رسالة فلسطين

بقلم
مصطفى يوسف اللدّاوي
حيرةُ المحبين في كيفية وصولِ العدو إلى المقاومين
 بحزنٍ وحيرةٍ وأسى يتساءل المحبّون لفلسطين وشعبها، والمتضامنون معها والمؤيّدون لقضيّتها، وأبناؤها المخلصون وأهلها الغيورون، الذين تحزنهم عمليّات الاغتيال اليوميّة، وجرائم التّصفية الجسديّة التي تقترفها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في حقّ الفلسطينيّين في الدّاخل، فتقتل خيرة الشّبان، ونخبة المقاومين، وأمهر القادة وأقدر المسؤولين، عن كيفيّة نجاح جيش العدو وأجهزته الأمنيّة في الوصول إليهم وتحديد مكانهم وتمييز أشخاصهم، فضلاً عن معرفة أنشطتهم العسكريّة وتحرّكاتهم اليوميّة، ويحارون في قدرته الدّائمة على النّيل منهم، ونجاحه في قتلهم وتصفيتهم بوسائل مختلفة وأشكال متعدّدة، حيث يلاحقهم في بلداتهم ومخيّماتهم، وبين أهلهم ووسط شعبهم، ويدخل إلى حواريهم الضّيقة وأزقتهم المتشعّبة، حيث يفترض أنّهم في مأمنٍ منه، ورغم ذلك فهو ينال منهم ويقتلهم.
يزيد في حيرة المتسائلين وأغلبهم من المحبّين لفلسطين، ومن أهلها الذين يعيشون في الشّتات، ولا يعرفون طبيعة العدوّ، ولا يدركون حقيقة المواجهة معه، إذ لا خبرة عندهم، ولا تجربة سابقة معهم، ولا يعرفون حقيقة العدوّ، ولا من يشرح لهم وسائله التي يستخدمها في الوصول إلى المقاومين والإيقاع بهم، نجاحُ العدوّ الدّائم في تحقيق أهدافه، والوصول إلى عمق المناطق الفلسطينيّة، رغم أنّ المقاومة موجودة فيها، وتمتلك أسلحتها، وعندها خبرتها، ولها السّيادة في بعض مناطقها، وسبق لها أن عرفت وسائله وخبرت طرقه في كيفية الوصول إليهم واغتيالهم، أو تحديد مكانهم ومداهمتهم بصورة مفاجئة وقتلهم، ورغم ذلك فإنّ الحوادث ذاتها تتكرّر والشّهداء يزدادون في نابلس وجنين، وفي القدس ورام اللّه، وفي الخليل وبيت لحم.
وممّا يزيد في حيرتهم واستغرابهم، ويثير غضبهم ويحرّك كوامن نفوسهم، أنّ الكثير من عمليّات الاغتيال والقتل تتمّ على مرأى ومسمعٍ من الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة، التي ترى حشود الجنود الإسرائيليّين وهم يقتحمون المناطق الفلسطينيّة، وتسمع أصوات إطلاق النّار، وتشاهد مجموعات فلسطينيّة تشتبك مع الدّوريّات العسكريّة الإسرائيليّة، وتتعارك مع عناصر الوحدات الخاصّة، ورغم ذلك لا تقوم باعتراضهم ومنعهم، ولا تشتبك معهم وتقاتلهم، بل إنّ بعضها تغادر مراكز عملها، وتغضّ طرفها عمّا يجري، وكأنّ الحدث لا يعنيها ولا يمسّ شعبها، علماً أنّ بعض العناصر الأمنيّة الفلسطينيّة تخالف الأوامر وتشتبك مع العدوّ من تلقاء نفسها، وبعضهم يصاب أو يستشهد خلال المواجهات.
