في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
لماذا نجحت دول في الحدّ من الفقر وفشلت أخرى؟
 في بحثنا عن مُنطلقات سُبُلِ الحدّ من الفقر والسّياسات المُعتمدة في المقال السّابق(1)، توصّلنا الى استنتاجات ثلاثة:
أوّلا: عدم تحقيق أيَّة سياسة معتمدة لأيِّ سبيل أيَّ اختراق لمعضلة الفقر إذا ما افتقد ذلك السّبيل إلى أرضيّة قيميّة تُعطي للإنسان اعتبارا كسبيل العقد الاجتماعي، أو اتجه نحو إلغاء الآخر كسبيل الصّراع بين مُكوّنات المجتمع الواحد، أو انطلق من اعتبار الإنسان كلفة كسبيلي «الرّفاه» و«الاحتياجات الأساسيّة»، أو اعتباره موردا كسبيل «الموارد البشرية»، ومآل كلّ سبيل من تلك السّبل لن يكون إلاّ مُخيبا لآمال الحدّ من الفقر.
ثانيا، أن كلّ من:
-  إقرار البنك العالمي منذ سنة 2016 بأنّ دور النّمو الاقتصادي في الحدّ من الفقر بقي مخيبا للآمال؛ 
- ما عدّده البرنامج الإنمائي للأمم المتّحدة منذ سنة 1996 من أنواع للنّمو الاقتصادي مولدة للفقر بدلا للثّروة؛ 
- اهتداء المجموعة الدّولية الى ضرورة تحقيق «التّنمية البشريّة»، واتّباع سبيل «التّنمية المستدامة»، وتفعيل مُحرّكاتها الثّلاثة من نُموّ اقتصادي مُوفّرٌ للتّشغيل والحدّ من الفقر والاستدامة البيئية.
كلّ ذلك، يعتبر اختراقا لافتا لمُعضلة الفقر عالميا.
ثالثا، يُعتبر تبنّي البنك العالمي لسبيل «التّمكين الاقتصادي» للفقراء سبيلا واعدا خاصّة وأنّه سبيل يعمل لتحقيق ذلك على توفير عوامل ستّة، من فرص استثمار وتمويل ملائم وشراكات ذكيّة وكذلك بنية تحتيّة واستثمار في المصاحبة والدّعم وأيضا في تقوية الثّقة في الذّات والامكانات وقٌدراتها على الولوج الى السّوق، ولكن يبقى سبيل «التّمكين الاقتصادي» محدودا ما لم ينتقل من محوريّة التّمويل الى محوريّة الانسان وما بقي يُنظر إلى التّمكين نظرة أداتيّة محضة، دون اعتباره مسارا لامتلاك القدرة وصيرورة الى حالة من أخذ مكان راسخ في الحياة بأبعادها المتعدّدة الاقتصاديّة والماليّة منها والاجتماعيّة ككل.
وبعد بيان سُبل الحدّ من الفقر التي تمّ اتباعها منذ أكثر من قرن، من خلال منطلقاتها والسّياسات التي اعتمدتها ومآلاتها نبحث في هذا العدد عن إجابة لسؤال طالما راود الكثير: لماذا فشلت دول خارج الإطار الجغرافي الغربي ونجحت أخرى في الحدّ من الفقر، وما نوعيّة السّياسات التي تمّ اتباعها هنا وهناك لنقف عند مكامن الضّعف والقوّة فيها، قبل أن ننظر في فُرص الحدّ من الفقر والتحدّيات التي تعترض سبيله في عدد لاحق إن شاء اللّه. 
I- دور الإطار العام للسّياسة الدوليّة 
شكّل كلّ من الإطار العام للسّياسة الدّوليّة والسّياسات العامّة المُنبثقة عنه والتي تمّ الاعتماد عليها منذ نهاية الحرب العالميّة الثّانية، مُحدّدا رئيسيّا في مستوى كلّ من النّمو الاقتصادي والفقر والبطالة في العالم.
ويتمثّل الإطار العام للسّياسة الدّوليّة في حركة التّجارة الدّوليّة بما تنطوي عليه من تقسيم دولي للعمل ومن صادرات وواردات وأسعار عالميّة تبادليّة وعلاقات وأسواق نقديّة واستثمارات خارجيّة...
