بحوث

بقلم
رجاء موليو
الدين ونشأته (2/3)
 الدّين اصطلاحا:
إنّ المتأمّل في تعريف الدّين اصطلاحا سيجد نفسه أيضا  أمام جملة من التّعاريف المختلفة والمتباينة بل والمتناقضة، باختلاف أصحابها وتباين اتجاهاتهم الفكريّة والثّقافيّة والمذهبيّة والدّينيّة، والسّبب في ذلك راجع إلى عالميّة الدّين، فهو أمر مشترك بين مختلف الشّعوب والثّقافات قديمها وحديثها، ومن ثمّ يصعب  إعطاء تعريف ينطبق عليها كلّها.                   
o مفهوم الدّين عند العلماء المسلمين : 
لا نجد تعريفات كثيرة للدّين عند علماء المسلمين الأقدمين، فقد عرّفه التّهانوي(1)في كشّاف اصطلاحات الفنون بقوله:«وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إيّاه إلى الصّلاح في الحال والفلاح في المآل»(2). وعند الجرجاني(3) في كتابه التّعريفات :«وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرّسول ﷺ»(4). 
وقد عرفه أبو البقاء الكفوي بقوله : «وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات قلبيا كالاعتقاد والعلم والصلاة (5). وجاء أيضا بمعنى «ما يعتنقه الإنسان ويعتقده ويدين به من أمور الغيب والشّهادة»(6) وهو تعريف شامل وعام للدّين.
من هنا نستشف العلاقة والرّابط بين جلّ هذه التّعاريف، وهي أنّ الدّين وحي إلهي عقدي تدركه العقول السّليمة، محكوم بواجبات ونواه، ممّا يؤدّي إلى الفوز في الحال والفلاح في المآل، والملاحظ أيضا أنّها تعاريف متقاربة ومتعدّدة لأنّها جعلت كلمة «وضع إلهي» قيدا في جميع التّعاريف، وكأنّهم لا يشملون بتعاريفهم الأديان الوضعيّة الطّبيعيّة كالوثنيّة والبوذيّة والمجوسيّة(...) مع أنّ الخالق في كتابه العزيز سمّاها دينا قال تعالى : ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(آل عمران:85) وكذلك قوله : ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾(الكافرون:6).  
وبعد هذه التّعاريف المختلفة والمتعدّدة للدّين يضع الدّكتور عبد اللّه دراز تعريفا أشمل وأعمّ بقوله: «الدين التي تستعمل في تاريخ الأديان لها معنيان لا غير (أحدهما) هذه الحالة النّفسيّة état subjectif التي نسمّيها التّديّن religiosité (والآخر) تلك الحقيقة الخارجيّة  fait objectif التي يمكن الرّجوع إليها في العادات الخارجيّة أو الآثار الخالدة، أو الرّوايات المأثورة، ومعناها جملة المبادئ التي تدين بها أمّة من الأمم، اعتقادا أو عملا doctrine religieuse وهذا المعنى أكثر وأغلب» (7). 
وهذا التّعريف أعمّ وأشمل وأوسع، لأنّه يتضمّن كلّ المبادئ التي اتخذتها أمّة ما دينا لها، اعتقادا أو عملا، سواء كانت هذه المبادئ من وحي سماوي أو وضع بشري.
الدّين هو: « الاعتقاد بوجود ذات – أو ذوات – غيبيّة – علويّة، لها شعور واختيار، ولها تصرّف وتدبير للشّؤون التي تعني الإنسان، اعتقادا من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذّات السّامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد» وبعبارة موجزة، هو«الإيمان بذات إلهيّة. جديرة بالطّاعة والعبادة» (8).   
انطلاقا من هذا التّعريف يتّضح أنّ الدّين عند عبد اللّه دراز يتمثّل في الإيمان والاعتقاد في ذات علويّة لها خصائصها وشروطها المميّزة لها؛ مع ضرورة الخضوع لكلّ الأوامر والنّواهي التي تنتج عنها.  
ويظهر من التّعريف الإسلامي أمور ثلاثة : 
- إنّ الدّين وضع إلهي، وليس من إحياء النّفس، أو تخيّل العقل، أو تنظيم الإنسان، فمرجع الدّين إلى اللّه سبحانه هو أنزله وأوحى به، كما يقول اللّه تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(البقرة:38).  
