فواصل

بقلم
د.عماد هميسي
التعايش السلمي في التصوّر القرآني وأثره في ترسيخ القيم الحضارية (الحلقة الثانية: معني الحضارة في الد
 أ- لغة: قال ابن منظور: والحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي. والحاضر المقيم في المدن والقرى والرّيف، سميت بذلك لأنّ أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لها قرار. والبادي: المقيم بالبادية.
- الحضارة: الإقامة في البدو، والحاضر والحاضرة: الحي العظيم، والحاضر: ضد المسافر(1). 
وجاء أيضا في تاج العروس:«والحضر محركة والحضرة بفتح وسكون، والحاضرة والحضارة بالكسر عند أبي زيد. ويفتح عند الأصمعي خلاف البادية والبداوة والبدو»(2). 
إذن الحضارة في عرف اللّغة كما رأينا ترتبط بالحضر والعمران، أي أنّ المصطلح من ناحية اللّغة العربّية ذاتها يحمل المعنى الاجتماعي وذلك عند اعتبار الحضارة علامة على الحضور والإقامة والاستقرار. وهذه كلّها تحمل معاني اجتماعية. فإذا سكن النّاس واستقرّوا، نشأت بينهم صلات اجتماعيّة أكثر وسُبل التّعاون، وارتبطت مصالحهم، واتجهوا إلى بناء المدن والإبداع والانتظام والتّنظيم. فالحضارة في جذرها اللّغوي تعني جانب الثّبات والاستقرار وتركّز عليه. معنى ذلك أنّه ليس شرطا أن يكون لتلك الحضارة تاريخ مجيد تليد أو تقدّم علمي، ولكن كلّ من يسكن في مكان ويستقر فيه فهو من أهل الحضارة، وعندما يجتمع النّاس في مكان واحد تكون لهم قوانين يسيرون عليها ويتّفقون، وتكون نابعة عن تقاليدهم وعاداتهم. ولذا يظهرون بمظهر واحد منسّق ومنظّم، فتكون حضارتهم عن مجموعة الخصائص الاجتماعيّة والخلقيّة والتّقنيّة الشّائعة لديهم دون غيرهم، حتّى وإن يكن متقدّما من النّاحية العلميّة. وبناء عليه، فإنّ كلمة حضارة تعني في مجملها الاستقرار، ولهذا الاستقرار ملامح وخصائص، ولقد عرّفوا الحاضر بأنّه عكس البادي الذي لا قرار له (3). 
ب: اصطلاحا: قبل التعرف على معنى الحضارة لابّد من معرفة أنّ مفهوم الحضارة من المفاهيم الحديثة والمعاصرة وتعاني من إشكاليات كثيرة، لأنها انبثقت من مدارس ومفكرين متخصصّين وعلماء في شتى العلوم الإنسانية، وتباينت تكويناتهم وعقائدهم وآراؤهم ومجتمعاتهم.
«لم يتفق المهتمون في هذا المجال على مفهوم محدّد يصلح لكلّ الحضارات وينطبق عليها، لاختلافها من حيث النّشأة والخصائص والظّروف والثّقة والدّور الذي أدّته (4). 
يرى بعض العرب المحدثين أنّ الحضارة هي عقائد دينيّة أنزلها اللّه تعالى في كتبه السّماوية. فهم يرون أنّ اللّه تعالى عندما خلق الإنسان علمه كيف يعيش وأوحى إليه حقائق الدّين والأدب الأساسيّة، وأصبح كلّ شعب على درجة من المدنية والنّجاح، يختلف باختلاف ما اكتسب من الاعتقادات الدّينية والأنظمة المدنيّة والسّياسيّة والأخلاق والصّناعة وانتشار الأدب والعلوم، وما أحرزه من مظاهر الحياة الاجتماعيّة. 
فالدّين حسب هؤلاء هو أحسن واسطة لتهذيب الشّعوب، وأن الحضارة لا تنبعث إلاّ من العقيدة الدّينيّة، وينبغي أن نبحث في أيّ حضارة من الحضارات عن أصلها الدّيني الذي بعثها. والحضارة لا تظهر في أمّة من الأمم إلاّ في صورة وحي يهبط من السّماء، يكون للنّاس شرعا ومنهاجا، أو هي على الأقل تقوم أسسها على توجيه النّاس نحو معبود غيبيّ بالمعنى العام، فكأنّما قدر الإنسان ألاّ تشرق عليه شمس الحضارة حتّى يميد نظره إلى ما وراء حياته الأرضيّة (5). 
وعليه يعدّ مفهوم الحضارة من أكثر المفاهيم التي أُخضعت لعمليّة متواصلة من التّلبيس والتّسوية وطمس الدّلالات بصورة أدّت إلى تحويل المفهوم إلى صفة ذات أبعاد قيميّة تفتقد الماهية والمصداقية. بحيث أصبح المفهوم يُطلق على أشياء وعمليّات ونظم وأنساق وأفكار متعارضة مختلفة، ليس في مقاصدها ونتائجها وغاياتها فحسب وإنّما في عناصرها ومكوّناتها أيضا، مّما اقترب بهذا المفهوم إلى مثل مفاهيم الحداثة والتّقدّم والرّقي إلخ..، وذلك على الرّغم من أهمّية هذا المفهوم ومحوريّته في الحركة الإنسانيّة من حيث وصفها وتكييفها وبيان ماهيتها ووجهتها. وعلى الرّغم من أنّه يعدّ المفهوم الأساس لكثير من العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة مثل علم الأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم الاجتماع الحضاري، وعلم النّفس وعلم التّربية... سواء باعتباره المكوّن الأساسي لبنية العلم أو أنّه الغاية التي ينشدها العلم أو المفهوم الذي يدور حوله (6). 
