تطوير الذات

بقلم
محمد أمين هبيري
سياسة النفس في مقومات النظر ومآلات العمل
 تُعتبر سياسة النّفس مجالاً هامّاً في علم النّفس وتركّز على تحسين الحالة النّفسيّة والعاطفيّة للفرد والمجتمع. وهي تعتمد توظيف أساليب وتقنيات وآليّات لتطوير الذّات وتحسين السّلوك الإنساني والعلاقات الاجتماعيّة، وتتضمّن أهدافاً ومبادئ وطرقا وآليات تنظّم عمليّة التّفكير والإدارة الذّاتيّة للفرد، وتعزّز تحقيق الأهداف والطّموحات الشّخصيّة والمهنيّة. 
كلمة «سياسة» مشتقّة في اللّغة العربيّة من فعل «ساس - يسوس» ، ومعناه عالج الأمر أو صرَّفه ودَبَّره(1)، أمّا اصطلاحا، فتعني رعاية الشّؤون الدّاخليّة والخارجيّة للدّولة (أو السّلطة العامّة)، وباختصار السّياسة عبارة عن تدبير الحياة وتنظيمها للوصول إلى المنفعة القصوى بأقلّ الموارد المتاحة. إذا من خلال هذا التّعريف اللّغوي والاصطلاحي يمكننا أن نخلص إلى أنّ السّياسة تعني باختصار شديد «تدبير الأمر»، وهذا ما يجعل منظور السّياسة أشمل من المصطلح الشّائع لدى عامّة النّاس.
ذلك أنّ السّياسة التي تعني تدبير الأمر تصبح ذات خمسة أبعاد/ كيانات كبرى؛ فالبعد الأول هو سياسة النّفس والثّاني سياسة الذّات بما هي (نفس، جسد، روح)، أمّا الثّالث فهو سياسة العائلة، والرّابع هو سياسة المنظمة، سواء كانت ربحيّة (الشّركات أنموذجا) أو غير ربحيّة (الجمعيّات أنموذجا)، والأخير هو سياسة الدّولة. وفي الأخير نجد بعدا آخر وهو تدبير أمر الكون وهو بيد خالق الكون -سبحانه وتعالى- والذي عبّرت عنه الآية الكريمة﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ (السجدة :5)  ولذلك فإنّ السّياسي الكيّس هو الذي اتصف بأوصاف اللّه جلّ وعلا كالعليم «أي ينبغي العلم بالأمر قبل اتخاذ القرار فيه بناء على التّفرقة بين الحقّ والباطل» والرّحمة «أي أن يكون قراره رحيما بمن وبما تمّ اتخاذ القرار في حقّه»، والعدل « أي ينبغي أن يصوّب القرار نحو الحقّ المراد اتباعه» وهكذا ...
نأتي إلى تعريف النّفس، ففي اللّغة تعني جُملةُ الشَّيءِ وحقيقتُهُ، أمّا اصطلاحا فتعني الجُزء المقابل للجسم في التّشارك، والتّفاعل، والتّبادل المستمر بينهما؛ باختصار النّفس هي مصطلح معقّد يشير إلى الجزء الدّاخلي من الشّخص الذي يحكي عن القيم، الشّخصيّة، التّحفيز، المهارات، الآداء(2).  فسياسة النّفس تعني تدبير أمر النّفس والانتقال بأبعادها الخمسة من مرحلة (أ) حاليّة إلى مرحلة (ب) مأمولة.
تهدف سياسة النّفس إلى تعزيز النّمو الشّخصي والتّحسين العام للحالة النّفسيّة للفرد والمجتمع ككل، ممّا يساعد على تحسين جودة الحياة والسّعادة والإنجازات الشّخصيّة والمهنيّة. ولذلك فإنّه يمكن تقسيم الموضوع إلى جزأين؛ الأول نطلق عليه عنوان «مقومات النّظر في سياسة النّفس» (الجزء الأول) والثاني نطلق عليه عنوان «مآلات العمل في سياسة النّفس» (الجزء الثاني)
الجزء الأول: مقومات النظر في سياسة النفس
إنّ النّظر في سياسة النّفس يجعلنا نتدبّر جليّا أهدافها (العنصر الأول) من جهة ومجالاتها (العنصر الثّاني) من جهة أخرى، الأمر الذي يجعلنا أكثر فهما وتفكّرا في أهمّية سياسة النّفس كحقل معرفي من علوم السّياسة.
