نحو أفق جديد

بقلم
أ.د.عبدالجبار الرفاعي
مفتاحُ تفسير الكتاب الكتابُ نفسه
 مفتاحُ تفسير كلِّ كتاب هو الكتابُ نفسُه، لأنّ نصوصَه مُضاءٌ بعضها بالبعض الآخر، سواء كان كتابًا مقدّسًا أو غيره. آياتُ القرآن الكريم تفسِّر إحداها الأخرى، وذلك ما دعا أكثر من مفسِّرٍ لتبنى تفسير القرآن بالقرآن. ويعدّ هذا المنهج من أدقّ مناهج التّفسير الموروثة، غير أنّ مَن اعتمده لم يكن استثناء، فكان اختياره لتفسير آيةٍ بآية وكلمةٍ قرآنيّة بآية وآيةٍ بكلمة يخضع لرؤيته للعالَم وتكوينِه المعرفي ومعتقده ولغته الأم.                
القرآنُ الكريم ليس ديوانًا للشّعر، أو كتابًا في الفلسفة، أو التّاريخ، أو الجغرافيا، أو العلم، أو الفيزياء، أو الكيمياء، أو الرّياضيات، أو غير ذلك من أجناس الكتابة. القرآنُ كتابٌ متفرّدٌ ليس كمثله كتابٌ، لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره، حقيقتُه أنّه قرآنٌ وكفى. القرآنُ مفتاحُ بوابة الارتواء من منابع النّور، وضوءٌ لبصيرة مَنْ ينشد بناءَ صلة وجوديّة باللّه.كان وما يزال وسيظلّ هذا الكتابُ الكريمُ يوقظ صوتَ اللّه داخل الإنسان. القرآن منجم عظيم، لا يفصح هذا المنجم عن كنوزه إلاّ بمفاتيح يمتلكها ذوو البصيرة النّورانيّة. القرآنُ الكريم مرآةٌ يتجلّى فيها اللّه، وذلك ما يقرأه كلُّ متدبّر لآياته ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد:24) ، ويراه كلُّ مَنْ توقظ قلبَه الأنوارُ الإلهيّة، وتتذوّق روحُه الإشراقاتِ الرّحمانيّةَ. ذلك ما يشير إليه قولُ الإمام جعفر الصّادق «ع»: «لقد تجلّى اللّه لخلقه في كلامه، ولكنّهم لا يبصرون»(1). 
القرآنُ الكريم يركّزُ على الغيب بشكل مدهش، وذلك يعني كثافة حضور ما هو ميتافيزيقي في دلالاته، عالَمُ الغيب لا نفقه منه شيئًا إلاّ بحدود ما تشير إليها لغةُ الغيب الرّمزيّة. لا طريقَ للتّعرّف على ما ينتمي إلى عالَم الغيب إلاّ أن نستنطقَ القرآن، القرآنُ يحدّدُ نوعَ المعنى الذي تنطقُه لغةُ الغيب. القرآنُ يتحدّثُ عن الغيب وما وراء الطّبيعة أكثر ممّا يتحدّث عن الطّبيعة، ليس من العلمِ تجاهلُ ما وراء الطّبيعة في القرآن، أو تأويلُ لغة الغيب وآياته تأويلًا يخضعها لمناهج وأدوات العلوم التي تدرس الطبيعةَ وظواهرَها وقوانينَها وما فيها من كائنات وأشياء. الإصغاء لنداء الوحي هو النّافذة الوحيدة للإطلالة على الغيب واكتشاف آفاقه. كلُّ لغة تتحدّثُ عن الغيبِ لا تتحدّثُ بلغة العلم، لغةُ الغيب ترسمُ صورةً مألوفة لتقريب ما لا صورةَ له إلى ذهن الإنسان. عالمُ الغيب عالمُ الأسرار، الأنطولوجيا الميتافيزيقيّة في القرآن فضاءٌ لعالَم الأسرار. في لغة القرآن يمكن تمييزُ نوعين من الدّلالات، دلالاتُ آياتٍ تتحدّثُ عن الغيب، لغتُها تمثيلٌ ومجازات وكنايات واستعارات وتشبيهات ورموز تشيرُ لحقيقةٍ لا مرئيّة ولا محسوسة ولا صورة لها، ودلالاتُ آياتٍ لغتُها تتحدّثُ عن الإنسانِ والكائنات والأشياء والقوانين في الطّبيعة، هذه اللّغةُ تتبادر لنا دلالاتُها الظّاهرة، ونتعرفُ على معاني كلماتها عبر الاستعمال، وفي معاجمِ اللّغة، وما تكشفُه العلومُ المتنوّعة من عناصرها وتركيباتها وخصائها وآثارها(2).
