وجهة نظر

بقلم
سعيد السلماني
حقوق الإنسان بين كونية المفهوم وخصوصية التطبيق
 تمهيد:
قضية حقوق الإنسان من القضايا الشّائكة وتزداد تعقيدا كلّما تطوّرت المجتمعات وأصبحت أكثر انفتاحا من ذي قبل، كما أنّها من القضايا السّائلة التي يمكن توظيفها سياسياً في وجه الدّول الضّعيفة والممانعة. فما المقصود بمفهوم حقوق الإنسان؟ وكيف تبلور هذا المفهوم؟ وهل حقوق الإنسان نسبية أم مطلقة؟
1 - في دلالة المفهوم وتبلوره:
حقوق الإنسان هي تلك الحقوق والحرّيات المستحقة لكلّ شخص لمجرّد كونه إنسانا. ويستند مفهوم حقوق الإنسان على الإقرار بما لجميع أفراد الأسرة البشريّة من قيمة وكرامة أصيلة فيهم، فهم يستحقّون التّمتّع بحرّيات أساسيّة معيّنة، وبإقرار هذه الحرّيات فإنّ المرء يستطيع أن يتمتّع بالأمن والأمان، ويصبح قادراً على اتخاذ القرارات التي تنظّم حياته. وقد تبلور مفهوم حقوق الإنسان في الغرب عبر مسارين كبيرين: أوّلها التّجارب السّياسيّة الغربيّة المتمثّلة في الصّراع ضدّ الحكم المطلق من أجل الحدّ من صلاحيّاته الواسعة، والثّاني اجتهادات المفكّرين وتنظيرات الفلاسفة ابتداء من الحقبة الإغريقيّة، ثمّ الرّومانيّة، فالإسلاميّة ثمّ الحقبة الحديثة في الغرب، وتعتبر فلسفة الأنوار معلمتها الرّئيسيّة.
هذه الأرضيّة الثّقافيّة الجديدة طالت كلّ المجالات والفروع المعرفيّة ووسمتها بميسمها بشكل واضح بما في ذلك مجال التّشريع وفلسفة الحقّ. ويجمع جلّ مؤرّخي الفكر الحقوقي على أنّ مفهوم حقوق الإنسان قد تولّد عن مفهوم القانون الطّبيعي Droit naturel ، بمعنى أنّ حقوق الإنسان تجد أصلها في الحقوق الطّبيعيّة. إلاّ أنّه قد يكون من الأدقّ الإشارة إلى أنّ مفهوم حقوق الإنسان قد انبثق في سياق فكريّ تصبّ فيه ثلاثة روافد: فكرة الحرّية أو الحرّيات، فكرة العقد الاجتماعي، وفكرة الحقّ الطّبيعي. 
هذه الرّوافد الثّلاثة الكبرى قد شكّلت البوتقة التي انبثق فيها مفهوم حقوق الإنسان، بل إنّ الرّافدين الأول والثّاني يصبّان في النّهاية في مفهوم الحقّ الطّبيعي، ويسهمان في البلورة النّظريّة لمفهوم حقوق الإنسان، لذلك فإنّ مسار الحقّ الطّبيعي ظلّ هو الطّريق الملكي من مفهوم حقوق الإنسان وإليه.
وانطلاقا من ذلك، يمكن أن نشير إلى أنّ الأساس الفكري لحقوق الإنسان هي فلسفة الأنوار، وذلك من حيث أنّ حقوق الإنسان قد انبثقت، في القرن الثّامن عشر، عبر صراع الأنوار ضدّ مطلقيّة وتعسفيّة السّلطة، فالرّوح التي تسكن مفاهيم حقوق الإنسان هي روح أنواريّة، ومن ثمّة فإنّ الأسس الفلسفيّة لحقوق الإنسان هي: العقلانيّة، والمشروعيّة التّاريخيّة، والنّزعة الفردانيّة، والوضعانيّة القانونيّة. وهذه الأسس هي بمثابة الأرضيّة الفكريّة التي ازدهرت على بساطها مقولات الحقّ الطّبيعي، والعقد الاجتماعي ومبدأ المساواة، والحرّيات الأساسيّة للإنسان (1).
