مقالات مترجمة

بقلم
بن عيسى الدمني
الإسلاميون الأتراك في اختبار السلطة البلدية إنتاج فضاءات، ممارسة حكم وإدارة مجتمعات محلية (1/3)
 مقدّمة
في سنة 1973، شهدت (تركيا)، لأول مرة في تاريخها العلماني، فوزَ حزب ذي توجه إسلامي ـ هو «حزب السلامة الوطني» ـ بالانتخابات البلدية في حوالي ثلاثين مدينة. كان الوصول إلى السلطة على المستوى الوطني، آنذاك، غير متاح إلا عن طريق عقد تحالفات عرجاء فاقدة، في الغالب، لمقومات الديمومة. وكان الوزن الانتخابي المحدود للأحزاب التركية ذات التوجه الإسلامي لا يؤهلها لأن تهتم بالشأن البلدي بشكل كبير. بينما كان الانخراط في الشؤون المحلية يبدو للإسلاميين أقل تعقيدا، وكانت مسألة المشاركة في «المنظومة» تمثل حجر عثرة ضمن الجدل الذي كان يدور بينهم أثناء تلك المرحلة. ذلك التوجه أخذ في الترسخ بعد انقلاب 1980 بالتوازي مع صعود «حزب الرفاه». وهو الحزب الذي لم يقم بصياغة برنامج خاص بالبلديات، لكنه خاض حملتيْن انتخابيتين؛ الأولى كانت الحملة البلدية لسنة 1994 والثانية حملة الانتخابات التشريعية لسنة 1995. وقد رفع شعاره المعتاد الداعي إلى إقامة «نظام عادل». كان فوزه في الاقتراعين المذكورين مؤشرا على حصول زيادة كبيرة في قاعدته الانتخابية داخل المدن: فبعد أن كان حضوره منحصرا، فيما مضى، داخل أوساط التجار وأصحاب الصنائع الصغرى في المدن المتوسطة الواقعة في مناطق (الأناظول) الوسطى والشرقية، استطاع الحزب أن يحقق اختراقا لافتا في أوساط المهاجرين، وكذا في الضواحي المحرومة التابعة للحواضر الكبرى، واكتسح أكبر المدن في البلاد. وقد تسنى للأحزاب الإسلامية أن تبقى في السلطة ضمن البلديات إلى حدود 2008(1)؛ بينما كانت نجاحاتها في المستوى الوطني (خصوصا في انتخابات 1995 التشريعية) تصطدم بإجراءات انتقامية صدرت عن المؤسسات: فقد أقدم «انقلاب ما بعد الحداثة» في فبراير/ شباط 1997(2)، على حلّ «حزب الرفاه» قضائيا سنة 1998 بالاستناد إلى تهمة الإساءة إلى العلمانية، ثم وقع حلّ وريثه «حزب الفضيلة» للأسباب ذاتها سنة 2001، فتولى خلافته على التوالي حزبا «السعادة» و»العدالة والتنمية». أراد الحزب الأول أن يكون وريثا للتقاليد الإسلامية، إلا أن الأصوات التي تحصل عليها في الانتخابات البلدية لسنة 2004 لم تتعدَّ نسبة 5 بالمائة، ولم يحقق أي فوز في البلديات الكبرى. في حين نجح «حزب العدالة والتنمية» ـ وهو إصلاحي رافض للصفة الإسلامية ـ في الإفادة من التجربة التي خاضها «حزب الفضيلة» ومن المواقع البلدية التي تحصل عليها. فبعد أن حقق فوزا مريحا في الانتخابات التشريعية لسنة 2002، تجاوز حجم الأصوات التي كانت لصالحه في انتخابات 2004 البلدية نسبة 40 بالمائة من مجموع أصوات الناخبين؛ وهو ما أهله للفوز بزهاء 70 بالمائة من المجالس البلدية.
