همسة

بقلم
محمد المرنيسي‎
سجين العيادة
 كالعادة، عليك أن تفرغ يوما كاملا كلّ ثلاثة أشهر؛ للاعتكاف في العيادة، بغية زيارة طبيب القلوب، صاحب الخبرة والمهارة والرّيادة.
في العمارة الشّاهقة يتوافد النّاس على بابها قبيل طلوع الفجر الى الاشراق، يدوّنون أسماءهم في لائحة المرضى، ولحارس العمارة أسماء مختارة، يدسّها في اللاّئحة بالإجارة، وعند افتتاح العيادة، تبدأ الزّيادة في لائحة السّيدات والسّادة روّاد العيادة، ينتظرون طلعة طبيب القلوب، صاحب الخبرة والبسمة والرّيادة.
كالعادة، ينتظر مساجين العيادة في قاعة الانتظار، ساعات من النّهار، يقلّبون الطّرف هنا وهناك بحثا عن الجديد في حركات العيادة، التي تزداد سرعة وخفّة واستعدادا. فجأة يطلّ الطّبيب، فتنفرج السّرائر، وترتاح الخواطر، وتراجع الأوراق والجيوب وحساب المخاطر، وبعد قليل سيدخل متصدّر اللاّئحة الى بداية سلسلة الإنتاج، من حجرة تخطيط القلب الى مكتب الاستقبال، لآداء واجب الطّبيب اللّبيب كالعادة، ثمّ الى خارج العمارة، في انتظار العودة المختارة، الى سجن العيادة، لزيارة صاحب الخبرة والمهارة والرّيادة.
جاء دوري حوالي الثّالثة، ورقمي الرّابع والعشرون في اللاّئحة، دخلت حجرة لرسم تخطيط للقلب الخافق، حجرة كعلبة الكبريت، بها مقعد وسرير، وجهاز تسجيل حركة القلب الدّافق، في فضاء ضيّق مقيت، يجلب الكآبة والأحزان، ويستثمر فيك الزّفير لتدفئة المكان، انجزت الممرضة مهمّتها وخرجت، جلست على السّرير، انتظر الانتقال إلى بيت الفحص والمراقبة، أقلّب الطّرف يمينا وشمالا، بحثا عن نافذة أفتحها لتجديد هواء الحجرة الكئيبة، لا شيء، لا حلّ أمامي الاّ مغادرة الزّنزانة، لرفع المناعة بجوارحي المرتاعة، سألت الممرضة متى يطلق سراح الأسير من حجرة التّخطيط، للقاء طبيب القلب النّشيط، صاحب الخبرة والمهارة والرّيادة؟
قالت بابتسامة ماكرة: «عما قريب يتمّ الفرج، ويرفع الحرج، فلا تستعجل، ومثلك لا يضيق ولا يقلق». عدت للزّنزانة وارتميت على السّرير، ورفعت السّبابة؛ لأردّد الشّهادة، وأسأل اللّه قبول أعمال العبادة، واستودع اللّه الأهل والمال كالعادة، عند كلّ شدّة مقدّرة مرادة، فإذا الباب يفتح وإذا الطّبيب ينادي بلطف مألوف معروف: «تفضل لقد تأخرنا عنك كثيرا بسبب طوارىء لم تكن في الحسبان. كيف حالك؟ كيف حال «الموتور»؟» نسي السّجين عذابه وقال: «بخير والحمد للّه» .قال الطّبيب: «لنراقب حركة القلب، تمدّد على السّرير»، أخذ يفحص بمجسّة مناطق في صدري، ويتابع الصّور على الشّاشة.التفت إليّ مبتسما: «المحرك جيّد. فلنراقب الضّغط الدّموي..الكل على ما يرام. إذن سأكتب لك نفس الأدوية التي تستعملها، مع التّقليل من الملح والقلق، والإكثار من الحركة وتقليب الورق، والتّعوّذ باللّه من شرّ ما خلق، فإنّها نعم الدّواء والشّفاء من البلاء.معافى إن شاء اللّه».
ودّعته وانصرفت الى الكتابة؛ لآداء أجرة الفحص والزّيارة، وعقارب السّاعة الرّابعة وزيادة. خرجت من سجن العيادة ثقيل الخطوات، شديد الحسرات، على ضياع المال والأوقات، وقفت بباب المصعد، ناشدته أن ينزل أو يصعد، فعصى وتمرّد، عدت الى الدّرج أضع الخطى بحذر مخافة السّقوط، وأستعين بمقابض من حديد لتأمين الهبوط، بدون كسور أو جروح أو رضوض الى حين انتهاء هذه المحنة، والوقوف على بساط مدخل العمارة، لا بارك اللّه في المصعد والسّرير والمقعد، وحارس العمارة بائع الموعد، حتّى يستقيم الإعلام والفنّ والسّياسة، وتختفي من حياتنا مظاهر الفقر والبؤس والتّعاسة.
خرجت الى الشّارع أبحث عن سيارة أجـرة، تقلّنـي الى بيتي لأستريح من عذاب الموعـد والعيادة، في انتظار استعمال الأدوية، لأشهر معـدودة ،قبل العـودة إلى طبيـب القلـب صاحب الخبرة والمهارة والرّيادة.