نحو أفق جديد

بقلم
أ.د.عبدالجبار الرفاعي
الدين والرؤية الجمالية للعالَم
   الفن لغة الجمال
يحتاج الإنسانُ إلى لغةٍ مكتفية بذاتها خارجَ اللّغة، يتحدّثُ فيها للوجود ويتحدّثُ فيها الوجودُ إليه، لغةٍ يتذوّقُ فيها إيقاعَ أنغام الوجود وألحانه. الفنُّ لغةٌ يتذوّقُها كلُّ إنسان مهما كانت لغتُه وثقافتُه وديانتُه. الفنُّ ‏لغةُ الرّوح قبلَ العقل، لغةُ القلب قبلَ الفكر، لغةٌ آسِرةٌ تُصغي إليها المشاعرُ كأجمل ما تصغي لأيّة لغة. لغةُ الواقع المحسوس تُنهِك القلب، الفنُّ ‏لغةٌ يستريحُ فيها القلبُ عندما يُرهقه المكوثُ طويلًا في لغةِ الواقع المحسوس. 
الجمالُ تعجزُ أيةُ لغة خارج الفنّ عن كشفِ حدود معناه. لا يجدُ الجمالُ ناطقًا بصوته أصدقَ من لغة الفنّ. يتعرّف الإنسانُ على ذاته بالفنون السّمعيّة والبصريّة بأبهى ما يتعرّف، ويشعر بتذوّق نمطٍ من الوجود لا يتذوّقه خارجها. تذوّقُ معنى الجمال حالةٌ يعيشها الإنسانُ كتذوّق الحُبّ والإيمان والسّعادة وأمثالها من معانٍ وجوديّة. عندما يحتاجُ الإنسانُ إلى ‏لغةٍ عذبة يشتركُ بتذوّقها الجميعُ يجدُ الفنَّ ناطقًا بهذه اللّغة. الفنّ يخاطبُ الإنسانَ بمعانٍ أكبر ‏من كلماتِه، ويتحدّثُ لغةً تضيق بها أيّةُ كلمات. ‏لغةُ الفنّ يشترك بتذوّقها الجميع، المباهجُ الحسّية يتذوّقها الفردُ خاصّة ولا تكون بالضّرورة مشترَكةً بين الكلّ، مباهجُ الجمال‏ يتذوّقها الفردُ مثلما يتذوّقها كلُّ إنسان يتمتّعُ بذوقٍ سليم.كلّما تعزّز حضورُ الجمال ‏في حياة الفرد والمجتمع اتّسعَ حضورُ القيم السّامية‏. اتّساعُ تذوّقِ الجمال يرادفُه انحسارُ لغةِ العنف وازدهارُ لغةِ السّلام.
لا يخلو أيُّ مجتمع من الدّين والأسطورة والفنّ والحُبّ. الفنُّ رديفُ الدّين في التّاريخ، حيثما عاش إنسانٌ في أيّ مكانٍ وزمانٍ تظهرُ في حياته تعبيراتٌ للدّين وتعبيراتٌ للفنّ. لا تضادَّ بين جوهر الدّين وما ينشده الفنُّ الأصيل.كلاهما ينشدُ فضحَ ظلام العالم، وإنقاذَ الرّوح من مواجع الحياة، وتأمينَ ملاذٍ يتنفّس فيه الكائنُ البشري بعد اختناقه بحرائق الشّرور التي تنهشُ قلبَه، وتعبثُ بكلِّ شيء بهيج في حياته.                                                         
الحضورُ الواسع للفنون الجميلة في أيِّ مجتمع يقوّم السّلوك، ويخفضُ وتيرةَ التّطرّف، ويؤثّرُ بشكلٍ مباشر على إشاعة الأمن والسّلم المجتمعي. الفنّ الذي أتحدّث عنه هو الفنّ الذي يُهذِّب المشاعرَ والعواطفَ والذّوق ويقوّم السّلوك. ولا أعني الفنّ المُمْتَهَن المُبتذَل، الذي يهدر العفاف، ويغوي بالتّهتُّك والمجون، ويُحرّض على الكراهيّة والعنف.