- إنّ التّعريف ينصّ على أنّ الدّين عقيدة وشريعة، وليس مجرّد اعتقاد، وأنّه نظام ربّاني لضمان الفوز في الدّنيا والآخرة. 
- بيان الرّبط بين العقيدة والعقل، أنّ الدّين متّفق مع العقل السّليم خلافا لما يقول البعض بالفصل ما بين الدّين والعقل وبين الدّين والعلم، وأنّ الدّين محصور بالأمور الغيبيّة ولا شأن له بأمور الحياة والعلوم(9).
وهكذا نستنتج بأنّ الدّين نظام ربّاني له سمات عالية ومميّزة في تنظيم جلّ أمور الحياة؛ لذا فلا داعي للفصل بينه وبين العقل والعلم أو الحياة لأنّه يدخل في صيرورة متكاملة مع كلّ العلوم الموجودة في الحياة البشريّة باعتباره الحاكم لسلامة الحياة في هذا الوجود.
o مفهوم الدّين عند العلماء الغربيين : 
انطلقت تعريفات الدّين لدى العلماء الغربيين من نظرتهم إلى الكنيسة الكاثوليكيّة وتاريخها في العصور المختلفة وموقفهم منها: 
وفي هذا المجال نرصد بعض التّعريفات المختلفة للدّين ومنها : 
- يقول «شلاير ماخر»: «قوام حقيقة الدّين شعورنا بالحاجة والتّبعيّة المطلقة» (10). 
- ويقول «سيسرون» في كتابه (عن القوانين):«الدّين هو الرّباط الذي يصل الإنسان باللّه»(11).
- ويقول «كانط» في كتابه (الدّين في حدود العقل) :«الدّين هو الشّعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على إلهيّة»(12) 
- ويقول «الأب شاتل»، في كتاب (قانون الإنسانيّة):« الدّين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق، واجبات الإنسان نحو اللّه، وواجباته نحو الجماعة، وواجباته نحو نفسه» (13). ويقول «سلفان بيريسيه» في كتاب (العلوم والدّيانات) : «الدّين هو الجانب المثالي في الحياة الإنسانيّة»(14) (15).
تتنوع التّعاريف التي أعطيت للدّين من طرف علماء الغرب بتنوّع اتجاهاتهم، فكلّ ينظر إليه من وجهة نظره الخاصّة، فكلمة الدّين عندهم تجتمع حول كونه الاعتقاد والتّقديس والتّأليه لقوة أو سلطة غيبيّة سواء كانت روحيّة أو محسوسة مثل الأصنام والتّماثيل والحيوان والنّبات والكواكب والجنّ والملائكة...
 En modernité, une religion se comprend le plus souvent comme un ordre dans lequel est recommandé ce qu’il faut faire et ce qu’il faut croire. La religion à ainsi souvent été définie et contestée comme étant un ensemble de croyances et de pratiques pour un groupe ou une communauté 
«الدين في المفهوم الحديث وفي أغلب الأحيان على أنّه التّرتيب الذي يُنصح به وما يعتقدون، وكثيرا ما تعرف الدين والمتنازع عليها على أنها مجموعة من المعتقدات والممارسات لمجموعة أو لمجتمع».
La religion peut être comprise comme une manière de vivre et une recherche de réponses aux questions les plus profondes de l’humanité
ويمكن فهم الدّين وسيلة للحياة والبحث عن إجابات لأسئلة أعمق للإنسانيّة.
 Mais elle peut aussi être vue comme ce qu’il y a de plus contraire à la raison et jugée synonyme de superstition(16)n  
ولكن يمكن أيضا أن ينظر إليه كما هو أكثر ما يتعارض مع العقل والخرافة.