 وهذه الأفكار، في مراوحتها الجدليّة بين نضالات الواقع التاريخي وصراعاته والاجتهادات الفلسفية في ميدان الفكر ستنتقل بالتّدريج من بطون الكتب ودوائر الخاصّة إلى رحاب الواقع السّياسي كما ستتحوّل بالتّدريج أيضا من معايير أخلاقيّة ملهمة وموضوعيّة إلى تشريعات وقوانين ضابطة وملزمة سواء على الصّعيد الدّاخلي أو على صعيد العلاقات بين الدّول. وتقدّم النّصوص الأساسيّة (مواثيق – معاهدات – قرارات - ...) لحقوق الإنسان، سواء منها ما هو صادر عن هيئات دوليّة كالأمم المتحدة أو المنظّمات التابعة لها، أو عن هيئات إقليميّة (الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان – الميثاق العربي لحقوق الإنسان – الميثاقان الإسلاميّان...)، تقدم هذه الحقوق على أنّها حقوق شموليّة للنّوع البشري، وأنّها، على الرّغم من وجود جذور لها في الثّقافات الخاصّة أو المحليّة، هي حقوق موجّهة إلى كلّ البشر بغض النّظر عن اللّون، أو الجنس، أوالعرق، أواللّغة، أوالوطن أو النّظام السّياسي. 
2 - التّأسيس الفعلي لمفهوم حقوق الإنسان
هذه النّزعة الشموليّة أو الكونيّة لهذه النّصوص لا نجد لها صدى في النّصوص الأولى المدشّنة لثقافة حقوق الإنسان في العصر الحديث، أمّا النّص الذي تبنّى خطابا ذا نزعة إنسانيّة شموليّة فهو «الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن» (1789). فهو ذو طابع شموليّ وتجريدي بل وتنظيري، وكأنّه موجّه للبشريّة جمعاء، وذلك ابتداء من العنوان نفسه، والجملة الأولى من البند الأول من هذا الإعلان تعكس النزعة الشّموليّة التي طالت معظم بنوده ،إذ تنصّ على أنّ «النّاس يولدون أحرارا ومتساوين في الحقوق».
وستنتقل هذه الرّوح الشّموليّة إلى النّصوص الدّوليّة لحقوق الإنسان وبخاصّة في «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» 1948 الذي ينطلق من مصادرة أساسيّة هي الكرامة الأصيلة لكلّ أعضاء الأسرة البشريّة وما يترتّب عنها من حقوق متساوية وثابتة. ثمّ ينصّ في المادّة (2) على أنّ لكلّ إنسان الحقّ في الحقوق الإنسانيّة بغض النّظر عن «العرق أو اللّون، أو الجنس، أو اللّغة، أو الدّين، أو الرّأي السّياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثّروة أو المولد أو أيّ وضع آخر»(2). ومعظم البنود اللاّحقة تتوجّه إلى الإنسان عامّة أو إلى جميع النّاس أو إلى كلّ فرد، إذ يبدأ معظمها بالصّيغة: لكلّ فرد، لكلّ إنسان، النّاس جميعا (3). وما هو ملاحظ أنّ هذا التّوجه ازداد عمقا بحيث أصبح الكلّ يتحدّث عن حقوق الإنسان «حيث نجد أنّ الجيل الثالث من حقوق الإنسان لا يكتفي بالحديث عن عموم النّاس، بل عن الإنسانيّة برمتها، وعن حقّها في الاحتماء من مخاطر الطّبيعة أو في اقتسام خيراتها»(4). 
3 - جدل الخصوصي والكوني حول مفهوم حقوق الإنسان
يستدعي خطاب حقوق الإنسان كائنا مجرّدا، شيئا ما، كنموذج أصلي، فيه تتجسّد كلّ السّمات المثاليّة التي لم تلوّثها الانتماءات والإقصاءات والاختزالات، أي كائنا أسّسه الخطاب ويحاول إيجاد ركائز ملموسة له في الواقع السّياسي والاجتماعي والثّقافي والحضاري. لكنّ الحقائق التّاريخيّة البيّنة تؤكّد بالملموس، أنّ الإنسان -أيَّ إنسان- لا يمكن استدعاؤه من حيث هو كذلك، إلاّ انطلاقا من انتمائه الخاصّ إلى لغة وثقافة وهويّة، وهو ما يطرح العديد من الإشكالات بصدد تلقّي خطاب حقوق الإنسان وتماهيه مع أوضاع وسياقات متنوّعة ومتناقضة.
