِ، أَفْضَلُ الأَعْمَال، فَقَامَ رجُلٌ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَرأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سبيلِ اللَّهِ أتُكَفَّرُ عنِّي خَطاياي؟ فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: نعمْ إنْ قُتِلت في سبيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صابِرٌ، مُحْتسِبٌ مُقبلٌ غيْرُ مُدْبِرٍ. ثُمَّ قَال رسُولُ اللَّه ﷺ: كَيْفَ قُلْتَ؟ قَالَ: أَرأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَعمْ وأَنْتَ صابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبلٌ غَيْرُ مُدْبرٍ، إلاَّ الدَّيْنَ، فَإنَّ جِبْرِيلَ عليه السلامُ قَالَ لي ذلكَ(24). وعَنْ جابرٍ  قالَ: قالَ رَجُلٌ: أيْنَ أنَا يَا رسُولَ اللَّهِ إنْ قُتِلتُ؟ قَالَ في الجَنَّةِ، فَألْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ في يَدهِ، ثُمَّ قاتَلَ حتَّى قُتِلَ»(25). وفي رواية أخرى أنّ «مَن سألَ اللَّهَ القتلَ في سبيلِهِ صادِقًا من قلبِهِ، أعطاهُ اللَّهُ أجرَ الشَّهيد»(26).
أمام هذه الرّوايات الّتي تُعدّ مجرّد عيّنات من رواية أخرى، هي أكثر عددا، يجدر بالدّارس الوقوف على ما يُستفاد من عبارة «في سبيل اللّه» الّتي ظلّت غائمة المعنى في المدوّنة التّفسيريّة دون ضبط أو تحديد. ولابدّ أنّ هذه العبارة تحيل على توجّه عامّ، له جملة محدّدات إذا تحقّقت في فرد بعيْنه أصبح من منظور قرآني مبشَّرا بالجنّة. وهذه المحدّدات تتمثّل في الالتزام الطّوعي والحرّ بالقوانين الإلهيّة والرّضى بها والضّرب في الأرض للسّعي والعمل الجادّ والنّافع والحرص على استمرار هذه القوانين المنظّمة لكلّ جوانب الحياة وشؤونها وتعطيل الإرادة الخاصّة أمام الإرادة العامّة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. والانضباط بكلّ هذه المحدّدات والقوانين علامات بارزة تحدّد معالم سبيل اللّه كما رسمتها الآية القرآنيّة التّالية:﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(التوبة: 112) ، فكلّ فرد تمثّل هذه الصّفات وجسّدها في حياته ثمّ قُتل غيلة أو ظلما، فاللّه تكفّل في كتابه بجزائه وإثابته(27). 
كما أنّ الدّارس معنيّ بمعرفة المعاني الواردة في مادّة «قَتَلَ» وما تحتويه من دلالات أوسع من دلالة الموت وتلك قوّة قوليّة لم يقع الاهتمام بها ولم تُولَ أيّ اهتمام، «فقَتلَ» في لسان العرب تعني القتل إلمامه بضرب أو حجر أو سمّ أو علّة. والرّجل القتيل هو المقتول، يقول المثل: مقتل الرّجل بين فكّيْه أي سبب قتله لسانه. والتّقتيل هو التّكثير، ويرد القتل بمعنى اللّعنة كقولك قاتله اللّه أي لعنه اللّه. وقاتل تعني عَادَى وقد يُستعمل قاتل للتّعجب مثل قاتله اللّه ولا يُراد به وقوع الأمر، وليس كلّ قتل بمعنى القتل الحقيقي والإماتة. وفي حديث السّقيفة «قتل اللّه سعدا فإنّه صاحب فتنة وشرّ» بمعنى دفع اللّه شره. وقيل في رواية أنّ عمرا قال يوم السّقيفة: اقتلوا سعدا قتله اللّه أيّ اجعلوه كمن قُتل واحسبوه في عداد من مات وهلك ولا تعتدّوا بمشهده ولا تعرجوا على قوله، وعندئذ لا يُقبل له قولا ولا تقام له دعوة. ومثله الحديث القائل: إذا بُويع لخليفتيْن فاقتلوا الأخير منهما أي أبطلوا دعوته واجعلوه كمن مات. ويٌقال قُتل الرّجل إذا قتله عشق النّساء أو الجنّ. واُقتتل