وقد شكّل هذا الإطار العالمي إطارا مُساعدا على نموّ الاقتصاد الرّأسمالي العالمي في تلك المدّة، حيث اجتمعت عوامل رئيسيّة ثلاثة لتتحقّق من خلالها نسب نموّ اقتصادي مرتفعة وتلك العوامل هي:
- استقرار أسعار الصّرف وتوفّر السّيولة الدّوليّة، الذي كان هدفًا لنظام النّقد الدّولي النّاتج عن اتفاقية «بريتون وودز» عام 1944،
- حرّية التّجارة والحفاظ على التّقسيم الدّولي التّقليدي للعمل، الذي مكّن دول المنظومة من الحصول على النّفط بأسعار بخسة للغاية وبيع منتجاتها الصّناعيّة بأسعار عالية؛ 
- اعتماد محرّك الاستهلاك من طرف تلك الدّول من خلال تدخّلها في النّشاط الاقتصادي للتّأثير في حجم الطلب الكلّي الفعّال.
 كل تلك العوامل وغيرها جعلت نِسَبَ النّمو الاقتصادي تكون مرتفعة، ولكن من دفع ثمن كلّ ذلك؟ 
كان لغياب البُعد الإنساني داخل الإطار العالمي الذي تتحدّد فيه علاقة دول المنظومة(دول المركز) بدول الأطراف وطُغيان ثقافة «النّفعيّة الفرديّة» و«الأنانيّة الاقتصاديّة» وفلسفة «البقاء للأقوى» دور مهم في نُمُوِّ دول المركز وازدهارها مقابل تفاقم ظاهرة الفقر في دول الأطراف. لكن كيف ذلك؟
فرض نمط التّقسيم الدّولي للعمل على دول الأطراف، نظرا لاختلال موازين القوى، أن تتخصّص في إنتاج وتصدير المواد الخام والأوّليّة وأن تستورد في مقابل ذلك احتياجاتها من السّلع الاستهلاكيّة والإنتاجيّة المصنّعة والمواد الغذائيّة.
وقد كان لبقاء هذا النّمط دور حاسم في إبقاء هذه الدّول تابعة للدّول الصناعيّة تجاريّا وماليّا وتقنيّا ممّا أفضى إلى عدم نجاح سياسات التّصنيع التي قامت بها بعد حصولها على الاستقلال السّياسي والتي قامت في مرحلة أولى على أساس «الإحلال مكان الواردات» ثمّ في مرحلة ثانية على أساس «الإنتاج من أجل التّصدير».
فهذه السّياسات التي تمّ إتّباعها، لزيادة نسب النّمو الاقتصادي لدى الدّول النّامية لم تصمد أمام نمط التّقسيم الدّولي للعمل هذا، وتبعا لذلك لم تتحسّن الموارد المُخصّصة لمواجهة الفقر والأمّية والمرض خاصّة أمام عجز هذا النّمو على خلق فُرص عمل إضافيّة قادرة على استيعاب العاطلين عن العمل الذي لم يتوقّف عددهم عن الازدياد.
كما أدّت ظاهرة تصدير المواد الخام بأسعار منخفضة في مقابل الأسعار المرتفعة للسّلع المصنّعة المستوردة إلى الحدّ من إمكانات التّراكم لدى الدّول النّامية، وتبعا لذلك إلى الحدّ من إمكانات التّقليل من الفقر والبطالة والتّفاوت فيها، وباعتبار أنّ كلّ من النّمو الاقتصادي والفقر والبطالة هي نتائج لسياسات وليس أدوات لها تشكّلت علاقة بينها كنتائج وبين تلك السّياسات وإطارها العام. 
فالسّياسة العامّة كما يراها البنك الدّولي «تُعتبر حاسمة في الحدّ من الفقر، مقيسا بالدّخل وفي تحسين المؤشّرات الاجتماعيّة على حدّ سواء» مفسّرا ذلك بأنّ «السّياسة تؤثّر على الدّخول بصورة غير مباشرة، من خلال معدّل النّمو الاقتصادي ونمطه، ولها تأثير مباشر بدرجة أكبر على المؤشّرات الاجتماعيّة، أساسا من خلال برنامج المصروفات الحكوميّة» وكلّما ارتفعت الدّخول كلّما تحسّنت المؤشّرات الاجتماعيّة فـ «كلّ منهما يدعم الآخر بتشكيلة من الطّرق»(2) هذا إذا لم يتسلّل الفساد للدّوائر الحكومية.