القرآنُ كتابٌ ميتافيزيقي بامتياز، عند العودةِ إليه والنّظرِ فيه بتدبّرٍ نلحظ أنّ حضورَ اللّه يتفوّق كثيرًا على كلِّ حضورٍ في هذا الكتاب، وهذا الحضورُ للّه لا نراه ماثلًا بهذه الكثافة في أيّ كتابٍ مقدّسٍ آخر في الأديان. ورد ذكرُ اسمِ «الله» 2699 مرّة في آياته، ولو أضفنا لذلك عددَ أسماءِ اللّه وصفاتِه المتنوّعةِ في القرآن لتجاوز هذا العددَ بكثير، فمثلًا تكرّر ذكرُ كلمة «ربّ» 124 مرّة. الكثافةُ اللاّفتةُ لحضورِ «اللّه» وأسمائِه وصفاتِه المتنوّعةِ تدلّل بوضوحٍ على أنّ القرآنَ يشدّد على الإيمانِ باللّه، ويجعله حجرَ الزّاوية في بناء الحياة الدّينيّة في الإسلام، ويؤشّر إلى ضرورة وصل نظام القيم في الحياة الفرديّة والمجتمعيّة باللّه، بالمعنى الذي يصير فيه الإيمانُ باللّه منبعًا مُلهِمًا للحقّ والعدل والخير والسّلام والمحبّة والجمال في العالَم، وخلص الإنسان من الشرِّ الأخلاقي. وتظهر القيمةُ العظمى للإيمان في تحريرِ الإنسان من اغترابه الوجودي. فهذا الاغترابُ يُفضي إلى استلابِ ذات الكائن البشري، لأنّه اغترابٌ لكينونة هذا الكائن عن وجودها، ومن هذا الاغتراب يحدث القلقُ الوجودي، إذ بعد أن تنقطعَ صلةُ الإنسان الوجوديّةُ بإلهِهِ، تُستلَب ذاتُه ويفتقدها، وعندما يفتقدُ الإنسانُ ذاتَه يمسي عرضةً لكلِّ أشكال الهشاشة والتّشظّي، وربّما يتردّى إلى حالةٍ من الغثيان الذي يعبثُ بروحِهِ ويمزّقُ سلامَه وسكينتَه الجوّانيّة. ‏
ابتكر القرآنُ نظامَه الدّلاليَّ الخاصّ، فأسّس شبكةَ علاقات دلاليّة محورهُا اللّه والرّؤيةُ التّوحيديّة للوجود، وكلُّ المفاهيم الأخرى مشبَعةٌ بدلالتها، لأنّها تصدر عنها وتنتمي إليها. لا تحتفظ الكلماتُ العربيّة المستعملة في معجمِ القرآن بالضّرورةِ بدلالاتها السّابقة في اللّغة، بعد أن وظّفها القرآنُ في حقله الدّلالي، ودخلت في شبكة العلاقات الجديدة التي محورها اللّهُ والرّؤيةُ التّوحيديّة للوجود. يشرح توشي هيكو إيزوتسو (1914-1993) ذلك بقوله: «إنّ المفاهيم لا توجد منعزلة وحدها، بل تكون دائمًا منظّمة إلى أقصى حدّ داخل نظام أو أنظمة... هذا يعني أنّ كلمة (كتاب) البسيطة بمعناها البسيط، حالما أُدخلت في نظام خاصّ، ومنحت موقعًا محدّدًا ومعيّنًا فيه، اكتسبت العديد من العناصر الدّلاليّة الجديدة النّاشئة عن هذا الوضع الخاصّ، وعن العلاقات المتنوّعة التي شكّلتها لتحملها إلى المفاهيم الرّئيسيّة لذلك النّظام. وكما يحدث غالبًا، فإنّ العناصر الجديدة تميل إلى التّأثير بعمق في بنية المعنى الأصلي للكلمة، بل إلى تغييرها جوهريًا»(3). ويكتب إيزوتسو في موضع آخر: «إنّ هناك نوعًا من التّماسك المفهومي في الرّؤية القرآنيّة للعالَم، وإحساسًا بنظام حقيقي يقوم على مفهوم اللّه ويتركز حوله، وهو ما لم يكن موجودًا في النّظام الجاهلي. من أجل هذا كلّ الحقول الدّلاليّة وتبعًا لذلك كل المصطلحات المفتاحيّة في هذا النّظام الجديد تقع تحت سلطة هذه الكلمة - المركز الأعلى. وفي الحقيقة لا يمكن لشيء أن يفلت منها، ليس فقط تلك المفاهيم التي ترتبط مباشرة بالدّين والإيمان بل كلّ الأفكار الأخلاقيّة، حتّى المفاهيم التي تمثّل الأوجه الدّنيويّة، مثل الزّواج والطّلاق والإرث والمسائل التّجاريّة، كالعقود والدّيون والرّبا والمكاييل والمقاييس... إلخ، كلّها قد تمّ إدخالها في علاقة مباشرة مع مفهوم (اللّه)»(4).  
