شذرات

بقلم
د.محمد عمر الفقيه
آيات كريمة تستحق التوقف عندها طويلا
 قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (*) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (*) فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾(النساء: 97-99)
هذه الآيات الكريمة نزلت في الصّحابة الذين آثروا البقاء في مكّة ولم يرغبوا بالهجرة ويلحقوا بالنّبي ﷺ ولم يكن عندهم الاستعداد للتّضحية بمكتسباتهم من بيوت وضياع وأرحام وتجارة، هؤلاء صحابة تتلمذوا على يدي النّبي ﷺ سنوات طويلة، وصلّوا خلفه، وسمعوا القرآن من فمه، وذاقوا أصناف العذاب معه؛ فأيّ مكرمة أعظم من هذه المكرمة ولكنّهم سقطوا في امتحان الهجرة، فاستحقوا هذا الوعيد الشّديد من اللّه، لأنّهم صنّفوا أنفسهم في عداد المستضعفين.
فلماذا كانت الهجرة الحدّ الفاصل بين الحقّ والباطل؟ ولماذا ينظر اللّه هذه النّظرة المقيتة للذين صنّفوا أنفسهم في عداد  المستضعفين في الأرض؟وعلينا ان نسأل أنفسنا من هو المستضعف في الأرض؟ 
فهؤلاء الصّحابة كانوا يمارسون شعائرهم الدّينيّة في بيوتهم ويؤمنون بكلّ أركان الإيمان بقلوبهم، فلماذا استحقّوا وعيد اللّه ومقته وغضبه؟
قال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾(النساء: 97) .
الذي يقرأ هذه الآية الكريمة يجب أن يتوقّف عندها طويلا طويلا ، ويبحث في كتاب اللّه من جديد ليعرف يقينا ماذا يريد اللّه منا. فاللّه غنيّ عن عبادتنا وعن صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وحجنا ، إنّه يريد منّا أن نتمثّل قيم القرآن التي تصنع منا وتصيغ مجتمعا قويّا لا يقبل الذلّ والاسضعاف والاستكانة، القرآن يعرّف الإنسان بحقيقة نفسه وأنّه سيّد هذه الأرض، وأنّ كلّ ما في السّماوات والأرض مخلوق لأجله ومسخّر له؛ لذلك ليس مقبولا عند اللّه أن يعيش الإنسان مستضعفا أو ذليلا أو مستكينا، أو أن يعيش عبدا مستلب الحقوق من الظّلمة والمستبدين.
فالمستضعف هو من لا يحصل على التّعليم المناسب إلاّ بمكرمة، ومن لا يحصل على العلاج المناسب إلا بمكرمة، ومن لا يحصل على حقّه في العمل المناسب إلاّ بمكرمة، ومن لا يستطيع أن يمارس حرّيته الفكريّة (التي منحها اللّه له) إلاّ بمكرمة.
المستضعف هو الذي يعيش في مجتمع طبقي؛ تمتصّ فيه طبقة عليّة القوم دماء أبناء الطّبقة الكادحة وتقضي على أرواحهم وأعمارهم فلا يجدون حتّى الفتات. 
المستضعفون هم الذين يعيشون في مجتمع تحكمه دساتير وقوانين تعزّز الظّلم والقهر والاستعباد.
فهؤلاء هم المستضعفون الذين يهربون من واقعهم ويتسابقون على أبواب المساجد لصلاة التّراويح ويتسابقون لأداء صلاة العيد وينتظرون صوم السّتة من شوال، ويتسابقون للحجز على أوّل رحلة للعمرة !! ولكنهم يستمرِئُون الذلّ والهوان والاستضعاف، لا بل يهلّلون ويحمدون ويسبحون بحمد من يستذلهم ويستضعفهم ويستعبدهم.
أعرفتم من هم المستضعفون الذين نزلت فيهم الآية 97 من سورة النّساء..؟.
الهجرة المطلوبة الآن ليست الهجرة المكانيّة وإنّما هجرة حالة الاستضعاف والذّل والاستكانة إلى حالة القوّة والعزّة والوعي واستعادة الحقوق التي وهبنا اللّه إيّاها من غير منّة من أحد.
فابحث عن نفسك أين تكون ؟
فأين تفرون ؟؟!. اللّهم اجعلنا من الذين يهتدون سبيلا يا رب العالمين .