في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
نحو بديل للحدّ من الفقر
 مساهمة مِنِّي في بلورة بدائل من خلال منتدى الفارابي للدّراسات والبدائل وعلى أعمدة مجلة «الإصلاح» الإلكترونيّة، أستمر في السّعي- وهل للإنسان إلاّ ما سعى- نحو هندسة بديل للحدّ من الفقر الذي هو بمثابة العدوّ الذي يستهدف حياتنا ومعاشنا بل وجودنا الحضاري والإنساني.
وحين نسعى نحو بديل للحدّ من الفقر فإنّنا ضمنيّا نُقرّ بمحدودية السّبل الّتي تم إتباعها إن لم نقل فشلها وفشل السّياسات الّتي تمّ وضعها، إقرارا ليس من فراغ بقدر ما هو نتيجة معرفة بواقع الفقر وإلمام بالسّبل الّتي تم إتّباعها للحدّ منه، معرفة جعلتني أحدّد منذ البداية ملامح هذا البديل الذي أريد له أن يكون مُميّزا وعقلانيّا وواقعيّا. عقلانيّا حتّى أقدر من خلاله على مُخاطبة الإنسان باعتباره كائنا عاقلا أينما وُجِدَ، وواقعيّا حتّى يكون قابلا للتّنفيذ لا مُجرّد وعود أو شعارات سرعان ما تُصبح سرابا.
ولعل من أهمّ ملامح هذا البديل للحدّ من الفقر ما يلي:
- أوّلا، بديل مُتصالح مع بيئة المجتمع المعني، الطّبيعيّة والبشريّة والثّقافيّة الحضاريّة، لا مستورد أو منبت أو خادم لأجندات لا وطنيّة ولا شعبيّة. 
- ثانيا، بديل يقف على أرضيّة قيميّة تُعطي للإنسان اعتبارا وتهدف الى الحفاظ على كرامته، غير منطلقة من التّعامل معه تعاملا اقتصاديّا فجّا بالنّظر إليه كعبء أو مورد.
- ثالثا، بديل ينطلق من مُسلّمة أنّ الإنسان كائن مستأمن على تلك الموارد الطّبيعيّة المسخّرة له أصلا وتلك المكتسبة من خلال الجهد الجمعي للنّاس، محليّا وعالميّا ومضطلع بدور إعمار الأرض والإصلاح فيها.
ولبلورة ذلك البديل للحدّ من الفقر قُمت بتحرير المعنى السّديد للفقر استئناسا بـ «التّحرير والتّنوير» للعلامة محمد الطّاهر ابن عاشور من خلال بيان مضمون مصطلح الفقر(1) واكتشفت طبيعته وتعدُّدِ أبعاده(2) ثم قمت بتنوير العقل، بما يرفع التّحديات ويُعالج الإشكاليّات، وذلك من خلال عرض ما توصّل اليه العقل البشري من سُبل تحليل الفقر التي سادت عقودا من الزّمن، ومآل الفقر في العالم نتيجة تلك التّحاليل وما تبعها من سياسات للمعالجة(3) ووصلت الى نتيجة يدعمها واقع الفقر في العالم مفادها عدم ملاءمة القوانين التي تمّ وضعها ضمن المقاربة الوضعيّة التّقليديّة والاعتماد عليها للوصول الى معرفة دقيقة للفقر واعتمادها للمعالجة، ممّا يدفع الى إعادة النّظر في الفروض المفسّرة التي توصّلت اليها التّحاليل التي سادت منذ قرنين من الزّمن والى إعادة النّظر في المقاربة السّائدة والإطار العام المُهيمن بما يحتويه من أصول وأحكام وقيم وما أفرزه من مفاهيم وقواعد أساسيّة وفرضيّات في التّعاطي مع ظاهرة الفقر.
ومن خلال متابعتي للتّقارير الدّوليّة باعتبارها لا تخلو من التّوجيه والبيانات والأدوات المساعدة على اتخاذ القرارات وتحديد التّدابير لتحقيق الأهداف التّنمويّة ومن بينها هدف الحدّ من الفقر، توصّلت الى النّتائج التّالية(4):
- أولا، إقرار البنك العالمي منذ سنة 2016 بأنّ دور النّمو الاقتصادي في الحدّ من الفقر بقي مخيبا للآمال. 
- ثانيا، ثمّة أنواع من النّمو الاقتصادي ولّدت الفقر وذكرها البرنامج الإنمائي للأمم المتّحدة في تقريره السّنوي لسنة 1996. 
- ثالثا، اهتداء المجموعة الدّولية الى ضرورة تحقيق «التّنمية البشريّة» واتباع سبيل «التّنمية المستدامة» وتفعيل محرّكاتها الثّلاثة من نموّ اقتصادي محرّك للتّشغيل والحدّ من الفقر والاستدامة البيئيّة.
