في الصميم

بقلم
نجم الدّين غربال
سبل الحدّ من الفقر المنطلقات-السياسات-المآلات
 أفرزت تحاليل ظاهرة الفقر، التي رُشّحت طيلة القرنين الماضين، نتائج ساعدت على رسم معالم سُبل للتّعاطي مع الظّاهرة اتبعها صُنّاع القرار دُوليّا ومحليّا لضبط سياساتهم تجاهها. وقد تعدّدت تلك السّبل وتنوّعت، وكوّنت بثرائها وتراكمها رصيدا هامّا يُمكن الاستفادة منه للتّصدي لظاهرة الفقر، خاصّة بعد استفحالها، نتيجة جائحة كورونا والحرب الرّوسيّة الغربيّة التي لا بوادر في الأفق لانتهائها.
وبالعودة لتحاليل ظاهرة الفقر يمكن إقرار ما توصّلت اليه من أنّ الفقر ليس مجرّدَ حرمان ماديّ بل يشمل أيضا أبعادا نفسيّة واجتماعيّة، فنفسيّا يحسّ من يقع في شراك الفقر بالدّونيّة ممّا يجعله يفقد الإحساس بالانتماء للعنصر البشري، واجتماعيّا يحسّ بالعزلة باعتباره «لم يستطع أن يكون طرفا في المجتمع أو في المجموعة التي ينتمي إليها»(1) ممّا يهدّد السّلم الاجتماعي.
وقد اعتبر «جون ستورت ميل» الفقر «إثما اجتماعيّا» نظرا لأنّه «ناتج عن عدم إعطاء أيّ اعتبار للإنسان»(2) ممّن يملكون مقاليد أمور المجموعات البشريّة، في حين اعتبره «كارل ماركس» نتيجة لوجود النّظام الاقتصادي الرّأسمالي بمسار إنتاجه ونمطه وهيكلته «غير العادلة» وبهدفه القاضي بمراكمة الأرباح والحفاظ على سيطرة رؤساء الأموال على وسائل الإنتاج.
وانطلاقا من هذه التّحاليل تمّ اتباع سبُل للتّصدي للفقر، فقد عمل من إعتبره مشكلا اجتماعيّا على بلورة عقد اجتماعي لعله ينجح في احتواء الفقر الاّ أنّ أزمة 1929 وما نتج عنها من تفشّ للفقر أظهرت فشل هذا العقد الذي كان يفتقد لأرضيّة قيميّة تُعطي للإنسان اعتبارا، وأمّا من اعتبره مشكلَ نظام اقتصادي، فقد عمل على خوض صراع اطلق عليه «صراع الطّبقات» أتى على الأخضر واليابس ببعده عن فلسفة التّدافع ومقاصد حفظ النّفس والنّوع والمال، وتجلّى ذلك في حرب عالميّة ثانية عمّقت مشكلة الفقر وزادتها حدّة.
I- سبيل «الرّفاه» 
لمواجهة الفقر الناتج عن الحرب نشأت «دولة الرّفاه» في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية كما صاحبها تصوّرات، منها الوصف الذي أطلقه «وليام تمبل» رئيس أساقفة كانتبري العام 1941 «بأنّ دولة الرّفاه بديل لدولة السّلطة التي يحكمها الديكتاتور والتي تنجز وظائفها الأخلاقيّة والرّوحيّة في تعزيز الرّفاه الإنساني»(3)
وقد سبق للاقتصادي «ألفراد مارشال» ريادة توجّه قضى بالانتقال من ثقافة الكنيسة الى ثقافة أخرى علميّة، ليؤسّس ما أُطلق عليه «اقتصاد الرّفاهة المادّية والمعنويّة في آن واحد»(4)، فالرّفاه المادّي يتحقّق من خلال النّشاط الاقتصادي وانفاق ما ينتج عنه من دخل لتوفير الكفايات، أمّا الرّفاه المعنوي فيحصل بمجرّد القيام بما يُعرف بـ «الواجب» تُجاه المجموعة التي ينتمي اليها الفرد.