ما يُعد أمرا استثنائيا في (تركيا) هو أن تلك التجارب وقعت في وقت مبكر، وأنها قد عمّرت زمنيا. لذلك كانت البلديات ملاذا أساسيا للجهاز التنظيمي الإسلامي، خصوصا أثناء فترة تعرضه للإقصاء على المستوى الوطني في السنين الممتدة بين 1997 و2002. فمن خصائص المؤسسة البلدية أنها تتيح لأي حزب الوصول بصورة فعلية إلى موارد متنوعة (من قبيل الوظائف، والمساكن، والمساعدات الاجتماعية، والحصول على تكاليف النضال، والرواتب المتنوعة، وربما تمويل الحزب عن طريق عقد الصفقات العمومية...). هذا ما جعل الأحزاب الإسلامية تظهر في البداية في المستوى البلدي باعتبارها مشاريع سياسية تسعى إلى احتلال مواقع داخل المؤسسات. على هذا الصعيد، تشكلت أيضا نخبة قوية ومتمرّسة استطاعت أن تكسب مشروعية إدارية(3) في غياب تجربة للمشاركة الحكومية. فَـ «حزب العدالة و التنمية» هو بالفعل الحزب الذي يمتلك أكبر عدد من صُنّاع القرار الوطني الذين اكتسبوا خبرة أولى داخل البلديات - في مقدمتهم [...] طيب أردوغان - الذي كان تولى رئاسة بلدية (إسطنبول) عن «حزب الرفاه» (1994ـ 1999).
في ظل ما تقدم من معطيات، يقتضي تحليل هذه الظاهرة، التي لم تحظ إلى حد الآن إلا بعدد قليل من البحوث المتخصصة، مراجعةَ حوالي خمسة عشر عاما من الممارسة الإسلامية للسلطة البلدية، ضمن تشكيلات حزبية ووضعيات سياسية متنوعة (في الحكومة وفي المعارضة على المستوى الوطني). ففي أواسط تسعينات القرن العشرين، اجتاح الإسلاميون البلديات بالاستناد إلى خطاب مبني على القطيعة، لأنهم وقفوا ضد «نظام» اعتبروه ظالما قمعيا وفاسدا(4). وقد استفاد «حزب الرفاه»، على صعيد آخر، من تبدُّد الأوهام التي كانت لدى الناخبين حول الأحزاب القائمة. لكن لنا أن نتساءل، في المقابل: هل أبرز وصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة البلدية طرق إدارة حضرية جديدة؟ وهل اتسمت السياسات التي توختها البلديات الإسلامية بخصوصيات ما؟ إذا كان الجواب بنَعَم، فما تلك الخصوصيات؟ وهل كانت حقا مرتبطة بالإسلام؟ إن غايتنا هي التمكن، في هذا المدخل المتعلق بممارسة السلطة، من توضيح مدى اتسام «حزب العدالة والتنمية» بالصفة الإسلامية. وسنستهل بحثنا بدراسة مكانة الإسلام في السياسات الحضرية للبلديات الإسلامية، ثم نقوم بدراسة ممارسات الحكم الجديدة التي وقع اعتمادها، وننتهي إلى دراسة الائتلافات الاجتماعية التي استندت إليها البلديات وما أنتجته من تشكيلات للسلطة المحلية.
