تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
ضبط النفس
 المقدمة 
منذ القدم، كان ضبط النّفس أحد أهمّ ركائز تربية النّفس في المجتمعات، فقد كان يعتبر جزءًا من الثّقافة والتّقاليد اللاّزمة لضمان السّلامة النّفسيّة والاجتماعيّة للفرد والمجتمع. ومن خلال تعليم ضبط النّفس، تمكّنت تلك المجتمعات من تنمية القدرة على التّحكم في العواطف والسّلوكيّات غير اللاّئقة، ممّا أدى إلى تحسين جودة الحياة وتعزيز السّلامة الاجتماعيّة. 
يمكن تعريف الضّبط من النّاحية اللّغويّة بكونها مشتقّة من الجذر الثّلاثي (ض، ب، ط،) ويعني  لُزُوم شَيْءٍ وَعَدَمُ مُفَارَقَتِهِ، وَأَصْلُ الضَّبْطِ: حِفْظُ الشَّيْءِ بِحَزْمٍ، وَضِدُّ الضَّبْطِ: التَّفْرِيطُ وَالتَّضْيِيعُ وَالعَجْزُ، وَمِنْ مَعَانِي الضَّبْطِ أَيْضًا: القُوَّةُ وَالشِّدَّةُ والعِنَايَةُ والحَبْسُ والحَصْرُ والتَّحْدِيدُ (1). أمّا التّعريف الاصطلاحي فيتمثّل في سَمَاعُ الكَلَامِ كَمَا يَحِقُّ سَمَاعُهُ ثُمَّ فَهْمُ مَعْنَاهُ الَّذِي أُرِيد بِهِ ثُمَّ حِفْظُهُ وَالثَّبَاتُ عَلَيْه(2).  ومنه فإنّ ضبط النَّفس عبارة عن سيطرة الشّخص على مشاعره أو رغباته أو أفعاله بإرادته الشَّخصيَّة بهدف التطوُّر والتّحسين الشّخصيّ، والتّصبّر وعدم الانفعال.
عُرفت العديد من المجتمعات القديمة بأهمّية ضبط النّفس وتربية النّفس، حيث اعتُبِر ذلك جزءًا من الحياة الرّوحيّة والثّقافيّة للفرد والمجتمع. ومن بين هذه الحضارات نجد الحضارة الهندوسيّة؛ حيث يعتبر اليوغا جزءًا أساسيًّا من التّربية الرّوحيّة وتعتبر تقنيات اليوغا، مثل التّأمّل والتّنفّس والتّحكّم في العواطف، والتي تهدف إلى تحقيق السّكينة النّفسيّة وتعزيز الوعي الذّاتي. وكذلك الحضارة الصّينيّة؛ حيث يشتهر فنّ الطّاوية الصّينيّة بتعليم التّحكّم في الطّاقة الدّاخليّة للجسم، ويعتبر تدريب الطّاوية جزءًا من التّربية الرّوحيّة الصّينيّة التّقليديّة. كما لا ننسى دور الحضارة الإسلاميّة: حيث يعتبر التّأمّل والتّفكّر والتّأمّل في آيات القرآن الكريم جزءًا أساسيًّا من التّربية الإسلاميّة، ويهدف إلى تحقيق السّكينة النّفسيّة وتعزيز الوعي الذّاتي. وكذلك نجد المجتمعات اليونانيّة: حيث يعتبر التّفكّر والتّأمّل جزءًا أساسيًّا من التّربية الفلسفيّة في اليونان القديمة، ويعتبر فلاسفة مثل سقراط وأفلاطون مؤسّسي التّفكير الفلسفي والتّربوي في اليونان القديمة.
تعدّ هذه المجتمعات من أهمّ المجتمعات التي عرفت بأهمّية ضبط النّفس وتربية النّفس، وأثّرت تلك المفاهيم في الثّقافة والتّربية والفلسفة في العالم بشكل عام. 
في هذا المقال، سنكتشف أهمّية ضبط النّفس كركيزة أساسيّة في تربية النّفس وأثر ذلك في المجتمعات القديمة وتقاليدها في تعليم ضبط النّفس (الجزء الأول) كما سنقدّم بعض أنواعها ولا ننسى النّصائح العمليّة لتحسين هذه القدرة (الجزء الثاني)..
الجزء الأول: 
سنتحدث عن أهمّية ضبط النّفس في مرحلة أولى وتأثير ضبط النّفس في مرحلة ثانية
العنصر الأول: أهمّية ضبط النّفس
يعدّ ضبط النّفس أمراً حيويّاً للنّمو الشّخصي والتّطوّر الذّاتي، فالإنسان القادر على ضبط نفسه يستطيع التّحكّم بتفكيره وعواطفه وسلوكيّاته، وهذا يمنحه القدرة على التّفاعل مع الآخرين بطريقة صحيحة وبنّاءة، ممّا يؤدّي إلى تعزيز العلاقات الاجتماعيّة وتحسين الحياة العامّة.