العنصر الأول: أهداف سياسة النّفس
قد تختلف أهداف سياسة النّفس باختلاف الدّولة التي تطبّقها، ولكن بشكل عام، تشمل الأهداف التّالية: 
1. التّعليم والتّثقيف الصّحّي النّفسي: الهدف منها هو الحدّ من الجهل الذي يحدث في المجتمع حول الصّحّة النّفسيّة، والشّعور بالذّات، والشّعور بالآخرين.
2. الحدّ من الأزمات النّفسيّة: الهدف منه التّغلّب على الأزمات النّفسيّة الشّائعة كالاكتئاب، الضّغط، الإجهاض النّفسي، الإدمان، الصّدمات النّفسيّة، الكفاح مع الأزمات الصّحيّة النّفسيّة الأخرى.
3. التّحسين الجزئي للصّحة النّفسيّة: الهدف منه تحسين الصّحّة النّفسيّة للأشخاص في المجتمع، وزيادة الشّعور بالسّعادة، الاستقرار النّفسي، الشّعور القوي بالذّات، التّغلّب على الأزمات الشّخصيّة الصّعبة.
4. الدّعم النّفسي: الهدف منه الدّعم النّفسي للأشخاص في المجتمع، والتّغلّب على الأزمات الإجتماعيّة الصّعبة.
العنصر الثّاني: مجالات سياسة النّفس
 تتعدّد مجالات سياسة النّفس وتتنوّع، ولكن يمكن إعطاء مثالين على سبيل الذّكر فقط كنموذج: 
• على المستوى الشّخصي: التّحكّم في النّفس (الانفعالات، المعتقدات) 
التّحكّم في النّفس هو القدرة على إدارة العواطف والأفكار والتّصرّفات الخاصّة بنا بطريقة صحيحة ومناسبة. يتضمّن ذلك القدرة على التّحكّم في الغضب والتّوتّر والقلق والخوف والحزن، والعمل على تحقيق التّوازن النّفسي اللاّزم لنموذج حياة صحّي ومستقرّ. يمكن تحقيق التّحكّم في النّفس من خلال عدّة طرق وتقنيات، مثل تقنيات التّأمّل والتّحليل النّفسي والتّواصل الإيجابي والرّياضة والنّظام الغذائي الصّحي والحصول على الدّعم الاجتماعي. يساعد التّحكّم في النّفس على تحسين العلاقات الشّخصيّة والمهنيّة وتحسين صحّة الجسم والعقل، وتقليل التّوتّر والضّغوط النّفسيّة، وهو يعتبر عاملاً مهمّاً لتحسين جودة الحياة وتحقيق النّجاح في الحياة الشّخصيّة والمهنيّة.
• على مستوى الدّخل: إدارة ماليّة تقوم على التّعقّل وتقسيم الدّخل بحكمة
سياسة الدّخل تهتم بتحديد كيفيّة إدارة الدّخل الشّخصي للفرد أو الأسرة، بحيث يتناسب مع مستوى المصاريف اليوميّة والاحتياجات الأساسيّة، وتوفير بعض المدخّرات والاستثمارات. ويمكن تحقيق ذلك من خلال إعداد ميزانيّة شخصيّة تحدّد مدّخرات الفرد ونسبة الإنفاق على كلّ فئة من الاحتياجات الأساسيّة مثل الإيجار والطّعام والملابس والنّقل والتّرفيه والمصاريف الصّحيّة.
يعتمد نجاح سياسة الدّخل على المستوى الشّخصي على الالتزام بالميزانيّة الشّخصيّة وتوفير نسبة من الدّخل للمدّخرات والاستثمارات، بالإضافة إلى تحسين الإنفاق وتقليل الإسراف والدّيون الشّخصيّة. كما يمكن للأفراد العمل على تحسين مداخيلهم من خلال العمل على زيادة الدّخل الشّخصي عن طريق العمل الإضافي أو تطوير المهارات والتّعليم أو بدء أعمالهم الخاصّة.
