نحو أفق جديد

بقلم
أ.د.عبدالجبار الرفاعي
أثر رؤية المفسِّر للعالَم في التفسير
 مفتاحُ تفسير كلّ كتاب هي الكتاب ذاته، لأنّ نصوصَه مضاءٌ بعضها بالبعض الآخر، سواء كان كتابًا مقدّسًا أو غيره. آياتُ القرآن الكريم تفسِّر إحداها الأخرى، وذلك ما دعا أكثر من مفسِّر مجتهد لتبنى تفسير القرآن بالقرآن. ويُعَدّ هذا المنهج من أدقّ مناهج التّفسير الموروثة، غير أنّ من اعتمده لم يكن استثناء، فكان اختياره لتفسير آيةٍ بآية وكلمةٍ قرآنيّة بآية وآيةٍ بكلمة يخضع لرؤيته للعالَم وتكوينِه المعرفي ومعتقده. ولا يعني ذلك أنّ المفسِّرين المجتهدين الذين اعتمدوا هذا المنهج لم يحرصوا أشدَّ الحرص على الوفاء لمنهجهم المعتمد في تفسيرهم. إذ نراهم يهتمّون بإضاءة مدلول الآيات بالآيات، ويشدّدون على استنطاقها بنظائرها، ويعودون أحيانًا إلى الآيات المفتاحيّة الكبرى في القرآن فيطبّقونها على آيات تمثّل مصاديقَ لها، ويحاولون اقتفاء أثر الدّليل ويعملون على التّمسك بالحجج المنطقيّة ما أمكنهم ذلك، ومع ذلك نرى أثرًا واضحًا لرؤية المفسِّر للعالَم وتكوينه المعرفي ومعتقده في هذا النّوع من التّفسير. 
تتعدّدُ تفاسيرُ القرآن الكريم وتتنوّعُ بتعدّد وتنوّع المفسِّرين وعصورهم. مفتاحُ تحليل كلِّ تفسير دراسةُ شخصيةِ المفسِّر وتكوينِه المعرفي والإطار المرجعي لتفكيره ورؤيتِه للعالَم. الحيادُ التام في الفهم غيرُ ممكن، المفسِّرون الذين أعلنوا تمسكَهم بالحياد في التّفسير تعذّر عليهم ذلك، لم يتمكّنوا من تطبيق ما أعلنوا عنه وما ينشدونه. تحكّمت في تفسيرهم عواملُ متعدّدة، بعضُها ظاهر وحاضر في الوعي وبعضُها مستتر غاطس في اللاّوعي. تجلّت في تفسيرهم: رؤيتُهم للعالَم، ونمطُ تكوينهم المعرفي، وثقافتُهم، ومسلّماتُهم، وأفقُ انتظارهم. 
المفسِّرون المجتهدون علماء يفكّرون بعقل عصرهم ويتحدّثون لغةَ زمانهم وبيئاتهم وثقافاتهم، تخضع آراؤهم لمشروطيّات اللّغة والزّمان والمكان والبيئة والحضارة، فهمّهُم اجتهاداتٌ زمانيّة وليس فهمًا أبديًّا يتعالى على أيّة مشروطيّة تاريخيّة. هم أنفسُهم تعاطوا مع تفسيرات المفسِّرين من قبلهم بوصفها آراء اجتهاديّة نسبيّة تعبّر عن العصر الذي ظهرت فيه.     
النصُّ مرآةٌ ينعكس عليها تكوينُ المفسِّر المعرفي وبيئتُه التّربويّة ومختلفُ الظّروف السّائدة في المكان والزّمان الذي يعيش فيه.كأنّ المفسِّر يرى صورتَه في النصِّ، وهي تتلوّن بمسلّماته وأحكامه السّابقة ورؤيته للعالَم، ويتشكّل معناها في ضوء ما يرسمه أفقُ انتظاره. 