الدّين في قلب سياسات الإسلاميّين الحضريّة؟
إن وصول فِرَقٍ إسلامية لمواقع الإدارة البلدية أتاح فرَصا لممارسة سياسة «رمزية» يمكن تعريفها بأنها سياسة تستخدم التمثل وسيلة لتثبيت علاقةِ سلطةٍ أو لتغييرها(5). فالمجالس البلدية الأولى الموالية لِـ «حزب الرفاه»، التي وقع انتخابها في سنة 1989، أعلنت دائما اختلافها عن الفِرَق التي سبقتها بسبب قطيعتها مع «منظومة» قائمة ومع ممارسات دأبت على معارضتها. وقد كان ذلك يحصل عن طريق تحركات ذات «سَمْت» نضالي بارز. إذ حاول بعض رؤساء البلديات أن يضعوا الهوية الرسمية، الكمالية والحداثية، موضع تساؤل. فصاغوا خطابا منطلقا من مرجعيات عثمانية ومن حس إسلامي ذي نبرة معادية للعلمانية وللغرب أحيانا. وقامت البلديات المنتسبة إلى «حزب الرفاه» بوسم الفضاءات الحضرية بميسم مسلم: إذ أعيد الاعتبار لعدة معالم عثمانية وسلجوقية؛ ووقعت تحلية بنيات مدينتي (إسطنبول) و(أنقرة) بمساجد ذات طراز معماري متميز. وأدخِلت تغييرات عديدة بإطلاق أسماء الأعلام، خاصة على الشوارع؛ مما أدمج عددا من رجال التصوف المسلمين ومن الأعلام العثمانيين الكبار في المشهد الحضري. إلا أن أشد المبادرات استهدافا للنظام الجمهوري لم تعمّر طويلا: فقد وقع التخلي عن مشروع لإقامة مسجد ضخم في ساحة (تقسيم) التي تعد رمزا للجمهورية و»الحداثة»؛ واتخِذ قرار بالتراجع عن مشروع لتحويل معْلم (آية صوفيا) (الذي كان نوعا من المتحف) إلى مسجد، وفقا لما نص عليه برنامج «حزب الرفاه» في انتخابات 1991 التشريعية(6). أما في مدينة (ريزا) [من ولاية طرابزون]، فقد اتخذت البلدية قرارا يقضي بإطلاق اسم (ضياء خورشيد) على أحد الشوارع الرئيسية في المدينة، [إشادة بأحد أبنائها] الذي كان نائبا في أول جمعية وطنية، ووقعت محاكمته ثم أعدِم شنِقا في سنة 1926  جراء مشاركته في تدبير محاولة اغتيال ضد (مصطفى كمال)(7)؛ لكنّ حصول عدد من ردود الأفعال الحادّة ضد ذلك القرار أدى إلى تراجع البلدية عن مشروع التسمية المقترَح. إن تلك التدابير الرمزية ربما تبدو غير ذات معنى، خصوصا وأن أشدها جرأة لم ير النور قط. غير أن كثرتها قد أسهمت في تغيير صُوَر «المألوف»(8) بأن أبرزت للعيان عناصر ثقافية ودينية أكثر من ذي قبل، على حساب المشروع الجمهوري.
مسألة أخلاق
يدافع الإسلاميون الأتراك عن فكرة تنشئة المجتمع أخلاقيا. من هذا المنظور، ظل بعض رؤساء البلديات التابعين لـ «حزب الرفاه» يحاولون باستمرار تغيير أنماط الحياة. وكان نشر الأخلاق، بالنسبة إلى ذلك الحزب، يستدعي محاربة «الانحرافات»، والتركيز على قمع تعاطي المخدرات. ظهر ذلك في شكل إرادة لتنظيم توزيع مواد التدخين، والكحول بشكل أخص، وتنظيم استهلاكها. فقد حاولت عدة بلديات تحديد بيع الكحول، عن طريق حظره في المطاعم المرتبطة بالبلديات على وجه الخصوص، أو التضييق في إسناد التراخيص التي تخوّل ذلك. ومن أول التدابير التي اتخذها رئيس بلدية دائرة (بيوغلو) في (إسطنبول) المعروفة بوجود أماكن اللهو فيها، إصداره أمرا في سنة 1994 بسحب الطاولات من أسطح الحانات والمطاعم. كان الهدف الرسمي من ذلك الإجراء عدم استفزاز المعوَزين بمشاهد الترفيه البعيد عن منالهم؛ لقلة ذات اليد. لكن الهدف الحقيقي كان الحد من المجاهرة بالممارسات «المَعيبة». وقد تراجعت البلدية عن قرارها أمام التهديد الذي أصدره أصحاب تلك المحلات بعدم دفع ما في ذمتهم من مستحَقات. وتحت ضغط أعمال احتجاجية من ذات القبيل، عدلت ذات البلدية عن مشروعها القاضي بغلق محلات الهوى بِـ «الحي الأحمر»، رغم كونه يحظى بالترخيص. أما بعض المبادرات التي كانت تهدف إلى إحداث فصل جنسي في وسائل النقل العمومي أو إلى إلزام المريضات من النساء بأن تقع معالجتهن حصرا من قبل نساء، فقد ظلت أيضا بلا أثر يُذكَر، واصطدمت في بعض الحالات باعتراض كوادر «حزب الرفاه» (9).
