بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
الوعي البيئي في المنظور القرآني (1/2)
 المقدّمة
لا مراء في أنّ الإنسان هو سبب المشكل البيئي. ولذلك اهتمّ القرآن بشكل مباشر بصلاح النّفس البشريّة وإصلاحها. والمهمّ أنّ فهم مكوّنات البيئة وسبر أغوار العلاقات القائمة بيْن أجزائها هو المعبر الجوهري للحفاظ على المحيط باعتباره مجالا حيويّا. فلا مناص من اخضرار العلوم وتعميقها. وقد ظهر علم النّفس البيئي والاقتصاد البيئي والتّاريخ البيئي، وكذلك اللّاهوت البيئي وغير ذلك من الاختصاصات العلميّة الحاملة لهموم الفضاء الإيكولوجي.
إنّ اللّافت في العصر الحديث هو عدم التّوازي بين سرعة التّطور في المجالات العلميّة وبطء العناية بالمحيط المتضمّن للإنسان والحاوي لحياته حيث تعمّق البوْن بين الذّات والموضوع، وبيْن الإنسان والبيئة، وعوملت الطّبيعة على أنّها عدوّ يجب تسخيره واستعباده، والسّيطرة عليه كما عمل الفكر الغربي على تكريسه. وهذا مجال واسع للنّقد الّذي يخوّل صناعة حضارة تنشد التّآلف والتّكامل بين المخلوقات جميعا: إنسانا وطبيعة بما فيها من مكوّنات حيوانيّة ونباتيّة، حيث التّرابط المستمرّ بيْن كل ضروب البقاء  الخاصة بكلّ مخلوق في علاقة منسجمة، بين الأرض وكافة الأجرام والمجرّات. وقد احتفى القرآن، بشكل واضح، بالطّبيعة ومكوّناتها وحرص على التّوازن بينها، بالقدر الّذي اعتنى فيه بالأرض وما عليها من كائنات حيّة ما يؤكّد تضمّن القرآن الكريم فلسفة بيئيّة متكاملة الجوانب والعناصر، عمادها مجانبة التّبذير في الاستهلاك وعدم غلّ اليد إلى العنق. وفرضيّة هذا البحث تنهض على أنّ القرآن الكريم يتضمّن وعيا بيئيّا حادّا يروم تعمير الأرض بما ينفع الحرث والنّسل والبلاد والعباد. ويرسم علاقة الفرد بالطّبيعة من أجل تنفيذ المقاصد الأساسيّة من الوحي النّازل من السّماء لتنظيم الحياة الإنسانيّة بكلّ جزئياتها حتّى ينمو التّاريخ في حركة ذات اتّجاه تصاعدي. وذلك شرط النّجاة الجالب للسّعادة والازدهار. قال الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ (الانشقاق :6)وسيجنح هذا البحث إلى توخّي المنهج التّفكيكي البنائي لبلورة العمليّة التّحليليّة الخاصة بمظاهر هذا الوعي في المصحف الشّريف (الجزء الأول/ هذا العدد) وآثار فقدان هذا الوعي في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة (الجزء الثاني/ العدد القادم). 
1 البيئة في الفضاء القرآني
يغلب الظّن لدى البعض أنّ المذهب البيئي له مستقر ضارب في الحداثة، ولا سيّما في العصور المتأخرة. ولكن المحافظة على البيئة ظاهرة ضاربة بجذورها في القدم، قدم الوجود الإنساني. وقد عمل الوحي عبر التّاريخ على تقوية الوعي إزاء المحيط الطّبيعي، باعتباره معطى مخلوقا لصالح الإنسان خليفة اللّه في أرضه. وهو ما استوجب أخلاقا بيئيّة تحترم النّواميس الكونيّة، وتستفيد منها. فالطّبيعة ببيئتها المتوازنة أهدت الإنسان إلى اكتشاف النّار قال تعالى:﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾(يس:80).  والطّيور بما هي عنصر بيئي فعّال أهدى الإنسانيّة إلى الضّرب في الأرض سعيّا وهجرة. وربّما علّمته الدّفن المتعلّق بالموتى. وكلّ ذلك خطوات حضاريّة عملاقة حوّلت الإنسان من مرحلة إلى أخرى ما يؤكّد على السّياسات القائمة المزيد من العناية بالبيئة عبر وضع برامج ملائمة لذلك، لكبح التّلوث وحفظ الموارد البيئيّة. 