كلُّ مجتمع يتوطّنه الحُبُّ، والفنُّ، والتّديّنُ العقلاني الأخلاقي، تتوطّنه قيمُ احترامِ المختلِف في المعتقَد، والعيشِ المشترك في إطار التّنوع والاختلاف، وإن كان مثلُ هذا المجتمع يظلُّ حلمًا أكثر من تحقّقه في الواقع. الدّينُ والحُبّ والفنُّ يغذّي كلٌّ منها الآخرَ ويتغذّى منه. الرّؤيةُ الجماليّة للّه والعالَم تتوالد في سياق التّفاعل الإيجابي الخلّاق لهذه العناصر الثّلاثة. أتحدّثُ هنا عن التدّينِ العقلاني الأخلاقي، والفنِّ الأصيل الذي يهذّب الذّوقَ والأخلاق. لا أتحدّثُ عن الواقع الذي فرضته إكراهاتٌ تاريخيّة مريرة مازالت تتحكمُ به حتى اليوم.  
التّربية البصريّة                    
أدرك الإنسانُ أهمّيةَ التّواصل البصري منذ كان يعيشُ في الكهوف، فبدأ يرسمُ لوحاتِه على جدرانها، ولم يتوطّن الإنسانُ مكانًا إلاّ وترك بصمتَه المرئيّة فيه. تحضر بقايا هذه البصمة في الصّورِ والمنحوتات وأشكال بناء المساكن والعمارة، وتخطيطاتِ التّجمّعات السكنيّة والمدن التّاريخيّة وأنماط نسيجها الحضري. نشاهدُ ذلك في الآثارِ المتنوّعة للحضارات الشّرقيّة والغربيّة، تتحدّثُ الزّقورةُ مثلًا عن الحضارة السّومريّة، والأهراماتُ عن الحضارة المصريّة، وآثارُ تخت جمشيد عن الحضارة الأخمينيّة، والبارثينونُ على تلّ الأكروبوليس عن الحضارة اليونانيّة.كلّ الحضارات تكلّمُ آثارُها أبصارَ مشاهديها. تحتفظُ متاحفُ العالَم بمنحوتاتٍ وصور ونقوش ولُقى أثريّة عن حضارات لا نعرف عن منجزاتها شيئًا لولا هذه الكنوز المادّية الثّمينة. 
التّربيةُ البصريّة ضرورةٌ يفرضها إيقاظُ الدّهشة، والابتهاجُ بتذوّق الجمال، وإنتاجُ المعنى عبر التّواصل البصري الذي تحكيه الرّسومُ والصّورُ والأشكالُ التّعبيريّة وكلُّ ما هو خارج الكلمات المنطوقة. التّربيةُ في بلادنا تجهلُ الأثرَ الخلّاق للتّربية البصريّة، ولا تهتمُّ ببناء رؤيةٍ بصريّة للتّلامذة قادرةٍ على إنتاج معنىً لما يشاهدونه من رسوم وأشكال تعبيريّة وأشياء وكائنات في الطّبيعة. 
التّربيةُ الحديثة تجعلُ البصرَ في أولويّاتها، فتضع خارطةَ طريقٍ علميّة لإيقاظه وتنميته منذ المراحل الأولى نظريًّا وعمليًّا. تعتمدُ التّربيةُ في برامج التّعليم الأساسي الزّياراتِ المستمرّة للمتاحف الفنّية والأثريّة وأطلال المدن القديمة، وحدائقِ الحيوانات والغابات والحدائق والمتنزهات وغيرها من أجل إيقاظ البصر، وتدريب العيون مبكّرًا على تذوّق إبداع اللّوحات وابتكار الأشكال التّعبيريّة، والبهجة بجماليّات الوجود، وما تحتفل فيه الطّبيعةُ من مياه وأزهار وأشجار ونباتات وكائنات وأشياء مبهجة. 