وقد اعتمد البنك العالمي، قبل سنة 2016، فرضيّة أنّ « النّمو يقلّل من الفقر»، وقد توفّرت براهين تُثَبِّتُ تلك الفرضيّة، مثل ما حصل في الهند، حيث أنّ الدّخل الذي يُعزى للنّمو الاقتصادي تمّ توزيعه بطريقة حُضِي الفقراء، من خلالها، تقريبا بنفس النّسبة المئويّة من الزّيادة التي حُضِي بها سواهم.
ولكنّ القول «أنّ النّمو يُقلّل من الفقر» لم يمنع من القول أنّه «حيثما تفاقم التّفاوت مثلما حدث في البرازيل، كانت الآثار السّلبية ضمنيّا كبيرة بالنّسبة للفقراء» وقد اعتبر البنك العالمي أنّه «لو كان التّفاوت قد قلّ مثلما حدث في ماليزيا، لأنخفض الفقر في البرازيل بنسبة 43 % بين عامي 1960 و1980  بدلا من 29 %» (3)مستخلصا من ذلك أنّ  نمط النّمو، وكذلك معدّله مُحدّد هام للتّغير في نسب الفقر» 
وفي مقابل ما تمّ تسجيله من علاقة ضمن الإطار العام للسّياسة الدّوليّة بين تطوّر النّمو الاقتصادي ومستوى كلّ من الفقر والبطالة في كثير من دول العالم، تُوجد من بين دوله من استطاعت أن تنحت تجارب وتضع سياسات حقّقت من خلالها نجاحات في مواجهتها لظاهرة الفقر والبطالة، تجارب جديرة بالعرض والدّراسة علّنا نخلص لعبر نستأنس بها في بحثنا عن سبيل الحدّ من الفقر.
II-  دور إنسانيّة السّياسات وتوازنها في الحدّ من الفقر 
بالاعتماد على التّجربة الماليزيّة في ثمانينات القرن الماضي لوحظ أنّ الفقر قد قلّ على الرّغم من أنّ الدّخل المتوسط سجّل انخفاضا، ممّا يشير الى أنّ الصّدمات الخارجيّة أو التّغيّرات الهامّة في السّياسة قد تُغيّر من مدى انتشار الفقر عن طريق التّغيرات في التّفاوت في الدّخل.
وبمتابعة التّجربة الإندونيسيّة، في ظلّ اقتصاد قائم على المساواة، لاحظنا أنّ وضع مجموعة من السّياسات يُمكن أن يُحقّق نموّا اقتصاديّا ويُقلّل، في ذات الوقت، من درجة التّفاوت. 
وبمُتابعة السّياسات التي اتّخذتها مجموعة من الدّول وأثبتت جدواها في الحدّ من الفقر نذكر:
- سياسة إعادة توزيع الرّصيد القائم من الأصول وتمليك بعضها للفقراء (مثل الأرض) ولنا في تجربة كلّ من اليابان وكوريا خير مثال، حيث أدّت تلك السّياسة الى انخفاض ملحوظ ومستمرّ في الفقر.
- زيادة عوائد الأصول الخاصّة بالفقراء سواء من خلال زيادة إنتاجيّة النشاطات الاقتصادية عبر زيادة الاستثمار العام في راس المال البشري للفقراء او من خلال توفير بنية اساسية مادية افضل ولنا في تجربة كل من كولومبيا وماليزيا خير مثال.
- الاهتمام بالتّعليم، فلزيادة انتاجية القطاع الزراعي، باعتبار ان كثيرين من الفقراء يعتمدون، بصورة مباشرة او غير مباشرة على هذا القطاع، وزيادة انتاجية بقية النشاطات لابد من تعليم أفضل إذ أثبتت الدراسات حسب البنك العالمي ان هذا النوع من التعليم «مسؤول عن نحو ربع الزيادة في الايرادات الزراعية وعن نحو ثلاثة ارباع الايرادات غير الزراعية».
فالاستثمار في الرفع من القدرات المعرفية العلمية للبشر وتوفير بيئة يمكن فيها استخدام المهارات الجديدة بطريقة منتجة اثبتتا نجاعتهما في تحسين الرفاهية قصيرة الاجل للفقراء وآفاق زيادة الدخول في الأجل المتوسط كما حصل في ماليزيا.
-  توفير بنية اساسية مادية افضل من شانها توفير امكانية الوصول للأسواق لمعظم الفقراء كما حدث في اندونيسيا ايضا حين استخدمت عائداتها من النفط لتحسين البنية الأساسية وتوسيع نطاقها عبر منطقة جاوا الريفية باسرها مما قلل من اعداد الفقراء بشكل واضح وعلى النقيض من ذلك، زاد عدد الفقراء في كثير من بلدان افريقيا جنوب الصحراء نتيجة عدم تحسين البنية الاساسية.