 وإزاء كلّ هذه العطايا أُمر الإنسان بالبرّ عامّة إزاء الوالديْن والآخرين والطّبيعة. ومن ثمّ توجّب على المدارس والمؤسّسات التّربويّة إشاعة الثّقافة البارة بالمحيط والبيئة، إذْ أنّ شخصيّة المرء تتطوّر في سياق الاستجابات للأطر الفكريّة السّائدة. وهي الّتي تضطلع بتوفير الانسجام معها. فالحضارة اللّاماديّة وحدها هي الّتي تدافع عن الطّبيعة وما فيها من خيرات. والملاحظ أنّه كلّما صفت البيئة من ضروب التّلوث، أضحت هذه الخيرات أكثر صحّة وأكثر إفادة للإنسان.
إنّ القرآن في تبغيضه للتّبذير طبقا لقوله:﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا(26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِين﴾ (الإسراء: 26-27). وفي تحريمه للإسراف كقوله تعالى»:﴿أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ (غافر :43).  يلفت الانتباه إلى ضرورة الاعتدال في الاستهلاك وضبط الحدود المعقولة للتّصرّفات، وهوما يستوجب مسؤوليّة إضافيّة على المنظومة الثّقافيّة السّائدة، إزاء البيئة والمحيط.
إنّ القرآن، إذْ يشجّع على الفضائل، فإنّ البرّ بالطّبيعة هو أهم الفضائل الّتي تعترف بحقّ الوجود في أجلّ مظاهره، عبر تجاوز المصلحة الذّاتيّة الضّيّقة، إذ البيئة هي الإطار العام الحاوي للمصالح المشتركة. فالمرء المسلم الورع ينظر إلى الطّبيعة كشيء  مخلوق من اللهّ. فالكون بأسره خلقه الله وإليه يعود. وعليه، فإنّ توقير الطّبيعة وتحييدها عن النّزوات والرّغبات الجامحة الضّيقة هو الّذي يحيل على استنباط طريقة في العيش مع بيئة كانت قبل الإنسان وبعده. ومن ثمّ وجب عليه إبداء تواضع لائق بهذا المحيط المسخّر للإنسانيّة جمعاء، بشكل يعبّر عن الرّحمة الإلهيّة الفائقة. ويزداد هذا التّواضع تعمّقا عند شعور المرء أنّه بدوره مخلوق كالطّبيعة تماما.
إنّ الّدين يقتضي الحياة طبقا للطّبيعة على حدّ عبارة «ت س اليوت». فالحياة ضمن الطّبيعة، وما وراء الطّبيعة، طريق واحدة موصلة إلى الخالق. وهذا التّصوّر يقضي بصورة قاطعة على مقولات استغلال الطّبيعة والهيمنة عليها والصّراع معها. وفي حقيقة الأمر هذا التّعامل هو عبارة عن الإثم إزاء الطّبيعة. والإثم هو نقيض البرّ. 
إنّ الطّبيعة كائن مقدّر من الخالق ومصداق ذلك قوله تعالى:﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾(القمر :49).وقد سخّرها الله للإنسان. ومقولة الإخضاع لهذه الطّبيعة تكشف مظاهر التّعدّي على البيئة كما تعني شنّ الحرب بصورة غير لائقة ولا معقولة(1). وهذه العلاقة المتوتّرة تنمّ عن عقوق للطبيّعة. وهو دليل على عقليّة ماديّة تفضي إلى تعامل ضار مع الطّبيعة، يتجلّى في قطع  الأشجار وإبادة الغابات عبر تفجير المناجم.
إنّ الخطاب القرآني شديد الوضوح في الحثّ على المحافظة على البيئة باعتبارها واجبا دينيّا وأخلاقيّا، وما ذلك إلاّ حفاظ على خيرات الطّبيعة. وقد قال الله تعالى بشكل واضح في كتابه العزيز: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (البقرة :60).  فالدّقة المذهلة الّتي أودعها الله تعالى في الكتاب التّكويني تعود بالنّفع العميم على الإنسان، إذا سبح وفق القوانين الإلهيّة الّتي أودعها الله في الكون. وأمّا إذا عارضها فإنّ نظام الحياة هو الّذي يختلّ. وعندئذ يعود الويل على الفرد الّذي عاكس السّنن. ولا أدلّ على هذه الدّقة الفائقة من قول اللّه تعالى:﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ (النمل :88).  ففائدة الإنسان تتحقّق عند الاهتداء بالسّنن الإلهيّة والنّواميس الّتي تتحكم في الظّواهر. وانظر إلى اكتمال الخلق فيما أبدعه الله أحسن الخالقين قال تعالى:﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾ (السجدة :7).  