لا يخفي الكثير من المتابعين للشّأن الفلسطيني، ممّن يخافون على المقاومة ويخشون عليها، استغرابهم واستنكارهم للاستعراضات العسكريّة التي يقوم بها المقاتلون، والتّصريحات الإعلاميّة التي يدلون بها، والظّهور المتكرّر لهم بكامل أسلحتهم على الوسائل الإعلاميّة العربيّة والأجنبيّة وربّما الإسرائيليّة أحياناً، علماً أنّ المخابرات الإسرائيليّة تتابع مختلف وسائل الإعلام، وتراقب الصّور، وتميّز الأشخاص، وتحدّد النّشطاء، وتركّز على المطلوبين.
كما يظهرون اعتراضهم الشّديد على عمليّات إطلاق النّار الكثيف في الهواء، سواء خلال المسيرات والمناسبات العامّة، أو أثناء تشييع جنازات الشّهداء، ويرون أنّ هذه المظاهر تضرّ بالمقاومة ولا تخدمها، وتفضحها وتكشفها، وقد توقّع بعض الضّحايا أحياناً نتيجة إطلاق النّار العشوائي، علماً أنّ المقاومة في حاجة إلى كلّ طلقةٍ، التي يجب أن تستخدم في مكانها وزمانها وضدّ الأهداف المرصودة لها، فضلاً عن الكلفة العالية للطّلقات والذّخيرة، التي يجب ادخارها لحاجتها فقط.
لعلّ حيرة هؤلاء منطقيّة وتساؤلاتهم مشروعة، وما من شكٍّ في حسن نواياهم وصدق مشاعرهم، فالأحداث الجارية يوميّاً تدفع الجميع للحيرة والتّساؤل، لكن لا ينبغي تحميل الفلسطينيّين مسؤوليّة الفشل في حماية أنفسهم، أو اتهامهم بالضّعف والخور، ووصفهم بالعجز والفشل، وإدانتهم لعدم قدرتهم على حماية مقاتليهم والدّفاع عن حياتهم وممتلكاتهم، وصدّ هجمات الاحتلال المتكرّرة ضدّهم، فالفلسطينيّون حقاً مقاتلون شجعانٌ، وعندهم الجرأة والقوّة، والحماسة والاندفاع، ويقتحمون ولا يتردّدون، ولا يخافون ولا يجبنون، ولا يعترفون بالمستحيل ولا يتراجعون أمام الخطر، لكنّهم يواجهون عدواً خطراً قويّاً مسلّحاً مدعوماً، وعنده من القدرات الكبيرة ما يفوق قدرات المقاومة وإمكانيّاتها المحدودة البسيطة.
وعليه سأجيب في مقاليَّ القادمين على هذه التّساؤلات وغيرها، وسأحاول أن أوضّح للمحبّين أسباب نجاح العدوّ في النّيل منّا، والأدوات التي يستخدمها في حربه الأمنيّة ضدّنا، وأسباب فشل الشّعب والمقاومة في تحييده والتّصدّي له، في عرضٍ موضوعي رصين، بعيداً عن العواطف والمشاعر التي قد تضرّنا وتخدعنا خلال دراستنا لهذه الظّاهرة.
وكلّي أمل أن يتفهم المتسائلون، وهم محبّون وصادقون، ومخلصون وغيورون، وأن نتعلم ومقاومتنا أكثر، ونستفيد من النّقد الإيجابي الموجّه، لنصوّب المقاومة أكثر، ونحصنها ونصونها، ونحول دون اختراقها، ونحمي شبابنا ونحول دون استهدافهم السّهل واغتيالهم الرّخيص وقتلهم المتكرّر، وغير ذلك فإنّه قد يعمي عيوننا ويضرّ بنا، وقد يلحق بنا خسائر مادّية ومعنويّة أكبر، وقد يحبط المتابعين لنا والمؤيّدين لقضيتنا ويحزنهم، وهم الذين يبتهجون لكلّ عملية تقوم بها المقاومة، ويفرحون بها ويوزّعون الحلوى استبشاراً بغيرها.