الجزء الثاني: مألات العمل في سياسة النّفس 
إنّ العمل في سياسة النّفس يجعلنا نكتشف بعضا من آليّاتها (العنصر الأول) من جهة وفي جملة من خصائصها (العنصر الثّاني) من جهة أخرى، الأمر الذي يجعلنا أكثر التزاما بتطبيق وتنفيذ إجراءاتها وهو ما يساهم في تكريس سياسة النّفس تكريسا فعليّا واقعيّا. 
العنصر الأوّل: آليّات سياسة النّفس
يوجد العديد من الطّرق والآليّات المختلفة التي يمكن استخدامها في سياسة النّفس، بما في ذلك:
1. التّثقيف الصّحّي النّفسي: يشمل التّدريبات، المؤتمرات، ورش العمل، الدّورات التّدريبيّة، الإعلانات الصّحيّة النّفسيّة، وغيرها.
2. العلاج النّفسي: يشمل الطّب النّفسي، العلاج النّفسي الشّامل، الطبّ النّفسي الشّامل الخاصّ
3. التّغيير النّفسي الشّامل: يشمل الدّعم النّفسي، التّغيير النّفسي الشّامل، الدّعم النّفسي الشّامل الخاصّ بالأطفال والشّباب، الحلول النّفسيّة الأخرى الخاصّة بالشّؤون الإجتماعيّة، التّغييرات النّفسيّة الخاصّة بالشّؤون الإجتماعيّة.
العنصر الثّاني: خصائص سياسة النّفس 
تفترض السّياسة النّفسيّة أنّ الأفراد يمكن أن يتغيّروا من خلال الإصلاح النّفسي والتّعلّم، وتركز على الحفاظ على الصّحّة النّفسيّة وتحسينها، وكذلك تشجيع العمل الإيجابي والتّطوير الذّاتي. ومن بين الخصائص الرّئيسيّة للسّياسة النّفسيّة:
1. التّركيز على الفرد: تنصّ السّياسة النّفسيّة على أنّ الفرد هو المحور الأساسي للتّغيير والتّطوير، وأنّ الحلول الفرديّة هي الأكثر فعاليّة في تحقيق التّغيير.
2. الهدف النّهائي: تهدف السّياسة النّفسيّة إلى تحسين جودة الحياة وزيادة السّعادة والرّفاهيّة، وتحقيق الرّضا النّفسي والاستقرار العاطفي.
3. التّغيير الإيجابي: تعتبر السّياسة النّفسيّة التّغيير الإيجابي الهادف إلى تحسين السّلوك والعواطف والتّفكير والعلاقات الاجتماعيّة.
4. التّعلّم والتّدريب: تركز السّياسة النّفسيّة على أهمّية التّعلّم والتّدريب في تحقيق التّغيير، حيث توفّر أدوات وتقنيات تساعد الأفراد على تطوير مهاراتهم النّفسيّة والاجتماعيّة.
5. الوقاية: تنصّ السّياسة النّفسيّة على أهمّية الوقاية من الأمراض النّفسيّة والتّحسين الوظيفي، وذلك عن طريق توفير الدّعم النّفسي المناسب والتّعريف بالتّقنيات والأدوات التي يمكن استخدامها للحفاظ على الصّحة النّفسيّة.
6. العمل الإيجابي: تشجّع السّياسة النّفسيّة الأفراد على العمل الإيجابي والمبادرة في حلّ المشكلات والتّغلّب على التّحديات، وذلك عن طريق تطوير المهارات اللاّزمة لذلك.
وفي النّهاية، يمكن القول إنّ النّفس والسّياسة هما مجالان يتداخلان بشكل وثيق، وأنّ فهم عميق للطّبيعة البشريّة والعوامل النّفسيّة يمكن أن يساعد في فهم السّياسة واتخاذ القرارات السّياسيّة الصّائبة على مستوى الكيان، وكذلك نجد سياسة النّفس جزءا من الحياة الإنسانيّة وأنّه يجب على الأفراد أن يفهموا تأثير العوامل النّفسيّة على السّلوك الإنساني السّياسي، وأن يستخدموا هذا الفهم لتحقيق المزيد من النّمو والازدهار للمجتمعات والأمم.
الهوامش
(1)   المحكم والمحيط الأعظم في اللغة، لابن سيده، تحقيق مجموعة من المحققين، القاهرة: معهد المخطوطات العربية، ص 8/354
(2)  مكوّنات النّفس