- رابعا، تبنّي البنك العالمي لسبيل «التّمكين الاقتصادي» للفقراء سبيلا واعدا خاصّة وأنّه يعمل على توفير عوامل ستّة لهم من فرص الاستثمار والتّمويل الملائم والشّراكات الذّكيّة وكذلك البنية التّحتية والاستثمار في المصاحبة والدّعم وأيضا في تقوية الثّقة في الذّات والامكانات وقدراتها على الولوج الى السّوق، مع تحفّظي على اعتماده حصرا على التّمويل في عمليّة التّمكين تلك.
واعتمادا على تجارب عدّة دول نامية تُعتبر ناجحة الى حدّ ما في الحدّ من الفقر وقفت عند السّر وراء نجاح دول وإخفاق أخرى، وخرجت من خلال دراستي لهذه التّجارب(5) بالنّتائج التّالية:
- من الممكن حدوث نمو اقتصادي دون حدوث كثير من التّقدّم الاجتماعي والعكس صحيح أيضا، وهذا يعود الى مدى اتخاذ سياسات تستحثّ النّمو وتمكّن في الوقت ذاته الفقراء من المشاركة فيه ومدى إحداث التّوازن السّليم بين مجموع تلك السّياسات.
- البلدان التي كانت أكثر نجاحا في الحدّ من الفقر، هي التي شجّعت نمطا من النّمو يحقّق الاستخدام الفعّال للعمل، واستثمرت في تقوية القدرات المعرفيّة العلميّة للبشر لأنّ ذلك يقلّل من الفقر ويزيد الدّخل في آن واحد.
- أنّ المفاضلة ليست بين الدّخل والنّمو من ناحية والفقر من ناحية أخرى، بل بين الاعتماد على الثّراء المالي أو على الإنسان خاصّة وأنّ النّهج الأول أفرز تهميشا واقصاء لفئات عريضة من النّاس ممّا فاقم من ظاهرة الفقر، أما النّهج الثّاني فيعزّز الإدماج والمشاركة ويحدّ من الفقر.
ومواصلة في بلورة بديل للحدّ من الفقر قمت بعرض للمُقدّمات الّتي رأيتها ضروريّة للحدّ من الفقر كما قمت بتحليل التّحديات العالميّة والمتوسطيّة والمحليّة، وطنيّة وفرديّة، مبينا ضخامة حجمها ومخاطرها أمام وضع سياسة الحدّ من الفقر(6) والّتي يُمكن اختصار كلّ منها فيما يلي:
• المُقدّمات الضّروريّة:
- إعادة صياغة التّوازنات الدّوليّة والعالميّة على أساس الأخوّة الآدميّة والشّراكة في الحقّ في خيرات الأرض لأنّ ملكيتها لخالقها، وتبعا لذلك فالتّصرّف فيها يكون وفقا لإرادته تُجاه كلّ البشر من رحمة وتيسير عبر ايوائهم وأمنهم وإطعامهم وتقديم الخدمات البيئيّة والصّحيّة والتّعليميّة لهم وغيرها.. 
- اعتماد سياسات تؤدّي الى تمكين الشّعوب - أفرادا وهيئات ومؤسّسات- من أوطانها، وسيادتها على خيراتها وثرواتها الطّبيعيّة، وتؤدّي أيضا الى تمكينها من ولوج الأسواق المحليّة والجهويّة وكذلك الإقليميّة والعالميّة بمختلف أنواع أنشطتها، على أن يُراعى التّوازن السّليم بين مجموع تلك السّياسات. 
- إتباع سبيل التّمكين للحدّ من الفقر الذي يتّخذ الإنسان محورا وغاية وليس سبيل التّمكين الذي يتّخذ التّمويل محورا وأداة حصريّة له.
• التّحدّيات أمام الحدّ من الفقر:
- عالميّا، التّغيّرات المناخيّة والصّراع الدّولي من أجل السّيطرة على الموارد الطّبيعيّة وبسط النّفوذ وتداعيات الأوبئة مثل كوفيد 19.
- مُتوسطيّا، طبيعة علاقة دُول شمال المُتوسّط البراغماتيّة الأنانيّة النّفعيّة بدول جنوبه عكستها سياسات الاستنزاف لمقدّرات الأخيرة والعلاقات البينيّة بين دُول جنوب المتوسّط، المتوتّرة واللاّمتكاملة وعلاقاتها الضّعيفة بالدّول الافريقيّة الواعدة على مستوى الاستثمار والتّصدير.
- وطنيا، منوال التّنمية المُتّبع منذ عقود غير المُتصالح واللاّ مُتلائم مع بيئته وغير المتوازن اقتصاديّا وغير العادل جهويّا بالإضافة إلى ضعف منظومة النّظام الاجتماعي القائمة وهشاشة قطاعات الاقتصاد الثّلاثة العام والخاصّ والاجتماعي التّضامني.
- فرديّا، ضعف تأطير القدرات الذّهنيّة والمعنويّة والبدنيّة أو انعدامه لأكثر أفراد المجتمع وضعف منظومة العمل الخيري وتشتّت مساهمة الأفراد في الحدّ من الفقر وعدم نجاعتها.