في ضوء ذلك، على مَنْ يريد أن يفسِّر القرآنَ أن يكتشف حقلَه الدّلالي وشبكةَ علاقات الكلمات في سياق آياته، بوصفها اصطبغت برؤيتِه التّوحيديّة للوجود. وذلك ما لم يتنبه إليه بعضُ المفسّرين الذين ضاعوا في متاهات المعاني اللّغويّة للكلمات، أو الدّلالات البديلة الغريبة على نظامه الدّلالي، التي أسقطتها على الحقل الدّلالي للقرآن بيئاتٌ ثقافيّة وقيمُ ومفاهيم مجتمعات متنوّعة دخلت الدّينَ الجديد، بعد امتداد عالَم الإسلام من الأندلس إلى الصّين، وتشبّع شيءٌ من كلماته بدلالات الفلسفة اليونانيّة وغيرها في عصر التّرجمة، وبمرور الزّمان خضع تفسيرُ آياته لحقل دلالي مشبع برؤية كلاميّة فقهيّة. في العصور التّالية لعصر البعثة الشّريفة تسيّدت الحياةَ الدّينية، بكلِّ تجلياتها، لغةٌ مشتقّةٌ من رؤية علم الكلام والفقه. تحضرُ الذّهنَ غالبًا في عمليّة التّفكير بالدّين الكلماتُ المشبعة بدلالات لغة الكلام والفقه، وهكذا تحضرُ هذه الكلماتُ بكثافةٍ في التّعليم الدّيني. في أحاديث خطباء الجمعة والمحاضرات على منابر المساجد ووسائل التّواصل لا يخرج المتكلّمُ عن الحقل الدّلالي الكلامي والفقهي إلّا في حالات محدودة، ولا يتبادرُ إلى ذهن المتلقّي إلاّ المعنى الرّاسخُ في هذا الحقل الدّلالي. في الحياة اليوميّة للمسلم، حينَ يتحدّثُ عن أيِّ شأن يتّصلُ بالدّين، يتكرّرُ في أحاديثه ما تحيلُ إليه هذه الكلماتُ من مفاهيم كلاميّة وفقهيّة، وعندما يتناول أيُّ كاتبٍ موضوعاتٍ تتّصلُ بالدّين يستقي من هذا الحقل الدّلالي. أكثرُ مفسِّري القرآن الكريم المتأخّرين لا يرون معنًى لآياته خارج فضاء لغة الكلام والفقه، وقلّما تُستعمَل كلمةٌ أو مصطلحٌ في الحياة الدّينيّة خارج أُفق رؤية المتكلّمين والفقهاء للعالَم. 
اللّغةُ ليست محايدةً أو قوالبَ فارغة، ولا يصحُّ توصيفُها بوعاءٍ يمكن أن يُملأ بأيّ معنى. اللّغةُ ترسمُ خارطةً للذّهن، وتحدّدُ مساحةَ التّفكير ومُدْيَاته وكيفيّته. اللّغةُ بوصلةُ توجيه الفهم والمولِّدة لوجهة عمليّة التّفكير. اللّغةُ ترسم الرّؤية للعالَم، يقول فيلهم فون همبولد (1767-1835): «من خلال الارتباط المتبادل بين الفكر والكلمة يصبح بديهياً أنّ اللّغات ليست وسائل لتمثيل حقيقة معروفة من قبل، بل هي أكثر من ذلك، إنّها وسائل للكشف عن الحقيقة غير المعروفة بعد، وإنّ تنوّع اللّغات، إذاً، ليس تنوعاً في الأصوات والعلامات فحسب، بل تنوع في رؤى العالم»(5). مادام مضمونُ لغة الدّين في الإسلام لا يتجاوز علمَ الكلام والفقه، فحدودُ تعريف الدّين ومفهومه وأدوات قراءة القرآن والسّنة قلّما تتجاوز رؤيةَ المتكلّم والفقيه.
الهوامش
(1)  المجلسي، محمدباقر، بحار الأنوار، ج 89، ص 107، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(2)  الرفاعي، عبدالجبار، مناقشة الرؤى الرسولية لعبدالكريم سروش، جريدة الصباح، بغداد، الصادرة في 22-9-2022.  
(3) إيزوتسو، توشي هيكو، الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤية القرآنية للعالَم، ترجمة، هلال محمد الجهاد، ص 66، ط1 ، 2007، المنظمة العربية للترجمة، بيروت.  
(4) المصدر السابق، ص 78.  
(5) الزواوي بغوره، اللّغة ورؤية العالم، في: كيف تعمل اللّغة وتؤثّر علينا، اعداد: عبد العزيز العوضي، ص 20، 2019، صوفيا حروف، الكويت.