لا تكترث التّربيةُ في مجتمعنا بالأثر الحيويّ البنّاء للذّوق الفنّي والحاسّة الجماليّة في تفكير الإنسان وفهمه ورؤيته للعالَم ومشاعره ومواقفه وسلوكه، ولا تتنبّهُ لما يمكن أن تُسهم فيه من خفضِ وتيرة العنف في المجتمع بكلِّ تعبيراته. عندما لا تعبأ العائلةُ والمدرسةُ بتربية الذّوق الفنّي وإثراءِ الحاسّة الجماليّة للأبناء يدخل هذا الذّوقُ والحاسّةُ الجماليّة حالةَ خمولٍ وسبات، وربّما يُصابُ الإنسانُ ببلادة تذوّقِ الفنون، والعجزِ ‏عن الشّعور بجمال الألوان والصّور والموسيقى والألحان والأصوات، ‏ويظهر أثرُ ذلك في نمطِ إدراك صورة اللّه، وكيفيّةِ فهم الإنسان للدّين، وطريقةِ قراءته لنصوصه، وفي ثقافة الإنسان، ورؤيته للعالَم، وعلاقاتِه الاجتماعيّة، وكلِّ شيء في حياته. 
  تنميةُ الثّقافة الفنيّة وتكريسها، وإيقاظُ حاسّة تذوق جماليّات الوجود، وحضورُ الفنون السّمعيّة والبصريّة، ومشاهدةُ اللوّحات الفنّية وتأمّلُ تعبيراتها ورموزها وألوانها، تبعثُ الهدوءَ والانشراح، وتمتصّ شيئًا من التّوتر العصبي والسّأم والضّجر من مَلَلِ وإنهاكِ الأعمال اليوميّة ورتابتها وإرهاقها، وتقلّل من آلام مباغتات الحياة الموجعة. تربيةُ الذّوق الفنّي وتنميتُه تعزّزُ الصّحةَ النّفسيّة للفرد والمجتمع، وتُخَفِّض كثيرًا من الحزن والاكتئاب والغضب والحقد والضّغينة والعنف والجريمة، وتكرّسُ السلمَ المجتمعي، وترسخ السّلامَ العالمَي. تربيةُ الذّوق الفنّي أخصبُ أرضيّةٍ لاستنبات الحُبّ وتغذيته وتكريسه. المجتمعُ الذي يتجاهلُ تربيةَ الذّوق الفنّي، ويفشل في تهذيبه، يفشل في بناء حضارةٍ حيّة، تتناغم وإيقاعَ العصر، وتستجيب لاحتياجات الإنسان المادّية ولمتطلبات حياته المعنويّة. 
يقترن الشّعورُ الجمالي بالحُبّ إثباتًا ونفيًا
يقترن الشّعورُ الجمالي بالحُبّ إثباتًا ونفيًا، الحُبّ مرآةُ الجمال، الجمالُ مرآةُ الحُبّ. لا حُبَّ ما لم يتجلَّ المحبوبُ جميلًا. عندما يلتقي الانسانُ جمالَ المحبوب كأنه يلتقي نفسَه، لأنه يرى كلَّ ما يتمناه لصورته فيه. الحُبّ مصدر الوعي الجمالي في حياة الكائن البشري، وهو ما يصيّر كلَّ شيءٍ في الوجود جميلًا. الحُبّ يلوّن الحياةَ بأبهى معانيها، ويكشف للإنسان أجملَ صورها المكتنزة. الحُبّ يضيء الحياة، ويبدّد وحشةَ الكائن البشري فيها. حين ينبض قلبُ الإنسان بالحُبّ يرى كلَّ شيءٍ كأنه مخلوقٌ من جمال. 