ومن خلال تحقيق السّيطرة على العواطف والتّحكّم فيها، يمكن للشّخص أيضاً تحسين صحّته النّفسيّة والعاطفيّة والجسديّة، وتخفيف الضّغوط النّفسيّة التي يتعرّض لها بشكل يومي، وهذا بدوره يؤدّي إلى تحسين جودة الحياة وزيادة السّعادة والرّفاهيّة.
بشكل عام، يمكن القول أنّ ضبط النّفس يساعد الإنسان على التّطوير الذّاتي وتحقيق النّجاح في الحياة، سواء في الجانب الشّخصي أو الاجتماعي أو المهني، وهذا يعني أنّه يعدّ أمراً حيويّاً للنّجاح والتميّز في كلّ المجالات.
العنصر الثّاني: تأثير ضبط النّفس
كما أشرنا إلى أنّ ضبط النّفس هو القدرة على تنظيم الأفكار، والعواطف والسّلوك، من خلال إدارة الدّوافع والرّغبات الطّبيعيّة، لكن غالبا ما يدّعي النّاس بأنّهم لا يتحكّمون بشكل كامل في سلوكهم، بل يعتقدون أن جهودهم لن تحدث أيّ فرق، ويعزون فشلهم إلى التّوتّر أو الاستفزاز الخارجي، أو عوامل أخرى مثل الاعتقاد بأنّ الجينات تحدّد مسبقا أفعالهم، وبالتّالي تحدّ من خياراتهم.
وعلى النّقيض من ذلك تماما، فقد أكّدت بعض الدّراسات أنّه عندما يؤمن النّاس بالإرادة الحرّة، بما هي حرّية الاختيار التي تمثّل القدرة على الاختيار بين مسارات العمل البديلة، فإنّهم يتصرّفون بشكل أفضل ممّا كانوا عليه عندما لا يؤمنون بها. وأولئك الذين يؤمنون بقوّة أكبر بإرادتهم الحرّة، يكونون أكثر قدرة على التّعلّم من أخطائهم، بدلا من الخضوع بشكل سلبي للفشل.
تعدّ ثقافة ضبط النّفس وتعليمها من أهمّ القيم والمهارات التي يمكن أن تساعد في تطوير المجتمعات الحديثة، فبما أنّ التّعامل مع الآخرين يعتمد بشكل كبير على السّيطرة على العواطف والتّفاعل بطريقة صحيحة، فإنّ ضبط النّفس يلعب دوراً كبيراً في تعزيز الحوار والتّفاهم وبناء العلاقات الاجتماعيّة الإيجابيّة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ ثقافة ضبط النّفس تلعب دوراً مهماً في مواجهة التّحديات والمشاكل الاجتماعيّة التي تواجه المجتمعات الحديثة، مثل التّوتّر والعنف والتّمييز والتّعصّب، حيث يمكن استخدامها كأداة لتحسين التّواصل والحوار، وتعزيز التّسامح والتّعايش السّلمي بين النّاس.
ومن خلال التّعليم المستمر لضبط النّفس في المدارس والمؤسّسات التّعليميّة والثّقافيّة، يمكن تحقيق تغييرات إيجابيّة في المجتمعات الحديثة وتحسين الحياة العامّة، وتوفير بيئة صحّيّة وآمنة للجميع.
الجزء الثاني:
سنتحدث عن أنواع ضبط النّفس في مرحلة أولى وآليّات ضبط النّفس في مرحلة ثانية
العنصر الأول: أنواع ضبط النّفس
تتنوع أنواع ضبط النّفس وتختلف حسب المنهجيّة المتّبعة، فبينما يمكن لبعض الثّقافات التّقليديّة أن تستخدم التّأمّل والتّركيز كأدوات لتهدئة العواطف وتحقيق السّكينة النّفسيّة، يستخدم العلم الحديث تقنيات مثل التّأمّل الموجّه والتّدريب على التّفكير الإيجابي والتّعرّف على الأنماط السّلبيّة للتّفكير. كما يمكن أيضا استخدام الرّياضة والتّمارين البدنيّة كطريقة لتخفيف التّوتّر والقلق وتحسين الصّحة النّفسيّة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام التّدريب على التّنفّس العميق وتمارين الاسترخاء العضلي لتهدئة الجسم والعقل وتحسين التّركيز والإدراك.