ما توصّلنا إليه فيما كتبنا يُعتبر أرضيّة تصوريّة صلبة ومعرفة واقعيّة متعدّدة الأبعاد جغرافيّا وسياسيّا واقتصاديّا، ووقوفا عند حدود التّحاليل التّقليديّة لظاهرة الفقر، والحاجة الى إعادة النّظر في المقاربة الّتي تمّ اعتمادها برمتها لهذه الظّاهرة، كما أنّ إلمامنا بالتّحدّيات على مختلف المستويات عالميّا ومتوسطيّا ومحليّا وتداعياتها وآثارها على مختلف القطاعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة تُمكّننا من المُضي قٌدُما في بلورة بديل للحدّ من الفقر وفي مزيد البحث عن فرص وإمكانات تُساعد على تحقيق ذلك الهدف، محليّا وعالميّا. 
واستمرارا في بلورة بديل للحدّ من الفقر لا بدّ من وضع حلول إنمائيّة تتمّ ترجمتها إلى نماذج ثقافيّة واقتصاديّة حتّى يسهل علينا تحديد السّياسات التي تحدّ من الفقر وتحديد أولويّات الاستثمار لتحقيق ذلك الهدف.
ولعل الاعتناء بـ «التّنمية البشريّة» واتباع سبيل «التّنمية المستدامة» وتفعيل محركاتها الثلاثة من نمو اقتصادي كمحرك للتّشغيل والحدّ من الفقر والاستدامة البيئيّة، يعتبر من أهمّ الحلول الإنمائيّة. بحيث يكون النمو الاقتصادي من خلال تفعيل محركاته الثّلاثة الاستثمار والتّصدير والاستهلاك، والحدّ من الفقر من خلال تجسيد فكرة «لا يؤمن أحدكم (بالحقّ) حتّى يحبّ لأخيه (في الآدميّة) ما يُحبّ لنفسه (تلبية للحاجات)» والاستدامة البيئيّة من خلال التّعلّق بالحياة الطيّبة  لنا وللأجيال القادمة.
ولعلّ تشجيع نمط من النّمو يحقّق الاستخدام الفعّال للعمل ولا يتصادم مع قوانين سلامة البيئة والمحافظة على المحيط ويستثمر في تقوية القدرات المعرفيّة العلميّة والمهارات اليدويّة للبشر أمر في غاية الأهمّية لأنّ ذلك يقلّل من الفقر ويحقّق الاستدامة البيئيّة ويزيد في الدّخل في آن واحد.
كما أنّ تفعيل عمل المؤسّسات التّطوعيّة والمؤسّسات الخيريّة وحسن استثمار المخزون الفطري لحبّ الخير وفعله لدى الإنسان أمر لا غنى عنه للحدّ من الفقر والاستدامة البيئيّة.
بقي - أخيرا وليس آخرا- أمر مؤكّد وحيوي، ألا وهو ترجمة تلك الحلول الإنمائيّة إلى نماذج ثقافيّة من خلال تفعيل منظومة قيميّة تتمحور حول الإنسان والحفاظ على كرامته والى نماذج اقتصاديّة من خلال تحليل التّكاليف والمنافع بمرور الوقت، نظرا لأنّ ترجمة تلك الحلول الإنمائيّة في غاية الأهمّية وضرورة قصوى حتّى يسهل علينا تحديد السّياسات التي تحدّ من الفقر كاتخاذ سياسات تستحث النّمو وتمكّن في الوقت ذاته الفقراء من المشاركة في إحداثه والاستفادة من نفعه، مع تحقيق التّوازن السّليم بين مجموع تلك السّياسات.
الهوامش
(1) راجع مقالي«السبل السائدة لتحليل ظاهرة الفقر ومحدودية المعالجة»، مجلة الإصلاح العدد 189، من الصفحة 36 إلى الصفحـة 38 
رابط التحميل:  http://alislahmag.com/revue-189.pdf
(2) راجع مقالي«سبل الحد من الفقر، المنطلقـات - السياســات – المالات»، مجلة الإصلاح العدد 190، من الصفحة 34 إلى الصفحة 37 
رابط التحميل:  http://alislahmag.com/revue-190.pdf
(3) راجع مقالي« لماذا نجحت دول في الحد من الفقـر وفشلت أخــرى»، مجلة الإصــلاح العدد 191، من الصفحــة 60 إلى الصفحــة 64 
رابط التحميل:  http://alislahmag.com/revue-191.pdf 
 (4) راجع مقالي«فُرص الحــدّ مــن الفقــر: المُقدّمات والتّحدّيــات»، مجلة الإصلاح العدد 192، من الصفحــة 32 إلى الصفحــة 36 
 رابط التحميل:  http://alislahmag.com/revue-192.pdf
(5) راجع مقالي«فُرص الحــدّ مــن الفقــر: المُقدّمات والتّحدّيــات»، مجلة الإصلاح العدد 193، من الصفحــة 50 إلى الصفحــة 55 
 رابط التحميل:  http://alislahmag.com/revue-193.pdf
(6) راجع مقالي«فُرص الحــدّ مــن الفقــر: المُقدّمات والتّحدّيــات»، مجلة الإصلاح العدد 194، من الصفحــة 46 إلى الصفحــة 49 
 رابط التحميل:  http://alislahmag.com/revue-194.pdf