عندما يتغذّى الحُبّ من الجمال ويغذّيه يكون أحدَ أثرى منابع الأمل والتفاؤل والثّقة بالغد، الثّقةُ بالغد ضرورةٌ لتواصل إنتاج الحياة لأجمل معانيها. ما أجمل القلب الذي يغتسل بالحبّ صباح كلِّ يوم، ‏ليس هناك مطهّرٌ ساحر كالحبّ. كلّما اشتدَّ الحُبّ اشتدّت رغبةُ الإنسان بالحياة، الحُبّ يساعد الإنسانَ في التغلّب على قلقِ الموتِ، الحُبّ يمكن أن يكون إكسيرًا للحياة، يموت الإنسانُ داخلَ الإنسان لحظةَ يموت الحُبّ في الأرض. الحُبّ يضيء الحياةَ بمعناها الأجمل، ويبدّد وحشةَ الكائن البشري وغربتَه فيها. الظّمأ البشري للمحبّة حاجةٌ لا تتوقّف ولا تنتهي، لحظةَ يفتقر الكائنُ البشري الحُبّ تفتقر حياتُه معناها الآسِر، فقدان الحُبّ في حياة إنسانٍ عاطفيّ مُرهَف الحسّ يقوده للحزن والتّشاؤم والاكتئاب، وأحيانًا يكون أحدَ أسباب الانتحار. 
تذوقُ جمال العالَم أحدُ أثرى عناصر إلهامِ أمل وتفاؤل الإنسان، وتحريره من اغترابه الوجودي، وإثراءِ قدرته على التّفاعل الإيجابي الخلّاق مع كلّ ما حوله. الإنسانُ الذي يرى العالَم جميلًا ينخفض شعوره بالغربة. مَنْ يتذوقُ جمالَ العالَم يعيش سلامًا للرّوح، وكلُّ من يعيش سلامًا للرّوح يحيا الخلقُ بجواره في سلام. يتحدّث ابنُ عربي عن الصّلةِ العضويّة بين الجمال والحُبّ بقوله: «ولا شكّ أنّ الجمالَ محبوبٌ لذاته، فإذا انضاف إليه جمالُ الزّينة فهو جمالٌ على جمال، كنور على نور، فتكون محبّةٌ على محبّة، فمن أحبّ اللّه لجماله، وليس جماله إلاّ ما يشهده من جمال العالَم، فإنّه أوجده على صورته، فمن أحبّ العالَم لجماله فإنما أحبّ اللّه، وليس للحقّ منزه ولا مجلى إلاّ العالَم... فأوجد اللّهُ العالَم في غاية الجمال والكمال خلقًا وإبداعًا، فإنّه تعالى يحبّ الجمال، وما ثمّ جميل إلاّ هو، فأحبّ نفسه، ثمّ أحبّ أن يرى نفسَه في غيره، فخلقَ العالَم على صورة جماله، ونظرَ إليه فأحبّه حُبَّ مَنْ قيَّدهُ النّظر، ثمّ جعل عزّ وجل في الجمال المطلق السّاري في العالم جمالًا عرضيًّا مقيّدًا، يفضل آحاد العالَم فيه بعضه على بعض بين جميل وأجمل»(1).
حاجة الإنسان للجمال أساسية 
حاجةُ الطّبيعة الإنسانيّة لتذوق الفنون البصريّة والسّمعيّة في العالم حاجةٌ أساسيّة كحاجة الإنسان للحبّ. لا يمكن أن يخلقَ اللّهُ في الطّبيعة الإنسانيّة حاجةً أساسيّة ويُحرِّم على الإنسان إشباعَها، وذلك ما تشير إليه الآيةُ: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾(الأعراف: 32). لا يمكن أن يستغني الإنسانُ عن الجمالِ، حاجةُ الإنسان لمتعةِ تذوّق تجليات الجمال في الوجود رافدٌ يعزّز السّلامةَ النّفسيّةَ والسّكينة الرّوحيّة. تذوقُ الجمال انكشافٌ متبادَل، ففي الوقت الذي ينكشفُ للإنسان فيه جمالُ الوجود، ينكشف له جمالُ ذاته، بمعنى أنّه مثلما ينكشف فيه المُشاهَد بشكل مُضِيء، يتحقّق فيه المُشاهِد بشكل مُضِيء أيضًا. حين يبتهج الإنسانُ بتذوّق تجلياتِ جمال اللّه في الوجود يتكامل بمرتبةٍ أسمى. وقتئذٍ يكونُ الشّعورُ الجمالي تعبيرًا عن الشّعور الدّيني، والشّعورُ الدّيني تعبيرًا عن الشّعور الجمالي. 
