بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
براءة الشهادة الحلقة الثانية : مفهوم شهد و الشهادة في الفضاء التفسيري
 خصّصنا الحلقة الأولى من هذا البحث(1) في تتبّع ما أثاره أصحاب المعاجم من معان ودلالات عليقة بمادّة «شَهِدَ» متّبعين التّسلسل التّاريخي رصدا لمّا يمكن أن يطرأ من تغيّر على المفهوم من زمن إلى آخر ومن لغوي إلى آخر، مبتدئين بابن فارس، ثمّ الرّاغب الأصفهاني، ثمّ ابن منظور. 
فبالنسبة لابن فارس، فإنّ مفهوم الشّهادة ينهض على معاني الحضور والعلم والإعلام، وهي معان يستوجب أداؤها الحياة بالضّرورة، أمّا تسمية الميْت بالشّهيد فقد أرجعها ابن فارس لا لصفة متعلّقة به، وإنّما لحضور الملائكة عمليّة قتله مسندا الرّأي إلى بعض القوم، وهي إشارة صريحة إلى أنّه رأي غير مجمع عليه ولا هو رأي أغلب اللّغويين. 
أمّا الرّاغب الإصفهاني، فقد أكّد المعاني التي أشار إليها ابن فارس وهي الحضور والمعاينة والعلم بالأمر، وأضاف إلى ذلك معنى اليقين البادي في الإدلاء بالشّهادة والإقرّار بالحُجّة البيّنة عبر النّطق المفيد للعلم، لأنّ الشّهيد هو السّامع والمبصر المشاهد المعتدّ بحضوره،  ولم يشر إلى تسمية القتيل بالشّهيد ولم يلجأ حينئذ إلى تبريرها وتوضيحها. 
وأمّا ابن منظور، فجماع ما ذكره يعود إلى ثلاثة مفاهيم: الأوّل يدور حوْل ما ذكره ابن فارس والرّاغب من أنّ الشّهيد هو الحيّ الحاضر المنخرط في مجريات الأحداث والوقائع. ولذلك هوّ متّصف بالسّمع والبصر. والثّاني أنّ القتيل إذا كان مظلوما أو قدّم حياته قربانا وتضحية من أجل قضية عادلة كالدّفاع عن الأرض أو الشّرف أو المال أو المبدأ، فإنّ صفة الشّهادة تُلحق به من خارج حدث الموت، لأنّه شوهد على هذه الحالة سواء من النّاس أو من الملائكة. وسيشهد هو بدوره على الوقائع الّتي جرت ساعة يُبعث حيّا يوم القيامة. والثّالث هو العنصر المستجدّ الذي لم يكن حاضرا من قبل في المعجميْن السّابقيْن وهو اتّصاف المقتول في سبيل اللّه بالشّهيد لتلقّيه حدث الموت في حدّ ذاته. وهو ما يدعو الدّارس إلى التّساؤل عن سبب تأخّر رواج هذا المفهوم ورسوخه في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة وعن مصادره الثّقافيّة غير القرآنيّة. 
وإذا كان القرآن هو النّصّ الدّيني المؤسّس للمفاهيم لدى المسلمين، فلماذا انزاحت بعض المعاجم عمّا ضبطه هذا النّصّ؟ وهل المفسّرون الأوائل وقفوا على هذا المعنى؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه الحلقة. 
تكرّرت مادّة «شَهِدَ» ومشتقاتها في المصحف ثمان وخمسين ومائة مرّة(2)، وهو عدد لافت للانتباه. ولمّا كان من المتعذّر الإيفاء باستعراض كلّ ما ذكرته التّفاسير في شأنها، فإنّنا نعمد إلى الاقتصار على ذكر أهمّ الآيات الّتي تناولت أبرز المفاهيم الخاصّة بشَهِدَ وشهادة (هذه الحلقة) وشاهد وشهيد (الحلقة القادمة) من خلال التّركيز على نماذج ممثّلة لاتّجاهات مختلفة سُنّيّة ويمثّلها تفسير الطّبري(ت310ه/923م)، وشيعيّة يجسّدها تفسير الطّبرسي (ت548ه/1154م)،  ومعتزليّة يمثّلها تفسير الزّمخشري (ت 538ه/1144م)،
1) مادّة «شَهِدَ»
لقد وردت مادّة «شهد»، ضمن المصحف للمرّة الأولى في سورة البقرة 2 ضمن الآية 185 ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، والطّبري يورد في شرحه لها أنّ الآراء تعدّدت فيها، فمنها إفادة الإقامة في المنزل بوصفها شرطا من شروط الصّيام، ومنها إدراك الشّهر، ومنها أنّ الشّروط الّتي ينبغي توفّرها في من يشهد هذا الشّهر ليصومه هي الصّحة والعقل والبلوغ والتّكليف(3). وأمّا الزّمخشري فيورد أنّ المقصود بهذه الآية هو الشّاهد الحاضر المقيم غير المسافر بوصفه مكلفا بالصّيام. والمقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشّهر(4). ويؤكّد الطّبرسي في تفسيره لهذه الآية أنّ المقصود بمن يشهد الشّهر هو المقيم الّذي يشمله الصّيام وهو غير لازم للمسافر(5). 