ومن نافل القول إنّ حقوق الإنسان وُلِدت منذ البداية مشوبة بالمرجعيّة التي أفرزتها، وهي «النّزعة العرقيّة المركزيّة الأوروبيّة»، لأنّ أسباب نزولها ارتبطت بسياقات ومرجعيّات تاريخيّة أوروبيّة قبل أن يتمّ تعميم الخطاب، انطلاقا من رغبة إرادويّة لباقي ساكنة الأرض، والتّعامل معها انطلاقا من ذلك، بغض النّظر عن اختلافاتها وتمظهراتها، الثّقافيّة والتّاريخيّة. إنّ ارتباط هذه الحقوق بـ «النّزعة المركزيّة الأوروبيّة» خلق العديد من ردود الفعل الرّافضة لها وأفرز العديد من المقاومات، لِما تحتويه من بنود ومواد، رغم أنّ هذه المواد تظلّ، في منطوقها المباشر والمعلن، في صالح الإنسان أوّلا وأخيرا، وفي صالح إنسانيّته المفترضة، لأنّها غير متحقّقة «هنا والآن» على أرض الواقع، فعندما تنسب الكونيّة للغرب ولثقافته باعتبارها نموذج كلّ ثقافة كونيّة، فإنّ الأمر يولد جدالا لا حدّ له، ويثير مآخذ من جانب الفضاءات الثّقافيّة الأخرى المنافسة للثّقافة الغربيّة، وهكذا تطرح من جديد صراعات حول المرجعيّة: هل المقصود بالكونيّة هو الثّقافة الغربيّة؟ وهل الثّقافات الأخرى لم تسهم في بلورة هذه الحقوق؟ وإذا كانت هذه المرجعيّة الغربيّة شموليّة وكونيّة حقّا، فلماذا تتّجه إلى طمس معالم الخصوصيّات الثّقافيّة عامّة وفي موضوع حقوق الإنسان ذاته؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المحرجة.
وبجانب هذا التّوجه النّظري للصّراع حول المرجعيّات، هناك شقّ آخر عملي وسياسي، إذ لوحظ أنّ التّمسّك بالقول بالخصوصيّة إنّما هو قول حقّ وراءه باطل، لأنّه غالبا ما يكون مطيّة لإخفاء بعض أشكال القمع وعدم احترام حقوق الإنسان، كما يكون أحيانا «مطيّة للتّحلّل من التزامات قانونيّة وواجبات إنسانيّة»(5). وفي هذا السّياق هناك اتجاهان رئيسان حول قضيّة حقوق الإنسان:
أ- اتجاه كونيّة حقوق الإنسان
 ينطلق هذا الاتجاه من عدّة مقولات رئيسيّة ترى أنّ أسباب عالميّة حقوق الإنسان ترجع لانطباقها على الإنسان كمطلق في كلّ مكان وبدون تمييز، كما أنّها تستمد عالميتها أيضا من المواثيق الدّوليّة السّارية والتي تعدّ إنجازا حقيقيّا، ويصبح السّؤال: كيف نرسّخ الإجماع العالمي حول مفهوم ومبادئ حقوق الإنسان؟، ويرى هذا الاتجاه وجوبَ الأخذ بالمفهوم والمبادئ الرّاهنة كإطار مرجعي بدلا من البداية من جديد أو من نقطة الصّفر، حيث تقوم على قدر من الإجماع العالمي الرّسمي على الأقل، كما أنّها تحقّق حدّا أدنى من مستوى الحماية والكرامة. وينادي هذا الاتجاه بضرورة العمل على تأصيل هذه العالميّة ومشروعيّاتها في ثقافات العالم المختلفة، مع ضرورة النّقاش أو الحوار بين الثّقافات المختلفة وتطويع عوامل التّأثير المتبادل بين الثّقافات لتحقيق إجماع شعبيّ وليس رسميّ.
