خواطر

بقلم
شكري سلطاني
تأملات في مبنى الإنسان ومعناه
 للإنسان قالب جثماني يتّصل بالدّنيا للقيام بالوظائف الحياتيّة وتحقيق وظائفه الأساسيّة من تغذية وإتّصال ببيئته والتّكاثر، ييسّر وجوده وتوازنه وبقاءه بالدّنيا إلى حين من الدّهر. يتغذّى القالب الجثماني ويتزوّد من التّراب ويستمدّ من الطّبيعة ضروريّاته من هواء وحرارة، فهو يتّصل بالدّنيا حركة وسيرا وسعيا تحكُمه قوانين فيزيائيّة وكيميائيّة صارمة محدّدة مكيّفة لوجوده كبشر حيّ يسعى، يتأثر بعطبه وتضرّره، فسلامة الجسد من العناوين البارزة لحياة متوازنة لا يشوبها إضرار وضرر.
يستهدف الموت بالأساس القالب الجثماني ويُعدمه ويُلغيه لتنتفي الطّاقة الشّاحنة لبطاريّة وجوده ليُرديه جثّة هامدة لا حراك ولا إحساس .
وللإنسان قالب معنويّ يتأثّر وجوبا بالأحاسيس والعواطف والوجدان ويتمثّل في نفسه وروحه، إذ هو متّصل أصلا بحقائق الوجود ومعانيها، فهو يتزوّد ويتغذّى من معاني وحقائق الكون والوجود بما يُفيد الإنسان كينونة وصيرورة، فلعقله الفكر والتأمّل والتفكّر، ولقلبه الشّعور، ولروحه الإستئناس باللاّهوت والسّكون، ولنفسه السّكينة، ولكن هيهات أن ينال الإنسان السّعادة الأبديّة وهو لم يفارق منطقة الرّاحة والرّفاهيّة ولم يتجاوز العادة ولم يعزم على رُشده ولم يركب مطايا العزم والكدح والعمل بجدّ وصبر ومثابرة.
إنّ القالب المعنوي هويّة الإنسان وقيمته المعنويّة الراقيّة الباقيّة بعد زوال جسده الفاني الذّي مآله التّراب، أمّا قوامه ودعامته فهو متأتٍّ من قالبه المعنوي الذي يستمدّ وجوده وبقاءه وسرمديته من اللّه العزيز الحكيم، فلا عبرة وإعتبار بالقالب الجثماني الفاني المتغيّر المتحوّل مع الزّمن.
فالقالب الجثماني وسيلة لتحقيق غاية وليس قصدا وهدفا ومرمى للبصر والبصيرة للإلتفات والتعلّق بظواهر المظاهر وشكلانيّة الحياة وزخارفها ،فالجسد دابّة الإنسان ومركبته لتيسير وتكييف حياته الدنيويّة، فالحقيقة الماديّة البشريّة من الأكيد أنّها تُكسب الإنسان دربة وخبرة فهما ووعيّا وإدراكا بمعاني الحياة العميقة فتُمكّنه من معرفة ذاته وجودا ظاهراتيّا منعكسا وهي من أساسيات وجوده ولا تغاضٍ ونكران للدلالة والقيمة الماديّة لوجود البشر في الدّنيا، ولذلك فليعتنِ الإنسان بصحّته ولا يشغل نفسه بمتطلبات رفاهية الجسد وشهواته، فحسبه تحصيل ضرورياته وما يبقيه حيّا دون إفراط ولا تفريط لأنّ الحقيقة الماديّة ثابتة في الإنسان ولا يمكن أن يكون لامباليا غير مهتم.
أمّا قالبه المعنوي فمصدره ومرده خالق العباد والكون والوجود رب العالمين. وعلى كلّ صاحّ وحاذق وكيّس وفطن أن يُرجع الودائع إلى صاحبها إذ لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه ،فكما الرّوح وديعة وسوف تُسْلَبُ فالنّفس هويّة ذاتيّة أمانة عند الإنسان، فليُزكّها ويؤدّبها ويهذّبها، ولذلك عليه أن يسعى جاهدا ومجاهدا لتسليم الأمانة والودائع إلى صاحبها، فهو ليس بمالك بل هو مملوك وعبد لسيّده ورازقه ووليّ نِعمته .
والنّفس والرّوح هيئة وهويّة معنويّة متّصلة بخالقها ولا إنفكاك وإنسلاخ وإستقلال ممن  خلق فسوّى والذّي قدّر فهدى. فالإنسان من اللّه وباللّه وإلى اللّه حقيقة دون مواربة وخداع وأوهام نفس وإنّه لمن المفارقة العجيبة أنّ قلّة قليلة من البشر من تتجاوز ظاهر الوجود وسطحيّته وحجاب الظلمة وذلّ الحصر، إذ الغالبيّة العظمى غارقة منهمكة مشغولة ومنغمسة بشواغل الدّنيا ومشاغلها وهي متعلّقة عالقة بهموم الدّنيا من جهة الحقيقة الماديّة المتّصلة بجثمانية الإنسان وجسده المنهك المثقّل بالأوهام والآمال والهموم والحرص والطّمع والخوف والنظرة الإستشرافية لمستقبل وغدّ في حكم الغيب. 
على الإنسان أن يبحث عن كنزه المعنوي الكامن في باطن ذاته وأن يسعى لمحاورة ومعالجة قالبه المعنوي الذّي به يكون إنسانا وذاتا بشريّة متميّزة متفرّدة عن كلّ الكائنات الأخرى. وعليه أن لا يتمسّك بظاهره وزينته ومظهره الخارجي لكي لا يعيش خاضعا تابعا خانعا ذليلا لأهوائه مُلبيّا إحتياجات ومتطلبات جسده الشهوانيّة. إذ يكفيه تلبية ضرورياته الحياتيّة الأساسيّة  للحفاظ على سلامة جسده وليرتقي بمعناه وحقيقته الباطنيّة، فهيئته وهويته الباطنيّة أعمق من سطحية ظاهره وشكله وصورته الخارجيّة . « فما كان للّه دام وإتّصل وما كان لغير اللّه إنقطع وإنفصل».
إنّ عبوديّة الإنسان وصدقه وإخلاصه لمولاه وتعلّقه وإستئناسه به تُحيله إلى عالم المعنى وأُفق أرحب لحياة سرمديّة لا تنتهي بفناء القالب الجثماني بل تنصهر فيها الرّوح والنّفس ضمن سياق وصيرورة تابعة منجذبة لمولاها، فلا تُعارضه ولا تُعانده ولا تّجادله، بل مستسلمة موافقة لتجلياته سبحانه وتعالى. فالحياة البشريّة مبنى لصورة وظاهر الوجود ومعنى لباطن وصيرورة الوجود.