وأي عدوان أكبر من طمس معالم الطّبيعة الّتي جعلها الله عطاء موفورا؟ والدّليل على ذلك قوله تعالى:﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك :15)ففي الفضاء البيئي يتمّ الأكل والشرب والغرس والحرث والبناء وسلك الطّرق البريّة والبحريّة والجويّة لتذليل المسافات وبلوغ الحاجات مهما تباعدت الأقطار والبلدان. فالمطلوب، حينئذ، هو إنشاء العمران وإفشاء السّلام وتعميم الصّلاح، تقول الآية:﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف:56).  وليس خافيّا أنّ الله قد توعّد بوضوح الّذين يخربون الطّبيعة ويفسدون قوانين البيئة. تقول الآية:﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (البقرة:211).  ولا غرو في ذلك فالله قد اصطفى آدم ونفخ فيه من روحه وفضّله على الكائنات كلّها وعلّمه الأسماء. 
وليس خافيّا، أنّ في القرآن إشارة بالغة الأهميّة تتعلّق  بالإنسان الّذي يتحمّل المسؤوليّة في إفساد الجمال الطّبيعي والفضاء البيئي عن طريق التّلوث. وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى:﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الرّوم :41) فالمطلوب حينئذ هو المحافظة على التّوازن المناخي. ولعلّ من أهمّ المشاكل المنجرّة عن اختلال هذا التّوازن هو الانحباس الحراري. وما في ذلك من مخلّفات سلبيّة على الزّراعة والتّنميّة الاقتصاديّة بصفة عامة. 
إنّ الله قد خلق الأرض وجعل لها أغلفة من قبيل القشرة والوشاح واللب والغلاف الهوائي والغلاف المائي والغلاف الحيوي. وجعل فيها جاذبيّة قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وأَمواتًا﴾ (المرسلات :25). كما جعلها مهادا وقرارا وفراشا وبساطا كما قال تعالى:﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ (الذاريات :48). وكذلك الآية:﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ (النبأ :6).  وجعل فوقها السّماء سقفا محفوظا وبناه تعالى بدقة عجيبة بما فيها من أجرام ونجوم قال تعالى:﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة :29).  كما قال أيضا:﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية :13).  
إنّ النّصّ القرآني مفعم بفلسفة إنسانيّة شديدة الانسجام مع المحيط البيئي، تفيض على الطّبيعة بالرّحمة. فالجبال تسبّح  مع النّبي داوُد ومصداق ذلك قوله تعالى:﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ (السبأ :10). وفي آية أخرى:﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ (ص:18). 
ومعنى ذلك أنّ الطّبيعة محكومة بالقانون الإلهي الّذي أودعه فيها. فالعلاقة الرّابطة بين الإنسان والطّبيعة علاقة حميميّة تشهد بتوحيد اللّه وتُسبّح بحمده. إنّ الأخلاق القرآنيّة البيئيّة تنبع من جوهر الإيمان. وتتجلّى في العمل الصّالح. وقد ربط القرآن الكريم ربطا متينا بين الإيمان والعمل الصّالح، وهو إجراء ينقض المنطق الحضاري الذي كان سائدا فيما سبق من الحضارات القديمة، حيث كان العمل يمثّل مهانة وهوانا. ولذلك أُسند إلى العبيد الّذين يُعتبرون جنسا من نوع متدنّ. واقتصر النّبلاء والفلاسفة على الأعمال النّظريّة والمحترمة. 
لقد كرّر الخطاب القرآني إحدى وخمسين مرّة الآيات الّتي تربط بين الجوانب الإيمانية والجوانب العمليّة. وهذا العمل الصّالح يشمل العناية بالعناصر الطّبيعيّة كلّها من قبيل النّبات والحيوان والأشجار والكلاب والخيول والحمير والبغال والأنعام واللّحم الطّري في البحر وكلّ المنظومات البيئيّة. يقول تعالى:﴿ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام :38).  