كما يرى هذا الاتجاه أنّ عالميّة مفهوم حقوق الإنسان تنبع من تزايد تطبيق القانون الدّولي لحقوق الإنسان مع امتداد واتساع رقعة الخطاب العام لحقوق الإنسان إلى الحدّ الذي جعل مفهوم حقوق الإنسان أحد القيم العالميّة في وقتنا الحاضر، فقد حلّت لغة خطاب حقوق الإنسان بالمفهوم اللّيبرالي محلّ الفراغ الذي ظهر بعد زوال النّظريّات السّياسيّة الكبرى بعد الحرب الباردة، ويؤكّد هذا الاتجاه إنّه بالرّغم من الاختلاف والتّنازع حول مفهوم خطاب حقوق الإنسان وتطبيقه، إلاّ أنّ هناك درجة ملحوظة من الاتفاق بين الحكومات على أنّ هناك عددا من الحقوق يجب حمايتها تحت قواعد القانون الدّولي. ويستوحى هذا الاتجاه حججه من أفكار«كانط ـ Kant»  وخاصّة فكرته عن الحقّ العالمي ـ والمستمدّة من فكرته عن السّلام العالمي. 
وأخيرا أجمع كلّ أنصار هذا الاتجاه على أنّه إذا كان هناك شكل ثقافي عالمي فهذا لا يعني أنّه لا يوجد تأويل يعتمد بشكل أساسي على تمايز القيم الفرديّة والمحلّية ، كما أنّ المعاني لا تتولّد فقط من الرّوابط الثّقافيّة ومنظومة القيم، وإنّما من خلال التّفاعل العالمي، كما يرفض أنصار عالميّة حقوق الإنسان العزلة وينادون بمفهوم التّعدديّة، ولكن من خلال عولمة هذه التّعدديّة في صيغة واحدة، ويؤكّدون أن المسألة ليست مجرّد تغريب أو تحديث أو نوع من المعياريّة، فهي ببساطة عمليّة تجانس وتكامل بل وتتضمّن جمع كلّ هذه الاختلافات في بوتقة واحدة، ومن ثمّ يصبح المفهوم العالمي لحقوق الإنسان هو التّعبير الأمثل عن الرّشادة والعقلانيّة والقانون والحقّ الطّبيعي ومفهوم ومبادئ العدالة والعقد الاجتماعي والمنفعة.
وقد أشار البعض في هذا الإطار إلى مفهوم العالميّة المتفاعلة التي لديها القدرة على استيعاب الاختلافات واعتبارها نقاط بدء للفكر والممارسة لتقديم اتجاهات أخلاقيّة، تبحث عن تعريف وتشجيع وتكريس ما يصلح للعالميّة من داخل كلّ ثقافة، وقد فرّق البعض الآخر بين العالميّة المجرّدة والعالميّة الواقعيّة أو الملموسة والتي تتجسّد في شبكات العلاقات والتّرابطات الكونيّة لدمج الأفراد والثّقافات ليصبح مفهوم حقوق الإنسان مفهوما متعدّد الثّقافات(6) .
ب‌- اتجاه نسبيّة حقوق الإنسان: 
ينطلق هذا الاتجاه من عدّة مقولات رئيسيّة ترى أنّ أسباب خصوصيّة حقوق الإنسان أو نسبيّتها ترجع إلى عدّة أسباب من أهمها:
 أولا: عدم وجود فهم أو تأويل موحّد لعالميّة لغة حقوق الإنسان ومبادئها والالتزام بها، وذلك لتعدّد المعاني والدّلالات بتعدّد التوجّهات والبواعث والمتحدّثين، كما أنّ لكلّ ثقافة فهمها الخاصّ وبشكل مغاير لما هو شائع في ثقافة أخرى، وأنّ فكرة الحقوق الواجبة من حيث أنّها ملزمة للدّولة والمجتمع قد لا تكون مقبولة في المجتمعات التّقليديّة التي ينشغل فيها النّاس أكثر بالاتساق والتّكافل الاجتماعي أكثر من انشغالهم بحقوق الأفراد ونفاذ تلك الحقوق في مواجهة الدّولة والمجتمع، فالحقوق هي ظاهرة ثقافيّة تنمو وتتغيّر عبر الزّمن كاستجابة لتأثيرات متنوّعة ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة.