ضمن ذات المنظور المتشوّف إلى نشر الأخلاق، حاول بعض رؤساء البلديات القيام بـ «تطهير الأمواج»: فقد رفض رئيس البلدية التابع لِـ «حزب الرفاه» في مدينة «أغري»، الواقعة شرق البلاد، الموافقة على تسليم تراخيص استغلال لفائدة قنوات تلفزيونية كانت تبث، انطلاقا من فضاءات إشهارية(10)، برامج اعتبرها ذلك الرئيس «غير أخلاقية». وأمر بعضُ رؤساء البلديات بإزالة تماثيل متسمة بـ «خلاعة مبالغ فيها»؛ إلا أن معظم المحاولات التي سعت إلى نصب تماثيل أكثر لياقة، باءت بالفشل أمام صيحة الاستنكار الساخط والمتهكم، التي أثارتها تلك المحاولات في الأوساط الليبرالية الكمالية.
إنتاج فضاءات حضريّة محافظة
إن تلك السياسات لم تقتصر على البعد الرمزي والأخلاقي، بل تدخلت أيضا في إنتاج الفضاءات الحضرية وفي تنظيمها. في هذا المجال، كان النظام الجديد واضحا في إعطاء الإسلام مكانة أهم، وذلك مثلا من خلال تهيئة الحياة اليومية بما يتناسب مع الواجبات الشعائرية. من ذلك أن رئيس بلدية (قيصري) التابع لِـ «حزب الرفاه»، جعل النقلَ العمومي مجانيا في أيام الأعياد الدينية(11).
و قد وقع بناء مساجد جديدة حتى في أحياء العلويين(12) مثل حي (غازي) بِـ (إسطنبول). وبعد أن عينت مخططات التهيئة في مدينة (غازي عثمان باشا) فيما بين عامي 1994 و 1999، أكثر من سبع مواقع لتكون فضاءات خضراء؛ وقع تخصيص تلك المواقع، كليا أو جزئيا، وبدون تنظيم استشارة، لاستعمالات تغلب عليها الصبغة الدينية والحزبية: على غرار إنشاء معهد ديني، أو مسجد، أو مدرسة قرآنية(13). وقدّم المجلس البلدي المنتمي إلى «حزب الرفاه» في مدينة (قونية)  دعما ماليا لفائدة مبيتات طلابية تابعة لمؤسسات دينية، يعلم الجميع أن بعضها مرتبط بجمعيات غير قانونية. وقامت البلديات التابعة لِـ «حزب الرفاه» بتجهيز المراكزَ الرياضية الجديدة بقاعات لأداء الصلاة(14).
اقترن ذلك التشجيع على الممارسة الدينية بنشر بعض القيم التي يمكن وصفها بالمحافظة، كتلك التي تُمجّد صورة الأم، وبقاء المرأة في البيت. وقد أغلقت بعض البلديات مكتبات ومراكز تربوية مخصصة للنساء وعوّضتها، في الغالب، بمدارس قرآنية. ونظرا إلى أن تلك الهياكل كانت مستقلة عن البلديات، فقد قام مناضلون ينتمون إلى «حزب الرفاه» بأعمال قصد مضايقتها: من ذلك أن نسوة محجبات قمن باحتلال محلات مراكز التكوين طوال اليوم، وأخذن في التلاوة والدعاء بصوت مرتفع للحيلولة دون مزاولة الأنشطة فيها(15). تلك النزعة المحافظة ظهرت أيضا في شكل مضاعفة فضاءات عمومية خصصت لارتياد العائلات: مثل الحدائق وساحات اللعب وينابيع المياه، ومحلات الأكل العمومية التي تتيح توزيع وجبات الطعام خاصة في مناسبات العبادة. وكان النهوض بأنواع أخرى من البنيات الأساسية، مثل المراكز الرياضية أو مبيتات الطلبة، دليلا على العناية بتأطير الشباب. فقد ساهمت كل تلك الفضاءات في حركة اجتماعية كانت تجري في كنف قيم محافظة(16). من ناحية أخرى، ساندت بعض البلديات  التابعة لٍـ «حزب الرفاه» مشاريع سَكَن اجتماعية مستجيبة للمتطلبات الدينية، و مراعية للحرمة العائلية، وقع الفصل فيها ماديا بين العائلات والأعازب. وقد وقع بناء المنشآت بطريقة لا يُطلّ فيها أي مطبخ أو غرفة على فضاء عمومي(17). تلك المشاريع، حتى وإن لم ير بعضها النور، أظهِرت إلى أي مدى يمكن لتصورات مخصوصة تتعلق بالحياة داخل المجتمع، أن تكون قادرة على تحديد سمات فن التهيئة الحضرية، وحتى على تطويره.