- التحويلات التي تكون عادة في شكل دعم غذائي، فقد تم القيام بتحويلات معتدلة تتّسق مع النّمو الاقتصادي السّريع في كل من اندونيسيا وتايلاند تقدر ب 2 % من الناتج القومي الاجمالي، تحويلات لم تضر لا بالنمو ولا بمستقبل الاجيال على عكس تجارب اخرى التي اظهرت ان المستفيد من التحويلات ليس ضرورة الفقراء في كثير من البلدان كالتحويلات في مصر والتي وصلت الى 7% من الناتج القومي الاجمالي ولم تصل معظمها للفقراء في اواخر السبعينات كما ذكر البنك العالمي(4) كما انها تسببت في صعوبات اقتصادية كلية شديدة بتخفيضها للنمو، في كثير من البلدان وقضت ايضا على الاجيال القادمة الا تعيش الا في الفقر.
وفي الأخير نلفت الانتباه الى ان تلك السّياسات ما كانت أن تُحقق نموا بمعدلات مرتفعة تجاوزت 6 % ودامت لسنين في كلّ من اندونيسيا وتايلاند وماليزيا واستيعابا كبيرا للعمالة وانفاقا اجتماعيّا كافيا لو لم يُصاحبها توازن سليم بين مجموع تلك السّياسات.
وفي المقابل ورغم ما حقّقته كلّ من البرازيل من نسب نمو فاق معدّلات نمو البلدان الثّلاث سابقة الذّكر وباكستان التي ساوتهم في نسب النّمو الاقتصادي لديهم، رغم ذلك، لم يكن خلق الفرص للفقراء وتطوير قدراتهم على المستوى الذي وصلت اليه كلّ من اندونيسيا وتايلاند وماليزيا ولم تتحسّن المؤشّرات الاجتماعيّة سريعا سواء في البرازيل أو في باكستان، بل اعتبرت معدّلات وفيّات الأطفال دون الخامسة في البرازيل من أعلى المعدّلات بين البلدان متوسّطة الدّخل، ومعدّلات القبول بالمدارس الابتدائيّة في باكستان من أدنى المعدّلات في العالم، ولم يتحقّق تحسين مهارات القوّة العاملة ممّا حرم الفقراء من القدرة على الانتفاع بالنّمو.
استنتاجات عامة:
ما نستنتجه من تجارب عدّة دول نامية ما يلي:
-  من الممكن حدوث نمو اقتصادي دون حدوث تقدّم اجتماعي كبير والعكس صحيح أيضا، وهذا يعود الى مدى اتخاذ سياسات تستحثّ النّمو وتمكّن في الوقت ذاته الفقراء من المشاركة فيه ومدى إحداث التّوازن السّليم بين مجموع تلك السّياسات.
- إنّ البلدان التي كانت أكثر نجاحا في الحدّ من الفقر، هي التي شجّعت نمطا من النّمو يحقّق الاستخدام الفعال للعمل، واستثمرت في تقوية القدرات المعرفيّة العلميّة للبشر لأنّ ذلك يقلّل من الفقر ويزيد في الدّخل في آن واحد.
-  المفاضلة ليست بين الدّخل والنّمو من ناحية والفقر من ناحية أخرى، بل بين الاعتماد على الثّراء المالي ام على الإنسان خاصّة وأنّ النّهج الأول أفرز تهميشا واقصاء لفئات عريضة من النّاس، ممّا فاقم من ظاهرة الفقر، أمّا النّهج الثّاني فيعزز الإدماج والمشاركة ويحدّ من الفقر.
بعد الوصول الى هذه الاستنتاجات الواعدة، ما فُرص الحدّ من الفقر في العالم وفي بلدنا؟، وما التحدّيات التي تعترض هذا السبيل؟، وما الإمكانات المتاحة لاتباع ذلك السّبيل؟ وما التهديدات التي تحفه؟، هذا ما سنبحث فيه في الأعداد القادمة إن شاء اللّه. 
الهوامش
(1) راجع مقالنا بالعدد 192 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية شهر جويلية 2023 
 (2) تقرير البنك الدولي (1990) ص36
 (3) تقرير البنك الدولي (1990) ص65-66
 (4) تقرير البنك الدولي (1990)  ص 67