لا يمكن أن نستثني من ذلك أيَّ شكل من أشكال التّفسير، فسواء كان التّفسيرُ عقليًّا اجتهاديًّا، أو نقليًّا مرويًّا، أو إشاريًّا صوفيًّا، تحضر بصمةُ المفسِّر لتطبع تفسيره، كلُّ تفسير يحمل توقيعَ المفسِّر وطريقةَ فهمه، مهما حاول المفسِّر أن يتجرّد ويكون موضوعيًّا متحررًّا من كلِّ أثر لذاته وما حوله. 
لا يتحرّر التّفسير من بصمةِ المفسِّر وفهمِه الخاصّ مهما كان. تفسير القرآن بالقرآن، الذي يُظن بأنّه التّفسير الوحيد الذي يتحرّر من ذات المفسِّر، لأنّه تفسيرٌ ينتقل فيه المفسِّر من القرآن إلى القرآن، يخضع لهذه المعادلة، إذ ليس بوسع المفسِّر أن يتخلّص من مسلّماتِه ورؤيتِه للعالَم والإطارِ المرجعي لتفكيره، عند انتخاب آيةٍ لتفسير آية، أو انتخاب ِكلمة قرآنيّة لتفسير آية أو كلمة أخرى. 
التّفسيرُ الرّوائي بالمثل ليس استثناء من بصمة ذات المفسِّر. في هذا الصّنف من التّفسير قد يقال: إن المفسِّر لا يتدخّل، لأنّ هذا التّفسير ليس سوى بيانٍ لمعنى ما يفسّره من الآيات في ضوء الأحاديث المرويّة التي يختارها المفسِّر، لكنّ الحيادَ التامّ للمفسِّر الرّوائي متعذَّر، لأنّ انتخابَ المفسِّر لروايات دون سواها، مع وفرة وغزارة الرّوايات في مدوّنات الحديث، يحيل إلى معتقده ورؤيتِه للعالَم وأفقِ انتظاره وإطارِ تفكيره ومسلّماتِه وأحكامِه السّابقة. وإلى ذلك يعود الاختلافُ الواسع في التّفاسير الرّوائيّة، واستنادُ كلِّ مفسِّر إلى نوعٍ معين من الرّوايات المفسِّرة لكلّ آية وبيانِ مضمونها. في ضوء هذا الفهم يمكن تصنيفُ التّفسير الرّوائي بوصفه أحدَ أشكال التّفسير بالرّأي، على وفق المصطلح المعروف في أنواع التّفسير، طبعًا في مستوى معيّن من الرّأي، ونعني به الرّأيَ الذي يظهر في انتقاء روايات معيّنة لتفسير الآية واستبعاد غيرها. 
تنكشف ذاتُ المفسِّر في كيفيّة تلقّي ما يفسّره في ضوء رؤيته للعالَم والإطار المرجعي لتفكيره، فلو كان المفسِّر متكلّمًا، يكتسي تفسيره صبغةً كلاميّة، ولو كان فقيهًا يكتسي تفسيره صبغةً فقهيّة، ولو كان عارفًا يكتسي تفسيره صبغةً عرفانيّة، ولو كان فيلسوفًا يكتسي تفسيره صبغةً فلسفيّة، ولو كان أديبًا يكتسي تفسيره صبغةً أدبيّة... وهكذا.
هناك تأثيرٌ متبادَل بين رؤية المفسِّر للعالَم والعلم الذي يتخصّص فيه وبين عمليّةِ التّفسير، يتفاعل ذلك العلمُ مع تخصّص المفسِّر، ليتطوّر في طور جديد يثريه ويتكامل به، بعد توظيف المفسِّر لعلمه في حقل التّفسير. العلوم تنمو وتتطوّر من خلال اتساع مجالات تطبيقها في حقول جديدة، إذ يكشف التّطبيقُ عن ثغراتِها ويُعلن عن عيوبها، ويحذف أخطاءَها. 