مع ذلك، تجدر الإشارة إلى حصول تطورات محسوسة في مستوى رؤية الإسلام. فقد كانت التجارب البلدية الإسلامية الأولى (و بخاصة تلك التي خاضها «حزب الرفاه») هي الأكثر راديكالية من منظور رمزي و ديني. لكن منذ أواخر تسعينات القرن العشرين، تراجعت الرؤية بالنسبة إلى هذين البعدين. يرجع ذلك إلى عدة أسباب منها: أولا أن بعض مبادرات قلب الفضاءات الحضرية رمزيا، أو أسلمتها، أثارت لدى الرأي العام ردود أفعال بلغت قدْرا من الحدة، وجعلت المنتخَبين يتخلون عنها. وقد كان بعضها أيضا موضوع تتبعات عدلية، وصدرت بشأنها أحكام قضائية: فقد وقعت إقالة أول رئيس بلدية تابع لِـ «حزب الرفاه» في مدينة (قيصري) من منصبه، والحكم عليه بخمسة أشهر سجنا لأنه نقل تمثال (أتاتورك) النصفي من موقعه. ثانيا: بالإضافة إلى تلك العقوبات والتراجعات الفردية، ثمة أسباب أخرى أدت إلى ذلك التراجع؛ منها تزايد الرقابة وتعميمها على الإسلاميين من قبَل بعض المؤسسات العسكرية والقضائية أساسا. حصل ذلك إثر انقلاب 1997 الافتراضي؛ حيث كانت آثار تلك الرقابة حاسمة في «تحديث» «حزب العدالة و التنمية»؛ إذ أخذت قيادته على عاتقها، تبعا لذلك، مراقبة مبادرات ذات صبغة دينية واضحة واستفزازية، اتخذتها بعض البلديات التابعة للحزب. من ذلك أن بلدية دائرة (توزلا) بِـ (إسطنبول) قامت بنشر صفحة إعلانية استنكرت فيها المصافحة بين الرجال والنساء، واستعمال وسائل منع الحمل، وبرّرت ـ على أساس ديني ـ تعدد الزوجات وتزويج النساء منذ بلوغهن سن التاسعة. فجاء رد فعل قيادة «حزب العدالة و التنمية» سريعا؛ إذ قامت بإصدار توصية داخلية ألزمت فيها البلديات بالكف عن نشر أي مكاتيب دينية، وذكّرتها بأن إصدار الفتاوى لا يندرج ضمن قائمة صلاحياتها(18). كان ذلك الموقف متميزا، بشكل جليّ، عن ذلك الذي كان اتخذه «حزب الرفاه» حين لم تستنكر قيادته بالمرة المواقف التي اتخذتها المجالس البلدية التابعة له حتى عندما قام رئيس بلدية (سينكان) (وهي أحدى دوائر العاصمة أنقرة) في سنة 1997 بتنظيم «ليلة القدس» وقام، في تلك المناسبة، بتزيين المدينة بمعلقات «حركة حماس» و«حزب الله»، وسمح للسفير الإيراني بإلقاء كلمة؛ وهو ما تسبب في تدخل كتيبة من المدرعات حلت بوسط المدينة للقيام بـ»مناورة عسكرية». إن حرص قيادة «حزب العدالة والتنمية» على تحييد الشريحة التي برزت في بعض البلديات وفي غيرها على أنها أشد تميزا بالصفة الإسلامية داخل الحزب، كان، في حقيقة الأمر، أكبر من حرصها على مراقبة بلدياتها. أما العامل الأخير الذي أدى إلى إضعاف البعدين