بمعنى جُن وخُبل، والقِتْلة هي الحالة من ذلك كلّه. والمَقْتلُ هو الموضع والمُقتّل هو المُضرّسُ، وقتله علما، وقتل الشّيء خُبْرًا، ورد في القرآن ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ‎ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾(النّساء: 157-158)  أي لم يحيطوا به علما. وقتل الشّيء علما أي تأويله والعلم به علما تامّا، ويقال هو قاتل الشتّوات أي يطعم فيها ويدفئ النّاس. وقتل الرّجل غليله أي سقاه وزال غليله بالرّيّ. والنّاقة نقية القتال أي إنها وإنْ هُزلت فنفعها باق. والرّجل المُقتّل هو المجرّب للأمور. وقتل الخمر قتلا مازجها فأزال بذلك حدّتها. وتَقَتَّلَ الرّجل للمرأة خضع وتذللّ بالعشق والحبّ. والنّاقة المقتّلة هي المذلّلة المكدودة تعبا. وتقّتلت المرأة تزيّنت وتخايلت في مشيتها(28).
وعلى هذه الشّاكلة يستبين الدّارس أنّ القتل يبدأ بالمحاصرة والتّضييق وكسر الشّوكة للظّالم المعتدي دون غيره تبعا لصريح الآية: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ  أَتَخْشَوْنَهُمْ  فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾(التّوبة: 13) . وآخر مرحلة  من مراحل القتل قد تُفضي إلى الموت. ولا أدلّ على ذلك من الاستعمال القرآني لفعل «قتل» في الآيتيْن التّاليتيْن: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ  وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ  وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ  فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ  كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‎‏ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(البقرة: 191-192) . ولو كان القصد من القتل هو الإماتة فكيف يستقيم الحديث عن الإخراج والانتهاء وعن التّوبة كما تنصّ عليها سورة التّوبة في السّياق التّالي: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(التوبة: 5).‎
الهوامش
(1) ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. 
(2) كمال الدّين عبد الرّحمان بن محمّد العتائقي الحلّي، النّاسخ والمنسوخ، تحقيق عبد الهادي الفضيلي، د ت، ص53.
(3) السّيوطي، الإتقان، ج2، دار المعرفة، بيروت، د ت، ص31.
(4) ابن خزيمة الفارسي، الموجز في النّاسخ والمنسوخ، المكتبة العلاّمية، مصر، ط1، 1938، باب: بيان المنسوخ في القرآن بآية السّيف، ص 271 وما بعدها.
(5) واُنظر الحلّي، النّاسخ والمنسوخ، م ن، ص53. 
(6)  انظر البقرة 2، الآية 256:﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ...﴾.
(7)  الطبري، جامع البيان، مج2، م ن، ص1498.
(8) علي بن برهان الدّين الحلبي، إنسان العيون في سيرة المأمون: السّيرة الحلبية، ج1،  دار إحياء التّراث، د ت،  ص134.
(9)  الزّمخشري، الكشاف، ج4، م ن، ص616.
(10) البخاري، الصّحيح، م ن، كتاب الجهاد والسّير، باب: الجنّة تحت بارقة السّيوف، حديث رقم2818، ص594.
(11) البخاري، الصّحيح، م ن، باب: إذا هَزّ سيْفا في المنام، حديث رقم 8041، ص1411.
(12) البخاري، الصّحيح، م ن، باب : كراهية تمنّي لقاء العدوّ ، حديث رقم 7237، ص1444. ومسلم، الصّحيح بسند مختلف، مج6، ج12، م ن، كتاب الجهاد والسّير، باب: كراهة تمنّي لقاء العدوّ، والأمر بالصّبر عند اللّقاء، حديث رقم 1741، ص185.