مشاهدةُ القلوب لتجلياتِ الجمال الإلهي في الوجود تصيّر كلَّ شيء مرآةً ينعكس عليها ذلك الجمال، وتتذوّق في كلِّ شيء جمالًا يشاكله. يتّسعُ في فضاء مشاهدة القلوب الأُفقُ الرّوحي للجمال ليكون أُفقًا كونيًّا مشتركًا، لا تضيقُ فيه مضائقُ المكان والزّمان. الأفقُ الرّوحي للجمال يكفلُ حمايةَ الإنسان من الاغتراب الوجودي، وتكريسَ سكينة الرّوح وطمأنينة القلب. 
شحّةُ الجماليّات في أعمالنا، وطغيانُ الفنون المبتذلة، واضمحلالُ الأبعاد الجماليّة في البناء والعمارة والسّينما والمسرح ووسائل الإعلام والدّعاية والإعلان وكلِّ شيء، تجعل الإنسانَ ينفرُ من الحياة ويشعرُ بالغربة والاختناق. يكتئبُ الإنسانُ عندما يرى العالَمَ مشوّهًا قبيحًا مظلمًا، لا يبوحُ بأي معنىً جميل يفيضُ على قلبه الطّمأنينةَ، وعلى روحه السّكينةَ. تنميةُ الثّقافة الفنّية وتكريسها، وإيقاظُ حاسّة تذوّق جماليّات الوجود، تخفضُ الاكتئابَ والسّأم والضّجر والحزن، وتعزّز الصّحةَ النّفسيّة للفرد والمجتمع. 
إن كان الإنسانُ يعيشُ في ‏مجتمعٍ لا يكترث بالجمال، ويطغى فيه صوتُ الكراهيّة والعنف، يتبلّد ذوقُه الفنّي، وتتعطّل حواسُّه الخاصّة بتذوّق الألوان والأصوات والألحان. تذوّقُ الجمال يحتاج تربيةَ الذّوق الفنيّ منذ الطّفولة، ولابدّ أن تتواصلَ هذه التّربيةُ كلَّ حياة الإنسان. تربيةُ الذّوق الفنّي ذاتُ صلةٍ مباشرة بالرّؤية الجماليّة للعالَم، ونمطِ تمثّلها في اللاّشعور الفردي والجمعي. تنعكس رؤيةُ العالَم على صلة الإنسان بما حوله من: بشر، وكائنات حيّة، وأشياء، كما تنعكس على نمطِ صلته باللّه. تربيةُ الذّوق الفنّي تدخل عنصرًا أساسيًّا في إنتاج رؤيةٍ مضيئة للعالَم. الرّؤيةُ المضيئةُ للعالَم تعيد إنتاجَ الذّوق الفني مثلما يعيد الذّوقُ الفني إنتاجَها. 
إن كانت بصيرةُ الإنسان حاذقةً، وذوقُه الفنّي صافيًا، وحاسّتُه الجماليّةُ مضيئةً، تصبح رؤيتُه للعالَم مضيئة، يرى هذا الإنسانُ صورةَ اللّه مشرقةً، ويكتشف تجلياتِ جماله. يستطيع مَنْ يمتلك رؤيةً مضيئةً للعالَم أن يسهمَ في تشكيل صورٍ مضيئة للأشياء، إذ يمكنه أن يعيد بناءَ كلِّ شيء في الأرض بشكلٍ يكشف لنا عن جماله، يقول غوته: «يمكنك أن تصنعَ الجمالَ حتّى من الحجارة التي توضع لك عثرةً في الطّريق». 