الرمزي والديني، فقد كان وضع الإسلاميين بعد وصولهم إلى قيادة البلديات: فمنذ سنة 1999، وبشكل أكبر في سنة 2004، تحوّل مَن كانوا، في بدايات التسعينات، يترشحون على قاعدة التنافس الانتخابي، إلى فِرَق قائمة الذات تبحث عن سبل إعادة انتخابها في ذات المواقع، ولو بعنوان جديد. لقد وقع استبدال خطاب القطيعة الأصلي بحملات انتخابية اعتمدت على حصيلة الإنجازات وعلى وعود بإدارة فعّالة. على خلاف الأحزاب السابقة، تخلى «حزب العدالة والتنمية» عن الأيديولوجيا وتبنى برنامجا إصلاحيا قدمه على أنه تعديل تقني يهدف إلى الاستجابة لمقتضيات العالم المعاصر؛ وعلى الأخص لمقتضيات الحكم الرشيد(19). لكن ما مرتكَزات تلك الحصيلة من الإنجازات؟ وهل أبدعت الأحزاب الإسلامية فعلا ممارسات جديدة للحكم؟
الهوامش
(1) إيليز ماسيكار: هي مكلفة ببحوث في المركز الوطني للبحث العلمي [بفرنسا] (CNRS)، دراسات تركية وعثمانية (EHESS)، وباحثة مشاركة في العلوم السياسية بمركز الدراسات والبحوث الدولية (CERI). وهي تشتغل على علم الاجتماع السياسي لٍـ (تركيا) المعاصرة، وعلى الأحزاب السياسية وإعادة تشكلات السلط المحلية تحديدا. من مؤلفاتها المنشورة: (تركيا) الأخرى. الحركة العلوية ومضاربها (باريس، المطابع الجامعية بفرنسا (PUF)، 2005)؛ «اختلاف توجهات الحكم بين الأحزاب البلدية»، المجلة الأوروبية للدراسات التركية (عدد بحثي «أن نكون حزبا بلديا في (تركيا) المعاصرة»( (« Differences in Role-orientation among Turkish MPs », European Journal of Turkish Studies (numéro thématique : Being a MP in Contemporary Turkey ), 3, 2005, http://www.ejts.org/document499.html)؛ «بين الوسيط و»رجل الشرف»: المهارة و مآزق الوجهاء في (تركيا)»، بوليتيكس  (67، 2004، ص. 101 ـ 127)؛ «جهوية مستحيلة، نظام جهوي مستبعَد: إدارة الإقليم في (تركيا) في زمن التقارب مع الاتحاد الأوروبي» مجلة دراسات مقارنة شرق ـ غرب (39 (3)، 2008، ص. 172 ـ 2003). 
(1) وقع استيفاء كتابة هذا المقال في شهر ديسمبر2008. والانتخابات البلدية الموالية كانت مقررة لشهر مارس 2009.
(2) أصدر الجيش مذكرةً انطلق بموجبها المسار الذي أفضى إلى استقالة الحكومة التي كان يقودها رئيس «حزب الرفاه» نجم الدين أربكان.
(3) على سبيل المقارنة، انظر: ريمي لوفيفر، «الاشتراكية الفرنسية القابلة للحلّ في المؤسّسة البلديّة؟ الشّكل الحزبي و النّفوذ المؤسّسي. مثال مدينة (روبي) (1892 ـ 1983)» المجلة الفرنسيّة لعلم السّياسة، 54 (2)، 2004، ص.237 ـ 260. 