(13) البخاري، الصّحيح، م ن، باب : ما قيل في الرّماح ويذكُر عن ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جُعل رزقي تحت ظلّ رُمْحي، وجُعل الذّلّة والصّغار على من خالف أمري»، ص612.
(14)البراجم: المفصل الظّاهر من أصابع اليّد مما يلي الأظافر، ابن منظور، لسان العرب، مج12، م ن، مادّة «بَرْجَمَ»، ص46.
(15)مسلم، الصّحيح، مج1، ج2، م ن، كتاب الإيمان، باب: الدّليل على أنّ قاتل نفسه لا يكفر، ص271.
(16) البخاري، الصّحيح، م ن، باب: ما جاء في التّمني، ومن تمنّى الشّهادة، حديث رقم 7226، ص1442.
(17) البخاري، الصّحيح، م ن، كتاب الجهاد، باب: تمنّي المجاهد أن يرجع إلى الدّنيا، حديث رقم 2817، ص594.
(18)  البخاري، الصّحيح، م ن، باب : من راءى بقراءة القرآن أو تَأَكَّلَ به أو فخر به، حديث رقم5057، ص1077. والقتل الّذي يُتقرّب به إلى الله  يذكّر بقولة للمسيح عيسى في إنجيل يوحنا، الإصحاح16: المسيح يرسل الرّوح القدس المعين، الآية2، ص161. «بل سيأتي وقت يظنّ فيه من يقتُلكم أنّه يُؤدّي خدمة لله».
(19)  مسلم، الصّحيح، مج6، ج11، م ن، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والدّيات، باب: ما يباح به دم المسلم، حديث رقم 1676، ص110.
(20)  مسلم، الصّحيح، مج 6، ج 11، م ن، كتاب الحدود، باب: رجم اليهود، أهل الذّمة، في الزّنى، حديث رقم1699، ص139.
(21) ابن الأثير، النّهاية في حديث الغريب والأثر، ج2، تحقيق محمود محمّد الطناحي وطاهر أحمد الزاوي، مؤسسة إسماعيليان للطّباعة والنّشر والتّوزيع، قُمْ، إيران، د ت، ص513.
(22) مالك بن أنس، المُوطّأ، المكتب الجامعي الحديث، الأزاريطة، الإسكندرية، د ت،    كتاب الجنائز، باب: النّهي عن البُكاء على الميْت، حديث رقم36، ص118.  وأبو داود، السّنن، ج2، تحقيق محمّد  عبد العزيز الخالدي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1996، كتاب الجنائز، باب: في فضل من مات بالطّاعون، حديث رقم3111، ص396.
(23) أبو داود، السّنن، ج3، م ن، كتاب السّنة، باب: في قتال  اللّصوص، حديث رقم 4772، ص251. ومسلم، الصّحيح، مج1، ج2، كتاب الإيمان، باب: الدّليل على أنّ من قصد أخذ مال غيره بغير حق (كان القاصد مهدر الدّم في حقه وإن قتل كان في النّار) وأنّ من قُتل دون ماله فهو شهيد، حديث رقم 225، ص293.
(24) مسلم، الصّحيح،  مج7، ج13، م ن، كتاب الإمارة، باب: من قُتل في سبيل اللّه كفرت خطاياه، إلاّ الدّيْن، حديث رقم1885، ص20.
(25)  مسلم، الصّحيح، مج7، ج13، م ن، كتاب الإمارة، باب: ثبوت الجنّة للشّهيد، حديث رقم1899، ص30. 
(26) أبو داود، السّنن، ج2، م ن، كتاب الجهاد، باب: فيمن سأل اللّه الشّهادة، حديث رقم2541، ص ص225،224.
(27)  المنهج اللّفظي التّرتيلي: @Kussay.Fakhir  موقع ويب متعلّق بالمجتمع والثّقافة.
(28)  ابن منظور، لسان العرب، مج11، دار إحياء التّراث العربي، بيروت، لبنان، د ت،  مادّة «قتل»، ص ص552،547.