وكان من أعظم من تناول مفهوم الحضارة بالشّرح والتّحليل العلاّمة الجليل عبد الرحمن ابن خلدون، فقد بلور مفهومها على أنّها: « ذلك النّمط من الحياة المستقرّة الذي يقتضي فنونا من العيش والعلم والصّناعة، وإدارة شؤون الحكم وتوطيد حياة الدّعة وأسباب الرّفاهيّة (7). 
فقد رأى ابن خلدون أنّ النّاس حين تخطّوا في كسبهم للمعاش ماهو ضروري، وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرّفه دعاهم ذلك إلى السّكون والدّعة، وتعاونوا على الزّائد على الضّرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس والتّأنق فيها، وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتّحضّر. ثمّ تزيد حالة الرّفه والدّعة فتجيء عوائد التّرفّه البالغة مبلغها في التّأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والدّيباج ومعالاة البيوت والصّروح وغير ذلك، هؤلاء هم الحضر، ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان (8). 
فابن خلدون هنا يشير إلى المرحلة الأخيرة التي تمرّ بها الدّولة أو المجتمع عندما تتفكّك العصبّية وتضمحل قوّة الرّابطة التي تجمع بين النّاس على بناء المجتمع، فيصير في حالة التّرف التي أشار إليها في مقدمته. فالحضارة بهذا التّعبير الخلدوني درجة من التّقدّم تبلغها المجتمعات(9). ويقول «ول ديورانت» في هذا الصدد: « الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزّيادة من إنتاجه الثّقافي، وإنّ الحضارة تتألّف من أربعة عناصر: الموارد الاقتصاديّة والنّظم السّياسيّة والتّقاليد الخلقيّة ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق» (10). 
الملاحظ أنّ «ول ديورانت» ينظّر إلى الحضارة من جهتين، من جهة أنّها نظام اجتماعي يقدّم الإنسان القدرة على تحقيق إنجازات ثقافيّة، ومن جهة أخرى أنّها مرحلة من مراحل التّقدّم البشري تكون فيه الحياة الإنسانيّة تتّجه نحو التّنظيم لما تتوفّر لها مجموعة من العناصر (11). 
ويقول «رالف لنتون» أيضا: «الحضارة مجموعة منظّمة من الاستجابات التي تعلّمها الأفراد وأصبحت مميّزات مجتمع معيّن» (12). 
فالحضارة والمجتمع يتّصلان ببعضهما عن طريق الأفراد الذين يكوّنون المجتمع، ويفصح سلوكهم عن نوع حضارتهم.
وجاء في كتاب «قيم حضارية في القرآن الكريم» أنّ الحضارة هي: «الحصيلة الشّاملة للمدنيّة والثّقافة، وهي مجموع الحياة بصورتيها المادّية والمعنويّة. فإذا قلنا إنّ هذا المجتمع متحضّر أي قد حذق ألوانا من المعرفة ثمّ ترجمها بالعمل إلى واقع ملموس» (13). 
ومجمل القول إنّ الحضارة عبارة عن عدد من الإنجازات الملموسة التي يكون لها تأثير في جميع المجالات الحياتيّة سواء كانت السّياسة أو الاجتماع أو الدّين. وتعتمد الحضارة الإنسانيّة المختلفة على بعضها البعض، ذلك أن كلّ حضارة جاءت متمّمة للحضارة التي سبقتها ممّا ساهم في البناء الحضاري للعالم بأكمله.
الهوامش
(1)  ابن منظور: لسان العرب - 4/ 194 + 197 - مادة حضر.
(2) الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس - 11/ص.ص 39-40.
(3) الحسن (بدران): في مفهوم الحضارة- مجلة نوافذ: اتجاهات فكرية- 1424ه/ 2003م- ص52 إلى 55.
(4) عبيد (طه خضر): الحضارة العربية الإسلامية- دار الكتب العلمية- ط1- 1433 هـ/ 2012م- ص13. 
      عارف (نصر محمد): الحضارة- الثقافة- المدنية- المعهد العالمي للفكر الإسلامي- 1414هـ/ 1994م- ص15.
(5) بن نبي (مالك): شروط النهضة- ترجمة عبد الصابور شاهين- دار العروبة- ط2- 1961م- القاهرة- ص.ص67-68
(6) عارف (نصر محمد): الحضارة- الثقافة- المدنية- ص15.
(7) ابن خلدون: المقدمة- دار الفكر- 1998م- بيروت-ص 69.
(8) المصدر نفسه- ص132.
(9) الحسن (بدران): في مفهوم الحضارة، ص 52 إلى 55
(10) ديورانت (ول): قصة الحضارة- ترجمة زكي نجيب محمود- لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة- 1/1949.
(11) الحسين (بدران): في مفهوم الحضارة- 52 إلى 55.
(12) لنتون (رالف): شجرة الحضارة- ترجمة أحمد فخري- مكتبة الأنجلو مصرية- 1/65.
(13) سبع (توفيق): قيم حضارية في القرآن الكريم- دار المنار للنشر والتوزيع- 1984م- القاهرة- ص.ص25-26.