(4) لم نحصل على أي مصادر عن التجارب الأولى الممتدة من 1973 إلى 1977؛ فتلك كانت تجارب محدودة العدد، قديمة ومتعلقة ببلديات صغرى لم يشملها هذا المقال بالبحث تقريبا، بل ركز على تجارب ما بعد 1989 المتسمة بشيء من التواصل.
(5) إيدلمان موراي، السياسة باعتبارها عملا رمزيا، (شيكاغو)، ماركهام، 1971.
(6) بيروز جان ـ فرانسوا، «النظام الحضري الجديد لِـ «حزب الرفاه»: التهيئة الحضرية، الإدارة الحضرية و الفن الحضري في (إسطنبول) منذ مارس/ آذار 1994»، ضمن حوليات الإسلام الآخر، 6، 1999، ص. 283 ـ 284.
(7)حكمت أوغور، «سِجِلّ المسار البلدي لِـ «حزب الرفاه»: تقويما للنشاط البلدي الإسلامي في تركيا»، في صحيفة الشرق الأوسط، 53 (1)، شتاء 1999، ص. 83 ـ 84.
(8) واتس نيكول، «نشطاء في الوظيفة: سياسة النزاع الكردي في تركيا»، مجلة السياسات العرقية، 5 (2)، جوان 2006، ص. 136.
(9) بيروز ج.ـ ف.، «النظام الحضري الجديد لِـ «حزب الرفاه»: التهيئة الحضرية، الإدارة الحضرية والفن الحضري في (إسطنبول) منذ مارس/ آذار 1994»،مقال تقدمت الإشارة إليه، ص. 282، 284.
(10) « بلدية (إسطنبول) تتخذ قرارا سريا بالمنع ضد زكي تريكو»، صحيفة وطن، 8 أكتوبر/تشرين الأول 2006.
تقدمت الإشارة إليه في: سينار منديريس، سيزر أوميت، (تركيا) بين العلمانية والإسلام: تجربة «حزب العدالة والتنمية»، (ميلانو)، مؤسسة دراسات السياسة الدولية، ورقات عمل، 2007، ص. 21.
(11) دوغان على أكبر، الإشهار الهش. الحركة البلدية الإسلامية وفق مثال مدينة (قيصري)، أوكتيسيم، 2007، ص. 41.
(12) العلويون: يشكلون طائفة لا يرتاد أفرادها المساجد، ويمثّلون نسبة تتراوح بين 10 و 25 في المائة من سكان (تركيا).
(13) بيروز ج. ـ ف.، «النظام الحضري الجديد لِـ «حزب الرفاه»: التهيئة الحضرية، الإدارة الحضرية والفن الحضري في (إسطنبول) ابتداء من مارس/آذار 1994»، مقال تقدمت الإشارة إليه، ص. 285.
(14) ع. أ. دوغان، الإشهار الهش. الحركة البلدية الإسلامية وفق مثال مدينة (قيصري)، تقدمت الإشارة إليه، ص. 41، 81.
(15) وايت جيني، «براغماتيون أم أيديولوجيون؟ «حزب الرفاه» التركي في السلطة» مجلة التاريخ الحاضر، 96، جانفي/كانون الثاني 1997، ص. 29.
(16) دوغان ع. أ.، الإشهار الهش. الحركة البلدية الإسلامية وفق مثال مدينة (قيصري)، سبقت الإشارة إليه، ص. 41، 239 وما بعدها.
(17) بيروز ج. ـ ف.، «النظام الحضري الجديد لٍـ «حزب الرفاه»: التهيئة الحضرية، الإدارة الحضرية والفن الحضري في إسطنبول منذ مارس/آذار 1994»، مقال سبقت الإشارة إليه، ص. 282.
(18) يلماز ت.، « مرور القميص»، صحيفة حريّات، 1 يونيو/حزيران، 2006.
(19) م. سينار، أ. سيزر، تركيا بين العلمانية والإسلام: تجربة «حزب العدالة و التنمية»، تقدمت الإشارة إليه، ص. 5.