وفي عبارة «تشهدون» الواردة في الآية 32 من سورة النّمل(6) يعتبر الطّبري أنّها عبارة مفيدة للتّشاور وتبادل الآراء وتحملا للمسؤوليّة تبعا للبتّ في الأمر(7). وهي عند الزّمخشري مفيدة لمعنى الحضور لاستطلاع الآراء وقد عمدت الملكة إليه من أجل الاستعطاف وتطييب النّفوس(8). وأمّا الطّبرسي فيحصر معنى العبارة في إفادة الحضور لإجراء المشورة (9) .
وأمّا فيما يخصّ عبارة «شَهِدَ» الّتي وردت في صيغة المضارع المنسوبة أوّلا إلى المنافقين وإلى اللّه ثانيا في الآية الأولى من سورة «المنافقون»(10) نُلفيها مفيدة عند الطّبري والزّمخشري معا لمعنى العلم والإقرّار والإخبار، وإنْ أضاف الزّمخشري أنّ الشّهادة المنسوبة للمنافقين إخبار على تواطؤ لأنّ الشّهادة تُجرى مجرى الحَلف فيما يُراد به من التّوكيد والعزم(11). 
وأكّد الطّبرسي هذا المعنى بقوله: من قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب (12) .
واضح أنّ المعاني المتضمّنة في مادّة «شَهِدَ» تحوم بشكل أساسي حوْل الإقامة والحضور والإدراك الواعي وكلّها شروط للتّكليف وتحمّل المسؤوليّة الواعية. ومن توفّرت فيه هذه الصّفات يعتبر شاهدا مهيّأ للاضطلاع بمختلف الوظائف إنْ كانت اجتماعيّة أو شرعيّة سواء كان أداؤها قوليّا أو فعليّا.
2) الشّهادة
وفيما يتعلّق بمفردة الشّهادة الواردة بالآية 19 من سورة الزخرف (13) يورد الطّبري أنّها تفيد التّصريح بالقول والإدلاء بالرّأي، فالمشركون ارتأو أنّ الملائكة بنات اللّه وتلك شهادتهم. والشّهادة من خلال الآية تشترط العلم والمشاهدة، ولذلك تشير الآية إلى أنّهم سيطالبون يوم القيامة بالتّدليل عليها(14). ويدّعم الزّمخشري هذا الفهم الذي أورده الطّبري باعتبار أنّ شهادة هؤلاء هي الجعل والتّسمية واعتبار أنّ الملائكة إناث، وأنّ الشّهادة في هذا المجال باطلة لأنّها لا تستند إلى علم ولا استدلال أو خبر يوجب العلم ولا المشاهدة(15). 
ويذهب الطّبرسي، في هذا المقام، إلى أنّ الشّهادة تستعمل على ضربيْن أحدهما بمعنى الحضور والآخر بمعنى العلم. وكلّ شهادة علم وليس كلّ علم شهادة. والشّهادة مثل التّيقن في أنّه ضرب من العلم مخصوص وليس كلّ علم تيقنا، وإنْ كان كلّ تيّقن علما وكلّ شهادة، إنّما تكون على علم بما تمّ حضوره أو الاستدلال عليه. ومن قال بغير ما لم يحضره استوجب التّوبيخ(16). 
وفي ذات المادّة اللّغويّة المتعلقة باسم الشّهادة الواردة في الآية 8 من سورة النّور(17)، نجد الطّبري يشرحها بلفظة اليمين وهو الحَلف والقسم تأكيدا لصدق القول المتعلّق بدفع التّهمة وإثباتا للبراءة من الزّنى(18). والمعنى ذاته نُلفيه عند الزّمخشري حيث تتجلّى الشّهادة ماثلة في القول الصّادق أمام القاضي(19). 
ومن معاني الشّهادة الإدلاء بالقسم أمام القاضي دفاعا عن النّفس وإبراء للذّمة. وعند الطّبرسي تتنزّل الشّهادة منزلة العلم والقول المكّرر لعبارة أشهد باللّه إنّي لمن الصّادقين فيما ذكرتُ. والشّهادات في هذا المقام تنوب عن الشّهود في دفع عقوبة القذف(20). 