مَنْ ورّطته الأيامُ وفرضت عليه ظروفُ حياته صلةً بكائنٍ بشري يعجز عن رؤية ما هو جميل في العالَم، ولا يرى شيئًا إلاّ ويحاول أن يرسمَ له صورةً قبيحة، ولا تتحسّسُ مشاعره الفنونَ السّمعيّة والبصريّة، ولا يتذوّق تجلياتِ جمال اللّه في الوجود، عليه الهروبُ منه، لئلاّ تتّسمم روحُه، ويلبث حزينًا يبكي قلبُه كلَّ يوم.                      
‏ إنتاج المعنى الجمالي أحد الأهداف المحوريّة للدّين
لمّا كان الدّينُ: «حياةً في أُفق المعنى تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجوديّة لإنتاجِ معنىً روحيّ وأخلاقيّ وجماليّ لحياتِه الفرديّة والمجتمعيّة» حسب التّعريف الذي نقترحه، يكونُ إنتاجُ المعنى الجمالي أحدَ الأهداف المحوريّة للدّين. وفي ضوء هذا الفهم يفرض الدّينُ على أتباعه الإسهامَ في رسمِ صورةٍ أجمل للعالَم، والكفُّ عن الإسهام في رسم هذه الصّورة لا يعدّ موقفًا إيمانيًّا أصيلًا. التّعبيرُ الجمالي عن الدّين ضرورةٌ، بوصفه ضمانةً لإحياءِ رسالة الدّين الحيَة المُلهمة لمعاني الخير والمحبّة والسّلام والتّراحم في كلِّ عصر، ويكون هذا التّعبيرُ أشدَّ ضرورة عندما يتفشّى قبحُ التّعبير المتوحّش عن الدّين. 
القرآنُ الكريم كتابٌ واقعي، لا يختزل الجمالَ بجمالِ الرّوح فقط، ولا يتجاهلُ حاجةَ الإنسان للاستمتاعِ بالجمال الحسّي. الجمالُ ماثلٌ في خلقِ الإنسان والطّبيعة والكائنات المتنوّعة فيها، إذ تشيرُ آياتٌ عديدة إلى كيفيّةِ خلق اللّه للإنسان بأجمل صورة، مثل: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(التين: 4) ، ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾(الانفطار: 6-8) ، وتأمر آيةٌ أخـرى بأخذِ الزّينة: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾(الأعراف: 31) ، وتتحدّث آياتٌ عن جمالِ السّماء وما فيها والأرض وما عليها: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾(الصافات: 6) ، ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً﴾(الكهف: 7)، وتشير آياتٌ إلى جمال الحيوانات: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾(النحل: 8). وتكشف الآيةُ: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾(الكهف: 46)، عن سعادةِ الإنسان بوجودِ الأموال والبنين. ومثلما يتحدّثُ القرآنُ عن الجمالِ الحسّي يتحدّثُ أيضًا عن نوعٍ فريد يلامسُ الرّوحَ من تجليات الجمال: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾(الأنعام: 112)، تتحدّث الآيةُ عن جمالٍ يضيء روحَ الإنسان، جمالٍ يجعل الإنسانَ الذي كان معتمًا ميّتًا تنبعث فيه حياةٌ من النّوعِ الذي يجعله مضيئًا، فبعد أن تشرقَ الأنوارُ الإلهيّة على روحِ هذا الإنسان يمشي بين النّاس وكأنّه شلّالٌ من نور. ومن أجملِ ما يرسمه القرآنُ من المشاهد المبهِرة للجمالِ ما جاء في آيةِ النّور: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ﴾(النور: 35).