إنّ هدف هذه الرّؤية البيئيّة القرآنيّة هوّ بناء الذّات المنسجمة مع نفسها ومع بقيّة المخلوقات باعتبارها شاهدة على العظمة الإلهيّة إذ الله سبحانه هوّ الخالق البارئ المصوّر. ومن ثمّ ينبع العمل على إزالة الألم عن كلّ مخلوق لأنّ إحداث الألم شرّ وإثم يعرّضان مرتكبهما لغضب الله وعذابه. وحتّى عمليّة الذّبح محفوفة بمحدّدات كمضاء الشّفرة والسّرعة في جرّ المُدية لإراحة المذبوح. وما ذلك إلاّ احترام للحياة القائمة في الحيوان. ومثل ذلك يكون التّعامل مع النّباتات باعتبارها كائنات طبيعيّة ذات قيمة أصليّة واعتباريّة. 
إنّ الاستهجان الخُلقي عمل منبوذ في المنظور القرآني، لذلك نجد توكيده على الصّلاح والإصلاح، كأن لا تُقطع الأشجار أو أن تُحرق أو أن تُعذب الحيوانات. وهي شمائل يتحلّى بها المؤمن إعلاء للمثل البيئيّة الدّالة على سلامة المعتقد ونبل الأخلاق وإحكام السّلوك. 
إنّ الأخلاق الدّينيّة تحتوي على منظومات فرعيّة متفاعلة فيما بينها، في مجالات السّلوك الاجتماعي والبيئي. وهذه الأخلاق القرآنيّة ضاربة في الفطرة السّليمة، فالمؤمن لا يفعل بالطّبيعة ما يشاء. وإنّما يفعل ما ينبغي انسجاما مع النّواميس الطّبيعيّة نفسها. وهي الأخلاق البيئيّة العليا الّتي تعتبر ركنا ركينا في مجال الاستخلاف. 
وعلى خلاف المنظور القرآني، يجد الدّارس أنّ الفلسفة الليبراليّة تعتبر أنّ المرء قادر على أن يفعل ما يشاء بشرط أن لا يُؤذي الآخرين وأن لا يؤذي نفسه على نحو يتعذّر تداركه(2).    
إنّ الجدير بالملاحظة، هو أنّ احترام الطبيعة في الفضاء القرآني يدلّ على التّوازن المراد تحقيقه في إطار أخلاقي استخلافي كقيمة أساسيّة وحيويّة لأنّ الإطار البيئي الملائم يُساهم في إحياء الإنسان كقوله تعالى:﴿ مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ (المائدة :32). 
ولمّا كانت الحياة درجات، فإنّ خير أنواع الحياة وأفضل أشكالها أن تتركّز حيويّا في إطار بيئي مناسب للنّمو بشكل سليم وصحّي. والخيريّة الّتي يغرسها القرآن الكريم في النّفوس تجعل الحياة حلقات مترابطة من الأعمال الصّالحة إزاء الحيوان وكل الأنواع الحيّة، فخير النّاس هو أنفعهم لغيره، قال تعالى:﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر :9). ومن مظاهر الصّلاح أيضا تجنّب الأفعال الّتي تؤذي الأشجار كالتّحطيم بالجرّافات والإحراق بالنّار. وهكذا يتمّ إعاقة النّمو الطّبيعي للغابات الّتي تهب الثّمار والاخضرار والهواء الصّالح للتّنفس. ومن ثمّ يتمّ بتر عضو مهم في الطّبيعة من شأنه أن يعود بالخيرات على الطّيور والحيوانات والإنسان والتّربة.
إنّ المؤمن الّذي يتبنّى الأخلاق البيئيّة ويحترم الطّبيعة، يُوطّد الوعد الخُلقي على نفسه اعتبارا أنّ هذه القيم إلزاميّة نابعة من إيمانه. وينظر إليها كأشكال مشخّصة للعمل الصّالح والسّلوك السّوي إزاء الطّبيعة (3). 