من خلال هذه النّصوص يتبيّن أنّ الدّين عند علماء الغرب يتميّز بطابع فلسفي ينظر إليه على أنّه مجموعة من المعتقدات أو الأساطير والممارسات التي يتميّز بها كلّ شعب عن شعب آخر، وهو أيضا وسيلة لإجابة العقل وإشباع تصوراته حول كينونة هذا المقدّس، باعتباره نشاطا روحيّا يتجاوز المحسوس والمشاهد، فهو بذلك لا يُدرك إلاّ عن طريق طقوس وإيحاءات تختصّ بها كل جماعة عن أخرى. وجاء في النّسخة الإسبانيّة من ويكيبيديا (17) ما يلي:
La religión es una actividad humana que suele abarcar creencias y prácticas sobre cuestiones de tipo existencial, moral y sobrenatural. Se habla de «religiones» para hacer referencia a formas específicas de manifestación del fenómeno religioso, compartidas por los diferentes grupos humanos. Hay religiones que están organizadas de formas más o menos rígidas, mientras que otras carecen de estructura formal y están integradas en las tradiciones culturales de la sociedad o etnia en la que se practican. El término hace referencia tanto a las creencias y prácticas personales como a ritos y enseñanzas colectivass
ومعناها أنّ:«الدين نشاط بشري يشمل عادة المعتقدات والممارسات المتعلّقة بقضايا وجوديّة وأخلاقيّة وخارقة للطّبيعة. نتحدث عن «الأديان» للإشارة إلى أشكال محدّدة من مظاهر الظاهرة الدينية التي تشترك فيها مجموعات بشرية مختلفة. هناك ديانات يتم تنظيمها بطرق صارمة إلى حدّ ما، بينما يفتقر البعض الآخر إلى بنية رسميّة (ليس لديها هيكل رسمي) ويتم دمجها في التّقاليد الثّقافيّة للمجتمع أو المجموعة العرقيّة التي تمارس فيها. يشير مصطلح الدّين إذن إلى كلّ من المعتقدات والممارسات الشّخصيّة والطّقوس والتّعاليم الجماعيّة». 
o مفهوم الدّين عند علماء النّفس والاجتماع: 
عرف إريك فروم (1900م – 1980م) الدّين في كتابه (الدّين والتّحليل النّفسي) بقوله: «أيّ مذهب للفكر والعمل تشترك فيه جماعة ما، ويعطي للفرد إطارا للتّوجيه وموضوعا  للعبادة» (18). 
فبالنسبة لـ «إيريك فروم» لا يمكن أن توجد حضارة في المستقبل -دون أن يكون لها دين، ذلك لأنّ الإنسان منذ وجوده الأوّل شكّل له الدّين ظاهرة فطريّة وبشريّة لا يمكن المحيد عنها ولا الاستغناء.
وعرّفه «جوردون مارشال» في موسوعته بقوله : «الدّين religion هو مجموعة من المعتقدات والرّموز والممارسات (كالشّعائر مثلا) التي تنهض على فكرة المقدّس، والتي توجد بين المؤمنين بهذه المعتقدات في مجتمع ديني اجتماعي. «والمقدّس» تقابل «العلماني أو الدّنيوي» لأنّ الأوّل يتضمّن مشاعر الخشية والرّهبة» (19). وهكذا عبر «جوردون مارشال» عن الدّين باعتباره الإشارة إلى المقدّس وليس على أساس الإيمان بإله أو آلهة.
جاء تعريف الدّين في قاموس «وبستر الموسوعي المطول» أنّه :«مجموعة معيّنة من الاعتقادات الأساسيّة والممارسات، التي يتّفق عليها بصفة عامّة عدد من الأطراف والطّوائف مثل الدّيانات المسيحيّة»(20). 
أما «سالمون ريناك» فالدّين عنده:«مجموعة من التّورّعات التي تقف أمام الحرّية المطلقة لتصرّفاتنا»(21)، وهو تعريف أقرب للكفر منه للإيمان، وذلك لأنّه حذف فكرة الإله أو الخالق من الدّين، وجعل من الدّين قيودا تُفرض على الإنسان، ممّا يؤدّي إلى ضرورة التّخلّص منه.
وقد وردت كلمة «الدّين» في معجم قوجمان بمعنى דת. (22) 
وأيضا ورد لفظ الدّين في الكتاب المقدّس، فقال الرّب «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ...» (23)   
 « لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ» (24).  
وأنها  «دَانُ، يَدِينُ شَعْبَهُ كَأَحَدِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ»(25)والدين هنا جاء بمعنى الطاعة والخضوع والجزاء والحساب. 