في تفسيرٍ واحد كتفسير المنار، الذي جمع آراءَ الأستاذ وتلميذه يتمايز كلٌّ منهما عن الآخر بوضوح. استوعب الشّيخُ محمد رشيد رضا دروسَ أستاذه الشّيخ محمد عبده في التّفسير بتفسيره هو، يلوح للقارئ أنّ فهمَ رشيد رضا وتفسيره مختلفان عن فهم أستاذه وتفسيره.
ويمكن للباحث أن يكتشف الاختلافَ بين تلامذة أستاذٍ واحد في فهم وتفسير الكتاب الكريم، فمثلًا نرى الاختلافَ لدى تلامذة الشّيخ أمين الخولي، ففي الوقت الذي تمثّل محمد أحمد خلف اللّه نهجَ أستاذه الخولي في أطروحته للدّكتوراه، أخفقت تلميذتُه وزوجتُه عائشة عبد الرّحمن المعروفة ببنت الشاطئ في أن تتمثّل ذلك النّهجَ في تفسيرها، وكانت أشدَّ وفاءً لماضي التّفسير منها إلى متطلّبات الواقع، ولم تجسّد ما كان يتبناه أستاذُها أمينُ الخولي في التّفسير، ودعوتَه لتوظيف مناهج التّأويل الحديثة والهِرْمِنيوطيقيا. 
في حين يتجه بعضُ تلامذة الخولي لمغامرة ركوبِ سفينة علومِ الإنسان والمجتمع الحديثة ومناهجِ التأويل والهِرْمِنيوطيقيا، ويجازف بتطبيقها في التّفسير في مجتمع تقليدي، ويتعرّض إلى هجمة عنيفة، كانت عائشةُ عبدالرحمن تغرق في أمواج التّراث، وكأنّها غفلت أو تجاهلت دعوةَ شيخها للتّجديد في صدر قوله: «أوّل التّجديد قتل القديم فهمًا»، فغرقت في العجز: «قتل القديم فهمًا»، وتشبّعت بالقديم أعمالُها، بلا أن نقرأ فيها ملامحَ للجديد، وحتّى أعمال تلامذتها ورسائلهم في الدّراسات العليا، التي كانت ترشدهم إليها وتشرف عليها، ظلّت مسكونةً بالقديم أيضًا. وكأنّ بنتَ الشّاطئ لم تشأ أن تتورّط في الخروج على المناهج الموروثة للتّفسير، خوفًا من ردود الأفعال، لأنّ ما تلقّته أطروحةُ خلف اللّه من هجومٍ عنيف جعل كلَّ تلامذة الخولي يفكّرون طويلًا قبل أن يترسّموا نهجَ أستاذهم التّجديدي. وربّما لم تدرك عائشةُ عبدالرّحمن بعمق مأزقَ التّفسير الموروث، وما كان يرمي إليه أستاذُها الخولي من تحريرِ المعنى القرآني من رؤية المفسِّر القديمة للعالَم، ووضعِ هذا المعنى في سياقِ لغةٍ تكتشف المتطلّباتِ الرّوحيّةَ والأخلاقيّةَ والجماليّةَ للمسلم اليوم. 
  التّجديدُ شديدُ الوطأةِ على النّفس والمشاعر والمصالح، لا يستسيغه إلاّ عقلٌ شجاع، وإنسانٌ يمتلك قدرةَ المغامرة في الخروج على المألوف الذي يحتمي به نفسيًّا، ومستعدٌّ لدفع ضريبة موجعة أحيانًا. لذلك لم يكن موقفُ بنت الشّاطئ غريبًا، فقد تكرّر هذا الموقفُ لدى كثيرٍ من التّلامذة الذين عجزوا عن تمثّل النهج التّجديدي لأساتذتهم، فوقفوا خارجَ آفاق رؤية الأستاذ، وركنوا إلى التّراث ليتشدّدوا في استئنافه كما هو، وهذا ما نراه ماثلا في النّزوع السّلفي للشّيخ محمد رشيد رضا بعد رحيل أستاذه الشّيخ محمد عبده.