إنّ الرّؤية القرآنيّة إزاء الطّبيعة تقوم على احترامها والاستفادة المشروعة منها. فالنّظام الّذي تحتكم إليه الطّبيعة وتسير وفقه نظام متوازن وفيه تتحقق الوظائف البيولوجيّة لكلّ كائن(4). ولمّا كانت الدّنيا مزرعة للآخرة، فإنّها تمثّل، إلى جانب ذلك، المجال الّذي يُختبر فيه النّاس في المسألة الايكولوجيّة إثباتا للمفاضلة الأخلاقيّة في هذا المجال، ولا سيّما أن الكثافة السّكانيّة الّتي شهدتها الأرض والطّفرات العلميّة الّتي جاءت بالمحرّكات والآلات. فالمرء يجد نفسه أمام نفعيّة الاقتصاد من جهة، وإزاء الوصايا الدّينيّة المتعلّقة بتغليب المصلحة العامة من جهة أخرى. وهذه الوصايا تقتضي الاعتماد على أخلاق الأرض باعتبار أنّ الأرض كوكب أشبه بالسّفينة الّتي تُقلّ ركابا، إذا غرقت، فإنّ البلوى تعمّ الجميع.
لقد احتاجت الإنسانيّة قرونا طويلة للانتباه إلى التحديّات البيئيّة، إن في المستوى النّظري أو في المستوى العملي، حتّى توصّلت إلى بلورة منظومة أخلاقيّة تعرف بأخلاق الأرض. وقد انتبه الفلاسفة في العصر الحديث إلى مركزيّة الحياة الايكولوجيّة. كما انتبهت إلى ذلك مراكز البحث العلميّ العديدة. وتبنّت منظمة الأمم المتحدّة ضرورة الحفاظ على البيئة السّليمة. فكثرت التّحذيرات على الكرة الأرضيّة نظرا لتدخّل الإنسان في خلخلة التّوازن البيئي. فالحاجات البشريّة المتزاحمة، وانفجار الثّورات الصناعيّة وتشعّب الحياة الاقتصاديّة جعل مقوّمات الحياة تحت وطأة التّهديد بتحويل الطّبيعة إلى مجال غير صالح للعيش. وأمام هذا الخطر الدّاهم تهاطلت التّشريعات من أجل المحافظة على النّظام البيئي(5). وهو ما دعا إلى إحداث الثّورة البيئيّة حيث تمّ الانتقال من المركزيّة البشريّة إلى المركزيّة الايكولوجيّة (6).  
وفي إطار هذه الثّورة وقعت مراجعة العلاقة مع الطّبيعة. فما عاد للكبرياء البشري القائم على الاستغلال المكانة الأولى، وإنّما وجب أن يحلّ محلّه الاشتراك مع الطّبيعة، والتّفاعل معها إيجابيّا من أجل تفادي الكوارث البيئيّة الّتي تكون ضحاياها بالجملة. وقد ذهب  «ج. تايلر ميلر»،  في هذا الإطار، إلى اعتبار أنّ «الثّورة البيئيّة ستكون الثّورة الأكثر شمولا في تاريخ الجنس البشري. إنّها تتضمّن تشكيكا في منظوماتنا وقواعدنا الأخلاقيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والنّفسيّة والتّقنيّة وتحويلا لها»(7). وذلك ما يدعو إلى تسليط الضّوء على المخلّفات البيئيّة في حياة الإنسان. 
الهوامش
(1)WEAVER, visions of order : The cultural crisis of our time, intercollegiate studies institue, wilmington, delawrae, 1995, pp 121- 123
(2)         Paul W Barkley, David William Seckler, Economic Growth and Environmental Decay: The Solution Becomes the Problem , ED.Harcourt Brace Jovanovich, l›Université du Michigan, 1972, P58 
(3) انظر مايكل زيمرمان، الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة، ج1، م ن، ص 119.
(4) R.V.ROUTLEY. Against the inevitability of Human chauvinism in M.E. GOOD PASTER AND K.M. SAYRE, EDS, Ethics and problrms of the 21nt Century(Notre dame, University of Notre dame press, 1979), pp 36- 59
(5)  انظر حسوني جدوع عبد الله وصبا رياض خضير، البيئة: بيئة الحيوان والنّبات والأحياء المجهريّة، اشراف سامي حسن، دار دجلة ناشرون وموزّعون، الأردن، ط1، سنة 2015، ص280.
(6) مايكل زيمرمان، الفلسفة البيئيّة: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجيا الجذريّة، ج1، م ن، ص237.
(7) George Tyler Miller, Replenish the Earth: A Primer in Human Ecology , Wadsworth Publishing Company, l›Université de Californie, 1972 ,P152.