الموقفُ الدّيني الذي يصرّ على إدانة الفنّ والجمال، ويزدري كلَّ أشكال الحُبّ والفرح والمسرّات، يعملُ من حيث لا يدري على تضييق أفق المعنى الذي يلهمه الدّين للحياة، وتجفيفِ منابع إيقاظ المشاعر والعواطف الإنسانيّة الدّافئة. لا ينقذنا من التّديّن المتشدّد إلاّ حضورٌ فاعلٌ للفنون بتعبيراتها البصريّة والسّمعيّة، وتديّنٌ يتكلّمُ لغةَ المحبّة، وحياةٌ روحيّة تسهم في إثرائها الفنونُ، وتضيؤها الرّؤيةُ الجماليّة للعالَم. ينبّهُ أبو حامد الغزالي إلى أنّ الأطفالَ لحظةَ يبكون وتُنشِدُ أمّهاتُهم كلماتٍ ملحّنةً بنغمة صوت عذب، سرعان ما تجدهم ينشرحون ويبتهجون. ذلك مؤشرٌ على احتياج الإنسان الأساسي للفنون البصريّة والسّمعيّة، خاصّةً وأنّ شخصيّةَ الأطفال مبرّأةٌ من التّرويض على التّقاليد والأعراف والعادات المتشدّدة، وبوصفهم مازالوا لم يخضعوا لتدجين قيم المجتمع وتقاليده ومعتقداته وثقافته، وهم الأكثرُ تعبيرًا عن الطّبيعة الإنسانيّة واحتياجاتها الأساسيّة العميقة. يكتب أبو حامد الغزالي: «للّه تعالى سرّ في مناسبة النّغمات الموزونة للأرواح، حتّى إنّها لتؤثّر فيها تأثيرًا عجيبًا، فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن، ومنها ما ينوّم، ومنها ما يضحك ويطرب، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرّجل والرّأس. ولا ينبغي أن يظنّ أنّ ذلك لفهم معاني الشّعر بل جار في الأوتار، حتّى قيل: من لم يحرّكه الرّبيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج. وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصّبي في مهده، فإنّه يسكنه الصّوت الطّيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عمّا يبكيه إلى الإصغاء إليه. والجمل مع بلادة طبعه يتأثّر بالحداء تأثّراً يستخفّ معه الأحمال الثّقيلة»(2).
 ‏ مادامت الحاجةُ للفنون السّمعيّة والبصريّة وتذوّق الجمال من الحاجات الأساسيّة لحياة الإنسان، فإنّ عدمَ إشباع أيّة حاجة أساسيّة يؤدّي إلى تراكم الكبت والحرمان الذي يغذّي مخزونَ العنف، ويمكن أن يتفجّرَ في أي انفعالٍ ‏بعنفٍ لفظي، وأحيانًا جسدي، مضافًا إلى تراكم مخزون العنف الرّمزي، وتفشّي عنف لغة الجسد في المجتمع. تحريمُ كلِّ أشكال الفنون السّمعيّة والبصريّة يؤسّس، من حيث لا يدري، أرضيةَ التشدّد الديني والتطرّف والعنف.
لا تعني الدّعوةُ لبناء الرّؤية الجماليّة والتّربية على تذوّق الفنون السّمعيّة والبصريّة اختزال كلّ ذلك بالفضاء الحسّي للجسد، ونفي جمال كلِّ شيء خارج حدوده.‏‏ الجسدُ مكوّنٌ أساسيّ في كيان الإنسان، غير أنّ وجودَ الإنسانِ أوسعُ وأكثفُ وأغنى وأعمق من حدود الجسد الضّيقة. عندما يختزل الفنُّ والجمال والبهجة بالجسد، فهذا موقفٌ ‏ينتهي إلى عبادةِ الجسد، وإلغاءِ كلّ شيء غيره، والعجزِ عن تذوق تجليات الجمال خارج الفضاء الحسّي للجسد. عبادةُ الجسد تفضي إلى تدميرِ القيم، وانهيارِ العائلة وتمزّقِ نسيج المجتمع. انهيارُ العائلة يورثُ غيابَ الشّعور بالحماية والأمان في الحياة. 