ومن أدوار «دولة الرّفاه» توسيع الضّمان الاجتماعي، وتركيز الخدمات في القطاعين التّطوّعي والمهني، وتأسيس شبكة خدمات اجتماعيّة وذلك لرفع مستوى معايير الصّحة والتّعليم والإسكان وغيرها.
ولتعزيز «دولة الرّفاه» تمّ الاعتماد على سياسات خمس ذكرها «أيان عوف» وهي التّصنيع والمصالح والمُؤسّسات والأفكار –الايديولوجيا والتّأثيرات الدّوليّة (5)  
ورغم إتباع سبيل الرّفاه إلاّ أنّ ظاهرة الفقر لم تسلم منها لا الولايات المتّحدة الأمريكيّة ولا الدّول الأوروبيّة، أمّا بقية الدّول فقد زادت ظاهرة الفقر فيها استفحالا، خاصّة تلك الّتي بقيت تدور في فلك الدّول الغربيّة وأسيرة إطار سياساتها الدوليّة العامّة كما سنبيّن لاحقا.
وكمحاولة للاستجابة لاحتياجات الناس الضرورية تخفيفا لوطأة الفقر ، ظهر سبيل الاحتياجات الأساسية حين أعلن عن استراتيجيته مؤتمر العمالة العالمي لمنظمة العمل الدّولية سنة 1976 فما هو هذا السّبيل وهل نجح فيما أخفق فيه سبيل الرّفاه؟
II- سبيل «الاحتياجات الأساسية» 
اكتست الاحتياجات الأساسيّة أهمّية في تعريف الفقر وقياسه حيث اعتمدها البنك الدّولي في تعريفه للفقر باعتباره «عدم القدرة على تحقيق الحدّ الأدنى من مستوى المعيشة»(6)علما أنّ «الحدّ الأدنى» نسبيّ يختلف من بلد الى آخر.
 وتضمّ القائمة التّقليدية لـ «الاحتياجات الأساسيّة» المباشرة الطّعام والماء والمأوى والملبس(7) وتؤكّد القوائم الحديثة على أنّ الحدّ الأدنى لهذه الاحتياجات يشمل أيضا الصّحة العامّة والتّعليم والرّعاية الصّحية.
 ويهدف نهج الاحتياجات الأساسيّة الى القضاء على الفقر من خلال اتباع سياسة تمكين الفقراء من الاستهلاك بدرجة كافية ليتجاوزوا خطّ الفقر وذلك عبر حصولهم على مقدار لازم من الدّخل، وقد تمحورت هذه السّياسة حول العيش والاستهلاك دون العدالة، واعتمدت الدّخل كوسيلة لذلك، واتخذته مؤشّرا لمعرفة إن كان الفرد فقيرا أم لا.
III- سبيل «الموارد البشريّة» 
بعد استمرار حالة الفقر على ما هي عليه بعد اتباع سبيلي الرّفاه والاحتياجات الأساسيّة تغيرت النّظرة للإنسان لِيُصبح موردا أكثر من أنّه عبئا، ورأس مال أكثر من أنّه تكلفة، رأس مال بشري يقابل رأس المال المادّي لِتُصبِحَ النّظرة للإنسان نظرة اقتصاديّة بحتة ويتمّ تقييمها نقديّا على قدر إنتاجها ومكانتها على قدر تفاعلها في دوران عجلة النّشاط الاقتصادي وفي تنمية رأس المال، فالإنسان  ما هو الاّ مورد بشريّ وهو وسيلة وليس غاية، وسيلة الى تحقيق التّنمية الاقتصاديّة والتي بموجبها حسب أصحاب هذا الطّرح نضمن تدفّقا دائما للسّلع والخدمات بما يلبّي حاجات النّاس، فالنّظر الى العنصر البشري لم يصبح من منظار آلي أو أداتي اقتصادي فحسب وإنّما أيضا من منظار إنساني باعتباره أصلا ذا قيمة عالية.