ثانيا: أرجع هذا الاتجاه خصوصيّة حقوق الإنسان ونسبيّتها إلى قصور المواثيق الدّوليّة الحاليّة حيث أنّ مشاركة الدّول النّامية جاءت متأخّرة وعلى أساس مفهوم ومبادئ لحقوق الإنسان سبق تقريرها بواسطة الدّول الكبرى عام 1946 ـ 1948، حيث لم يكن لممثلي الدّول النّامية حديثة العهد بالاستقلال المصداقيّة والوزن السّياسي الذي تتمتّع به الدّول الكبرى. أيضا كانت هذه الدّول تعاني من ضعف الهياكل وغياب الاستقرار السّياسي والحرّيات العامّة وضعف الموارد البشريّة، ومن ثمّ فإنّه يصبح من الضّروري ـ من وجهة نظر هذا الاتجاه ـ  خلق وتنمية الاجماع الشّعبي العالمي حول مفهوم ومبادئ حقوق الإنسان بدلا من المفاوضات الرّسميّة بين ممثّلي الحكومات، لأنّ ثقافة أي مجتمع هي جماع قيم وأعراف ومؤسّسات وأنماط السّلوك المتناقلة جيلا بعد جيل في إطار المجتمع.
وقد أجمعت كلّ حجج مقولات اتجاه النّسبيّة الثّقافيّة لحقوق الإنسان على ضرورة الاهتمام بالأبعاد التّاريخيّة والثّقافيّة المتعلّقة بطبيعة خطابات حقوق الإنسان المختلفة وأيضا بطبيعة بناءاتها الاجتماعيّة. كما رفض أنصار اتجاه النّسبيّة الثّقافيّة ارتباط حقوق الإنسان بعقليّة عصر التّنوير وباعتبارها نتاج مجتمع له خصوصيّة معيّنة في لحظة تاريخيّة معيّنة وهو المجتمع الأوروبي بعد الحرب العالميّة الثّانية، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في عام 1948 من وجهة نظر هذا الاتجاه هو عالمي باعتباره مطلبا أو إدعاء ولكنّه ليس عالمي الممارسة لأنّه ميثاق يعبّر عن الفلسفة المثاليّة للسّياسة الأوروبيّة، أيضا وجّه أنصار النّسبيّة الثّقافيّة انتقادا شديدا إلى الاتجاه العالمي فيما يتعلّق بتصوّره للطّبيعة الإنسانيّة والذّات الفرديّة الغربيّة وعالميّة الوجود الإنساني وعقلانيّته، حتّى أن مفهوم الكرامة الإنسانيّة ليس عالمي المعنى والمفهوم ومثال ذلك النّظام الهندوسي الذي يرفض الكرامة الإنسانيّة في الطّبقات الدّنيا، فلا توجد سمات أساسيّة للطّبيعة الإنسانيّة ولا للحقوق الإنسانيّة خارج السّياق الخطابي أو التّاريخي(7).
4 - نقط التعارض بين الخصوصيّة والكونيّة
ممّا هو ملاحظ بأنّ القول بالخصوصيّة الثّقافيّة إنّما هو محاولة لتبرير التّعارضات التي يتمّ تسجيلها بين ممارسات اجتماعيّة خاصّة حول المرأة أو الطّفل أو الإرث أو غيرها ممّا يستلزم حماية هذه الخصوصيّات وتحصينها والدّفاع عن وجاهتها. ومن بين الأمثلة التي يتداولها الدّارسون حول التّعارض بين الكونيّة والخصوصيّة في مجال حقوق الإنسان بعض تقاليد وممارسات التّطهّر عن طريق الإيلام الجسدي في كلّ من البوذيّة والهندوسيّة، وما ماثلها من حدود وعقوبات جسميّة قاسية كقطع اليد، والجلد، والرّمي بالحجارة(8) وضرب الأطفال والنّسوة، وختان النّساء؛ وهي ممارسات تتعارض مع بعض مبادئ حقوق الإنسان كالحقّ في سلامة الجسم، وحظر التّعذيب والإيذاء الجسمي. ومن بين نقط التّعارض بين الخصوصياّت الثّقافيّة الاجتماعيّة والمبادئ الشّمولية، نشير إلى: 
- وصاية الأب على ابنته في التّزويج أو عدمه ممّا يتعارض مع بعض الحقوق والحرّيات التي تسندها شرعة حقوق الإنسان إلى المرأة. 