بشكل عام، تسعى جميع أنواع ضبط النّفس إلى تحسين الوعي الذاتي وتحقيق السّكينة النّفسيّة والتّخلّص من الضّغوط النّفسيّة والعاطفيّة المختلفة، وتعزيز الصّحّة النّفسيّة والعاطفيّة والبدنيّة.
العنصر الثاني: آليات ضبط النّفس
يقول «دانييل جولمان» في كتاب الذّكاء العاطفي: «يتطلّب ضبط النّفس الوعي الذّاتي بالإضافة إلى التّنظيم الذّاتي، والمكوّنات الرئيسيّة للذّكاء العاطفي». وإليك جملة الآليّات المتعلّقة بضبط النّفس والسّيطرة على الانفعالات:
1. التّنظيم الذّاتي: أظهرت الدّراسات أنّ الانضباط الذّاتي هو أهمّ مهارة لأيّ نجاح طويل المدى، وقد تكون العادات اليوميّة -الدّائمة والمؤقّتة- مفيدة في تحسين التّنظيم الذّاتي، الذي يسمح لنا بإنهاء ما بدأناه عندما لا نكون في حالة مزاجيّة جيّدة، ويساعدنا على تحقيق أهدافنا بالتّخلّص من الكسل والتّسويف.
2. استخدام الحيل العقليّة: من بين الاستراتيجيّات العقليّة التي يمكننا استخدامها لزيادة ضبط النّفس، هي تبديل الجمل التي نكرّرها يوميّا، والتي تحمل صيغة الإجبار مثل «يجب أن أقوم بترتيب منزلي» إلى «يمكنني ترتيب منزلي». وفي كلّ مرّة نقول فيها لأنفسنا: «لا أستطيع» نحوّلها إلى: «أنا أستطيع»، حتّى لا نصنع عقبات وهميّة تعيق تقدّمنا وتحدّ من قدراتنا.
3. ربط السّلوك بالأهداف: إذ توجه الأهداف اختياراتنا بشكل أساسي، فكلّما كان الهدف أكثر تحديدا، كان بإمكان الأشخاص تحقيقه. فعلى سبيل المثال: بدلا من السّعي وراء هدف «التّمتّع بصّحة جيّدة»، قد يتبنّى الشّخص هدفا يتمثّل في «المشي لمدّة 30 دقيقة يوميّا»، وهو هدف أكثر واقعيّة ويسهل التّحكّم فيه.
4. استخدام المكافآت: تعمل هذه الاستراتيجيّة بشكل أفضل، عندما تكون المكافآت متنوّعة وإيجابيّة، ويتمّ استخدامها بشكل مقتصد بعد تحقيق أي هدف، حيث لا يُنصح بالإفراط في الاعتماد على الطّعام أو التّسوّق أو مشاهدة التّلفزيون كمكافآت.
5. الوعي بالذّات: إذ يعد الوعي الذّاتي الأساس في التّحكّم بالانفعالات والوصول إلى مراحل متقدّمة من الذّكاء العاطفي، فمعرفة الشّخص لجميع جوانب شخصيّته من تصرّفات وسلوكيّات وردود أفعال، سيساعده على التّحكّم بنفسه وقيادتها، والسّيطرة على المواقف والمشاعر المزعجة.
6. تخفيف الإجهاد: فقد وجد الباحثون أنّ الإجهاد يقلّل بشكل أساسي من قدرة الأفراد على ممارسة ضبط النّفس، ويمكن أن ينتج عن اتخاذ القرار في حالة الشّعور بالتّعب والإرهاق عدّة قرارات اندفاعيّة وغير منطقيّة، كان يمكن تجنّبها بأخذ قسط من الرّاحة.
الخاتمة
لئن كان تدريب النّفس يمثّل الشّق الأوّل للتّربية باعتبارها تدريبا على مهارات وعادات إيجابيّة، فإنّ ضبط النّفس يجدر به أن يكون الشّقّ الثّاني لتربية النّفس، فهو مفهوم يشمل القدرة على السّيطرة على ردود الفعل العاطفيّة وخاصّة التّخلّص من العادات السّلبيّة والقدرة على التّحكّم في الأفكار والعواطف والتّصرّفات وذلك في مواقف الحياة المختلفة. وعلى الرّغم من أنّ ضبط النّفس يمكن أن يبدو مهمّة صعبة، إلاّ أنّ هناك العديد من الأساليب والتّقنيات المتاحة للمساعدة في تطوير هذه القدرة. 
الهوامش
(1) تهذيب اللغة للأزهري : (339/11) 
(2)  المحكم والمحيط الأعظم : 8 /175