وقد رشّح هذا التّصور للإنسان من مفهوم التّنمية الذي ساد لعقود طويلة واختصرها في التّنمية الاقتصاديّة فرُوّاد هذه التّنمية انشغلوا بالثّراء المادي واعتمدوا نهجا محوره الاقتصاد واعتبروا أنّ سياسة زيادة الدّخل من خلال زيادة النّمو الاقتصادي هي الضامنة لاحتواء الفقر.
ولكن حين نقابل نسب النّمو الاقتصادي في مناطق العالم المختلفة باعتباره ركيزة أساسيّة تمّ اعتمادها لمعالجة الفقر سواء في إفريقيا والشّرق الأوسط أو في آسيا وأوروبا وأمريكا بنسب الفقر التّقديريّة لسنة 2015 التي وضعها البنك الدّولي، وننظر للآثار الواقعيّة للنّمو الاقتصادي على الحدّ من الفقر نجد «أنّ النّمو الاقتصادي الذي يدفع الى الحدّ من الفقر المدقع مازال مخيّبا للآمال»(8) ونتأكّد أيضا من صحّة ما توصّل اليه البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في تقرير التّنمية البشريّة لعام 1996من أنّ أنواعا من النّمو الاقتصادي غير مجدية بل مفرزة للبطالة والتلوث والاقصاء، وبالتّالي منتجة للفقر لا مُحاصرة له.
وأمام هذه التّقييمات الموضوعيّة لا يمكن الاّ الإقرار بعجز السّياسة التي سادت لعقود طويلة وأنتجت نموا اقتصاديّا وعجزت عن الحدّ من الفقر.
وفي تفاعل مع ذلك ظهر مفهوم جديد للتّنمية، منذ عام 1990 ، عُرف بالتّنمية البشريّة باعتبارها «مسار توسيع الامكانات والخيارات المعروضة على الأفراد»(9)وأنّ أبعادها الأساسيّة تتمثّلُ في «طول العمر والمعرفة ومستوى عيش لائق»(10)والمُتَضَمِّنَة في مؤشّر التّنمية البشريّة.
وقد مهّدت التّنمية البشريّة لما أصبح يعرف اليوم بـ «التّنمية المستدامة» التي لا تكتفي باتباع سياسة تحقّق النّمو الاقتصادي بل تصاحبها بسياسات تحدّ من الفقر وأخرى تُحقّق الاستدامة البيئيّة باعتبارها محرّكات ثلاثة لها، ولكن أي سبيل اهتدى اليه المجتمع الدّولي للحد ّمن الفقر بعد أن اتبع السّبل سابقة الذكر؟
IV- سبيل «التّمكين الاقتصادي» حسب البنك العالمي
منذ تسعينات القرن الماضي، أصبح لمصطلح «التّمكين الاقتصادي» استعمالا مُؤسّساتيّا على المستوى الدّولي، حيث تمّ استعماله من طرف التّنظيمات الدّوليّة الأمميّة والماليّة على غرار الأمم المتّحدة والبنك العالمي وذلك في سياق الحديث عن التّنمية المستدامة.
وقد اعتبر البنك العالمي أنّ « تقوية أصول الفقراء هو السّبيل ليتمكنوا من أن يصبحوا فاعلين ناجعين في السّوق»(11)معتمدا على الفرضيّة القائلة بأنّ الوصول الى الموارد الماليّة يكفي للتّمكين الاقتصادي للمرأة والفقراء عموما.
 واعتمادا على هذه الفرضيّة يرى البنك أنّ مضاعفة القروض الصّغرى وبنسق تصاعدي هي الآليّة لتحقيق ذلك التّمكين.
وقد أوجدت «التّنمية البشريّة» بيئة مُلائمة للـ«تّمكين الاقتصادي» باعتبارها تنمية تنشأ نتيجة لسياسات داعمة للفقراء تقوم على الاستثمار في الصّحة والتّعليم وتأمين فُرص العمل اللاّئق وتحقيق التّوازن بين الجنسين والإنصاف في توزيع الدّخل.
كما يتطلّب تعبيد سبيل «التّمكين الاقتصادي» وضع سياسات تُحقّق «النّمو الشّامل»، كقاعدة انطلاق جديدة لمواجهة الفقر، تمّ تبنيها كبديل عن النّمو الاقتصادي الذي خيّب آمال كلّ من عوّل عليه للحدّ من الفقر آخرهم البنك العالمي(12). 