ومن الأمور الغريبة أيضا أن كلمة «دين» religion بمعنى العقيدة لم يأت ذكرها على نحو مطلق في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد...!!! فلم ترد كلمة «دين» في سياق معنى الدينونة أو الحكم أو يوم الدين (...) فقط ولهذا السبب لا يوجد تعريف للدين من منظور الديانتين اليهودية أو المسيحية...» وهكذا !! أغفل الكتاب المقدس تحديد معنى الدين وتخبّط الإنسان في تحديد معناه وسبر معالمه إلى أن انتهى الحال بالغرب بأنّه عجز عن فهم معنى الدّين ومعنى دور وظيفة الدّين في حياته حتّى الوقت الراهن !! (26) 
وخلاصة لما تقدّم ذكره من تعاريف إسلاميّة وغربيّة نخلص، أنّ الدّين هو مجموعة من العقائد والشّرائع والطّقوس التي أوحى بها الخالق عزّ وجلّ إلى النّاس كافة عن طريق رسول مصطفى ومختار، لأجل تنظيم العلاقة بين الإنسان وربه.
الهوامش
(1) التهانوي : باحث هندي له كشاف اصطلاحات الفنون وسبق الغايات في نسق الغايات توفي بعد 1158، الأعلام، ج6، ص : 295.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون، تهانوي، ص : 503.
(3) الجرجاني : عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني ، أبو بكر : واضع أصول البلاغة، كان من أئمة اللغة ، من أهل جرجان له شعر رقيق. من كتبه «أسرار البلاغة « «دلائل الإعجاز» « والجمل»، توفي سنة 471هـ ، الأعلام ، ج.4 ص : 48 – 49.
(4) التعريفات، أبو الحسن  علي بن محمد بن علي الجرجاني، الدار التونسية ، 1971، ص: 56 .
(5) الكليات ، أبو البقاء الكفوي، مؤسسة الرسالة، بيروت 1998، ص : 334.
(6) الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة ، ناصر بن عبد الله القفاري وناصر عبد الله الكريم العقل، دار الصميعي الرياض 1413هـ 1992م، الطبعة الأولى ، ص : 10.
(7) الدين،عبد الله دراز،  ص: 32 .
(8) الدين،عبد الله دراز ، ص: 85 - 86.
(9) مقارنة الأديان الوضعية الهندوسية والجينية والبوذية، طارق خليل السعدي، دار العلوم العربية، الطبعة الأولى 1425هـ - 2005م ص : 10.
(10) مقارنة الأديان الوضعية ، طارق خليل السعدي، ص : 9.
(11) La religion est le lieu qui unit l’homme à dieu.
(12) La religion est le sentiment de nos dévoirs en tant que fondés sur des commandements divis.
(13) L’essence de la religion consiste dans le sentiment de dépendanc absolue.
(14)  La religion … « c’est la part de l’idéal dans a vie humaine.
(15) الدين، محمد عبد الله دراز، ص : 34 – 36.
(16) fr .wikipedia.org/wiki/religion.
(17) Es. Wikipedia.org
(18) الدين والتحليل النفسي، ايريك فروم، ترجمة فؤاد كامل، دار غريب للطباعة (لاظوغلى- القاهرة)، ص: 25 .
(19) موسوعة علم الاجتماع، جوردون  مارشال، ترجمة محمد الجوهري وآخرون، مراجعة محمد الجوهري، الجزء الأول، الطبعة الثانية، سنة 2007م ص : 640.
(20) الإنسان والدين ولهذا هم يرفضون الحوار ..!! ، الدكتور محمد الحسني إسماعيل، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى 1424هـ - 200م، نقلا عن قاموس وبستر الموسوعي المطول، ص : 23.
(21) الإنسان والدين ولهذا هم يرفضون الحوار ..!! ، الدكتور محمد الحسني إسماعيل، ص : 25.
(22) قاموس قوجمان عبري – عربي دار الجيل – بيروت – مكتبة المحتسب، عمان – الأردن. דת:دين ، عبادة، معتقد، قانون، القوانين الدينية.
(23) سفر التكوين : 6/3.
(24) إنجيل متى : 7/1-5.
(25) سفر التكوين : 49/16.
(26) الإنسان والدين، الحسني إسماعيل، ص : 28 بتصرف.