- ومنها أيضا الحقّ في الاعتقاد الدّيني حيث تحرّم بعض الدّيانات كلّيا على المؤمن أن يتخلّى عن دينه الأصلي ليعانق دينا آخر، ممّا يتعارض مع الحقوق العقديّة للأفراد التي قرّرتها المواثيق الدّوليّة وبخاصّة ما تعلّق منها بحرّية التّفكير والضّمير والمعتقد، والتي نصّت عليها العديد من المواثيق الدّوليّة وبخاصّة في النّص النّهائي الصّادر عن ندوة «هلسنكي» المنعقدة سنة 1975 حيث «تلزم الدّول المشاركة باحترام حرّيات الفرد في ممارسة وتعليم الدّين أو المعتقد وحقّه في أن يتصرّف وفق ما يمليه عليه ضميره» (النّصّ الّصادر عن ندوة هلسنكي غرّة غشت/أغسطس/أوت 1975 المادّة 7)(9).
في المادّة الثّانية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان نجد أن: «لكلّ إنسان الحقّ - دون تمييز، خصوصا من حيث القوميّة أو اللّون أو الجنس أو اللّغة، أو الدّين أو الاعتقاد السّياسي - في التّمتع بكلّ الحقوق والحرّيات المذكورة في هذا الإعلان»(10). ويقابلها في الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان (11) مادّة ورد فيها: «جميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانيّة وفي أصل التّكليف والمسؤوليّة دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللّون أو اللّغة أو الجنس أو المعتقد الدّيني أو الانتماء السّياسي أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات»(12). ومن الواضح أنّ الإعلان الإسلامي يستثني الدّين من هذه الاعتبارات وذلك انطلاقا من النّزوع الكوني والشّمولي للإسلام نفسه من حيث هو دين بل آخر دين، يتوجّه نحو كلّ المؤمنين باللّه.
ونفس الملحوظة نسجّلها عند المقارنة فيما يخصّ مسألة الزواج. إذ يرد في المادّة 16 للإعلان العالمي أنّ: «لكلّ رجل وامرأة بالغين الحقّ في الزّواج وتشكيل العائلة، دونما تحديد عرقي أو قومي، أو من حيث الجنسيّة أو الدّين». بينما تنص المادة 5 من الإعلان الإسلامي على أنّ: «الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع، والزواج أساس تكوينها وللرّجال والنّساء الحقّ في الزّواج ولا تحول دون تمتّعهم بهذا الحقّ قيود منشؤها العرق أو اللّون أو الجنسيّة»، وذلك دون ذكر للدّين لأنّ الدّين الإسلامي يضع قيودا واضحة على الزّواج من غير المسلمات(باستثناء الكتابيات) إذ يشترط عليهن إعلان إسلامهنّ حيث يرد في سورة البقرة: ﴿وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ﴾(البقرة: 221).
من مظاهر التّعارض الواضحة كذلك ما تعلق بمسألة حريّة المعتقد أو حقّ تغييره، تنصّ المادّة 18 للإعلان العالمي على أنّ: «لكلّ أحد الحقّ في التّمتّع بحرّية الفكر والوجدان، والدّين، وهذا الحقّ يشمل حرّية تغيير الدّين أو العقيدة». في حين تنص المادّة 22 من الإعلان الإسلامي على أنّ: «لكلّ إنسان الحقّ في التّعبير بحرّية عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشّرعيّة»، وهذه المبادئ تقوم على الدّعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والشّريعة الإسلاميّة تقف عند مسألة تغيير الدّين موقفا مناهضا كما يعبر عن ذلك الحديث النّبوي الشّريف: «من بدّل دينه فاقتلوه»(13). ويبدو أنّ تحريم مسألة تغيير الدّين، وبخاصّة الإسلام، ترجع إلى حرص الدّولة الإسلاميّة على حفظ الدّين وحمايته من الانحراف أو الارتداد الذي يمكن أن يسبّب ضررا أو خللا في المدينة الإسلاميّة ممّا أوجب منعه وإقامة حكم المرتدّ ضدّ كلّ من جاهر بالخروج منه والكفر به.