ويشترط تحقيق «النّمو الشّامل» وضع استراتيجية لنمو اقتصادي محرك للتشغيل وشمولية للتمويل دون اقصاء لمن يحتاجونه وتخصيص استثمارات في أولويّات التّنمية البشريّة مع القيام بتدخّلات متعدّدة الأبعاد عالية التّأثير ومحقّقة للمكاسب للجميع.
استنتاجات عامّة
مما سبق بلورته يمكن استنتاج ما يلي:
• لن تُحقِّقَ سياسات أي سبيل يفتقد لأرضيّة قيميّة تُعطي للإنسان اعتبارا، أو يتّجه نحو إلغاء الآخر أو ينطلق من اعتبار الإنسان كلفة أو موردا لن تُحقّق اختراقا لمعضلة الفقر عالميّا ومحليّا ومآل كلّ سبيل من هذه السبل مُخيب لآمال الحد من الفقر.
• يعتبر اختراقا لافتا لمعضلة الفقر عالميّا كلّ من:
-  إقرار البنك العالمي منذ سنة 2016 بأنّ دور النّمو الاقتصادي في الحدّ من الفقر بقي مخيبا للآمال 
- ما عدّده البرنامج الإنمائي للأمم المتّحدة منذ سنة 1996 من أنواع للنّمو الاقتصادي المولدة للفقر بدلا للثّروة 
- اهتداء المجموعة الدّولية الى ضرورة تحقيق «التّنمية البشريّة» واتباع سبيل «التّنمية المستدامة» وتفعيل محرّكاته الثّلاثة من نمو اقتصادي محرّك للتّشغيل والحدّ من الفقر والاستدامة البيئيّة. 
• يُعتبر تبني البنك العالمي لسبيل «التمكين الاقتصادي» للفقراء سبيلا واعدا خاصة وأنه يعمل على توفير عوامل ستّة لها من فرص الاستثمار والتّمويل الملائم والشّراكات الذّكيّة وكذلك البنية التّحتيّة والاستثمار في المصاحبة والدّعم وايضا في تقوية الثقة في الذات والامكانات وقدراتها على الولوج الى السوق، ولكن يبقى سبيل «التمكين الاقتصادي» محدودا ما لم ينتقل من محورية التمويل الى محورية الانسان.
وبعد بيان سُبل الحدّ من الفقر التي تمّ إتباعها منذ أكثر من قرن، منطلقاتها والسّياسات التي اعتمدتها ومآلاتها نبحث في العدد القادم عن فُرص الحدّ من الفقر والتحدّيات التي تعترضه خاصّة أمام نجاح دول وإخفاق أخرى في الحدّ من الفقر ونبحث عن مكامن الضّعف والقوّة فيما تمّ اعتماده من سياسات، إن شاء اللّه.
الهوامش
(1) Economists and Poverty From Adam Smith to Amartya Sen P24/Edition: Daniel Rauhut, Neelambar Hatti and Carl-Axel Olsson /VEDAMS – New Delhi /https :books.google.tn
 (2) نفس المصدر، ص 61 
(3)كتاب «الرفاه» ص 116 لماري دالي ترجمة عمر سليم التل ومراجعة سعود المولى،المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات
(4) B.Webb(1938),My Apprentices hip,Harmonds worth,Perguim Books,Vol1,P153
(5) كتاب «الرفاه»، مصدر سابق، ص 135
(6) تقرير البنك سنة 1990: «كيف نقلل الفقر»
(7)   Denton, John A. (1990). Society and the official world: a reintroduction to sociology. Dix Hills, N.Y: General Hall. P17
(8)  تقرير البنك العالمي لسنة 2016
(9) تقرير التنمية البشرية للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لسنة 1997 ص 15
(10) المصدر السابق ص 14
(11) تقرير البنك العالمي لسنة2001-2002 ص
(12) تقرير البنك العالمي لعام 2016