وفي إقامة الشّهادة عند الطّبري والزّمخشري نجد أنّها إدلاء بالحُجّة إذا طُلبت من الرّجل الشّاهد إثباتا للحقّ ودرءا للتّجاحد وإنكار الحقيقة لأنّ الشّهيد الصّادق يُثبت الحُجّة ولو على نفسه. والمعنى ذاته يدعمّه الطّبرسي إذ أكّد أنّ الشّهادة إدلاء بما ثبتت حُجيته إدلاء يراد به وجه الله لا طلبًا لرضا المشهود له أو إشفاقا من المشهود عليه(21). 
ومن ثمّة دارت الشّهادة حوْل المشاهدة العيْنية والإدلاء بالرّأي والتّصريح بالقول النّابعيْن من العلم العميق بحقيقة الأمر، وكلّ شهادة لا ترتكن إلى العلم والاستدلال البرهاني تعدّ شهادة باطلة تستوجب التّوبيخ  على حدّ رأي الطّبرسي. وإذ توسّع الطّبري في تدقيق مفهوم الشّهادة فإنّه شمل لديْه القَسَم المؤكّد لصدقية القول ووضوح المسألة حسما لكلّ اختلاف ودفعا لكلّ لَبس. فالمقيم للشّهادة قادر على البرهنة والتّدليل والإثبات، وكلّ أولئك مهامّ حيويّة لا يضطلع بها إلاّ حيّ  عاقل مدرك مسؤول. 
والخلاصة أنّ الشّهادة بريئة من فكرة الموت إذ انحصر مفهومها في الحضور والمعاينة والعلم فأضحى كلّ من حضر الواقعة شهيدا، سواء من دفع حياته ضريبة لهذا الحضور وهذه المشاهدة، أو من سلم من الموت وظلّ حيّا. وعليه فتسمية الميْت بالشّهيد متأتية مبدئيا من كوْنه شهد الوقائع، وموته، بدوره، يشهد له بذاك.
الهوامش
(1) انظر مجلّة الإصلاح، العدد 191، جوان 2023.
(2)محمّد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الحديث، القاهرة،  ط2، 1988، مادّة «شهد»، ص ص495،492.
(3) الطّبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مج2، تحقيق أحمد عبد الرّازق البكري ومن معه، دار السّلام للطّباعة والنّشر والتّوزيع والتّرجمة، القاهرة، مصر، ط2، 2007،  ص ص 896،894.
(4) الزّمخشري، الكشاف، ج1، شرح وضبط ومراجعة يوسف الحمّادي، مكتبة مصر، القاهرة د ت، ص207.
(5) الطّبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج2، دار المرتضى، بيروت، لبنان، ط1، 1428ه/2006م، ص11. 
(6) ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ﴾.
(7) الطّبري، جامع البيان، مج8، م ن، ص6286.
(8) الزّمخشري، الكشاف، ج3، م ن، ص407.
(9) الطّبرسي، مجمع البيان، ج7، م ن، ص 276.
(10) ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾.
(11) الطّبري، جامع البيان، مج10، م ن، ص8041. والزّمخشري، الكشاف، ج4، م ن،  ص398.
(12) الطّبرسي، مجمع البيان، ج10، م ن، ص14.
(13) ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾.
(14) الطّبري، جامع البيان، مج9 ، م ن،  ص7275.
(15) الزّمخشري، الكشاف، ج4، م ن، ص151.
(16)  الطّبرسي، مجمع البيان، ج9، م ن، ص ص57،56.
(17) ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾.
(18)  الطّبري، جامع البيان، مج 7، م ن، ص5995.
(19)  الزّمخشري، الكشاف، ج 3،  م ن، ص ص 272،271. 
(20) الطّبرسي، مجمع البيان، ج7، م ن، ص ص165،163. دأب الاستعمال التّراثي لمصطلح «القذف» ويُقصد به الاتّهام. والجدير بالملاحظة أنّ القرآن يستخدم فعل «رمى» لإفادة هذا المعنى. وقد استخدم البخاري مصطلحيْ الرّمي والقذف في مقام واحد. انظر البخاري، الصّحيح، م ن، باب: رمي المحصنات، ص1377.
(21) الطّبري، جامع البيان، مج 10، م ن، ص ص8075،8074. والزّمخشري، الكشاف، ج 4، م ن، ص414. والطّبرسي، مجمع البيان، ج10، م ن، ص32.