الرؤيةُ الجماليّة تعكسُ الوجهَ المضيء للحضارة 
الرؤيةُ الجمالية تعكسُ وجهَ الحضارة المضيء، وهي أحدُ أهم مفاتيح دراسة الحضارة والتعرّف على مستوى تطورها، وتجلي ‏النزعةِ الإنسانية فيها. الرؤيةُ الجمالية من الروافدِ المُلهمةِ لبناء الحضارة، ومن عواملِ ترسيخِ وجودِها وتراكم ثرواتها. تفتقدُ الحضارةُ هويتَها الإنسانية المبدعة الخلّاقة حين تفتقدُ الرؤيةَ الجماليةَ للعالَم، ويتبلّدُ لدى إنسانِها الذوقُ الفني. تنمو الحضاراتُ وتُراكم منجزَها وتتسع بنموِّ وغزارةِ وتطور الفنون واتساعِ الرؤية الجمالية للعالَم، تفتقرُ الحضاراتُ وتضمحلّ بنضوب منابع إلهام الفنون وضيق الرؤية الجمالية للعالَم.       
أكثرُ مَنْ يتحدثون ويكتبون عن التّربية والتّعليم لا يهتمّون بالصّلة العضويّة بين التّربية والتّعليم والجمال، أكثرُ مَنْ يتحدّثون ويكتبون في الفلسفة لا يتنبهون لأثر الجمال في بناء العقل الفلسفي، أكثرُ مَنْ يتحدّثون ويكتبون في الفكر لا يتنبّهون لأثر الجمال في بناء التّفكير المبدع الخلّاق. أصحاب المشاريع الفكريّة الذين انشغلوا بالكشف عن عواملِ الانحطاط وبواعثِ النّهوض عند العرب، منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، لا يتنبهون للأثر الأساسي لتربيةِ الذّوق الفنّي وإيقاظِ الحاسّة الجماليّة في النّهضة والبناء والتّنمية.كلّما زاد الوعيُ الفنّي ونضجت الحاسّةُ الجماليّة كلّما ازدادت قدرةُ الإنسان على بناءِ رؤيةٍ مضيئة للعالَم، وازدادت قدرتُه على جعل محيط عيشه على الأرض أرحب. 
أكثرُ مَنْ يتحدّثون ويكتبون عن الدّين لا يهتمّون بالصّلة العضويّة بين الدّين والجمال. لم يهتم أكثرُ المصلحين والمجدّدين في عالَم الإسلام الحديثِ ببناءِ رؤيةٍ جماليّة للعالَم تتكشّف فيها الأبعادُ الجماليّة للنّصوص الدّينيّة وما يكتنزه تراثُ العرفاء من رؤىً لتجليات الجمال الإلهي، ولم يهتموا بإيقاظ الأبعاد الجماليّة في الدّين. مَنْ ينشدُ إعادةَ فهم الدّين في ضوء متطلّبات العصر، عليه إعادةُ الاعتبار للجمال بوصفه قيمةً محوريّةً لرسالة الدّين، والبحثُ عن كلِّ ما من شأنه الكشفُ عنه في النّصوص الدّينيّة، وتفسيرُ هذه النّصوص في سياق الحاجة الرّاهنة لبناءِ وترسيخِ الرّؤية الجماليّة للمسلم وتربيةِ ذوقه الفنّي. كلُّ إنسانٍ يفتقدُ الرّؤيةَ الجماليّةَ للعالَم ويفتقرُ للذّوقِ الفنيّ تشتدُّ عزلتُه عن العالَم، لأنّه لا يرى في العالَم ما يألفه ويبهج قلبَه، وأحيانًا يراه قبيحًا ولا يجد وشيجةً تربطه بما حوله.
الهوامش
(1) محيي الدين بن عربي. الفتوحات المكية (4 مجلد). مج4: ص269. 
(2) أبو حامد محمد الغزالي، إحياء علوم الدين، كتاب آداب السماع والوجد، ج2: ص75. المكتبة الشاملة الحديثة على الإنترنت.