من القضايا التي تطرح بصددها العديد من التّعارضات مسألة حقّ التّربية والتّعليم، وهو حقّ يعترف به الإعلان العالمي مثلما يعترف به الإعلان الإسلامي، إلاّ أنّ الإعلان الأول يعطي الأولويّة للوالدين فيما يخصّ نوع التّعليم والتّربية المقدّم للأبناء (المادّة 26 فقرة ح من الإعلان العالمي) في حين تنصّ المادّة المماثلة من الإعلان الإسلامي على «حقّ الآباء» في اختيار نوع التّربية التي يريدونها لأبنائهم. وهناك العديد من القضايا التي يبدو فيها التّعارض كمسألة الحاكميّة أو الحقّ الإلهي في الحكم من المنظور الإسلامي مقابل الشّرعيّة الانتخابيّة والدّستوريّة في النّظام السّياسي الحديث.
       خلاصة القول
نسجل إذن، اختلاف التّصوّرات الفكريّة حول مفهوم حقوق الإنسان، وهو اختلاف نابع من التّعارض القويّ - قد يتّسع وقد يضيق- بين مرجعيتين مختلفتين، ولكلّ منهما حجج تدافع بها لإثبات قدرتها وتفوّقها في مجال التّنصيص على حقّ من حقوق الإنسان، ممارسة نوعا من الاجتهاد والتّأويل والحفر في تراثها للتّكيّف مع السّياق العالمي الذي تفرضه هذه الإيديولوجيّة أو تلك. لكن كلاّ المرجعيتين في مرحلة ثانية، تجد نفسها مدعوّة إلى تحصين نفسها والدّفاع عن ذاتها تجاه حقوق بلا ضفاف وبلا حدود، فتنخرط في عمليّة غربلة للقيم الكونيّة وتسييج لذاتها في نوع من الدّفاع عن الذّات والذّود عن الأصالة وترسيخ الخصوصيّة.
وهكذا يبدو أن النقاش حول مسألة الكونيّة والخصوصيّة لم يبق مجرّد نقاش أكاديمي أو نظري خالص، بل أصبح نقاشا ذا أبعاد سياسيّة محلّيّة (صراع سياسي وإيديولوجي بين النّخبة الحاكمة والمعارضة) ودوليّة (بين دول الشّمال ودول الجنوب في المنظّمات الدّوليّة) وما بينهما. لكنّ ذلك لا يعني أنّه نقاش مفتعل، بل على العكس، فإنّ تلك الصّراعات والآثار السّياسيّة المحلّية والدّولية، إنّما تعكس، في زاوية منها، عمق التّعارض والاختلاف بين الخصوصيّات الثّقافيّة والنّزعة الكونيّة الملازمة لمقولة حقوق الإنسان.
الهوامش
(1) محمد سبيلا، الأصول الفلسفية لمفهوم حقوق الإنسان ، http://www.mohamed-sabila.com 
(2) الاعلان العالمي لحقوق الانسان المادة 2 .
(3)  محمد سبيلا،  جدل الخصوصيّة والكونيّة، http://www.mohamed-sabila.com
(4)   نفسه
(5)  محمد نور فرحات، مبادئ حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية، المجلة العربية لحقوق الإنسان، العدد 01 سنة 1994، ص: 26.
(6) أميمة عبود، الخصوصية الثقافية وسياسات حقوق الإنسان،مقال منشور في موقع، http://www.hewaronline.net
(7) نفسه
(8)  محمد نور فرحات، مبادئ حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية، المجلة العربية لحقوق الإنسان، العدد 01 سنة 1994.
(9)  سبيلا محمد ، مرجع سابق.
(10)  الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 2.
(11)  الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان هو إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام الذي تمّ إجازته من قبل مجلس وزراء خارجيّة منظّمة التّعاون الإسلامي، القاهرة، 5 أغسطس/غشت/أوت 1990
(12)  إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام، المادة 1 -أ .
(13) رواه البخاري(6922)، وأحمد (1871)، والترمذي في سننه (1458)، وأبو داود (4351)، وابن ماجه (2535)، والنّسائي (4059)