خواطر

بقلم
شكري سلطاني
الدنيا مدرسة الأحياء ومقبرة الأموات
 ما لهذه الدّنيا لا تستقرّ على حال؟ ولا يهدأ للإنسان فيها بال!، الحياة الدّنيا للفرد تبدأ واقعيّا منذ ولادته وتنتهي برحيله وموته، وهذه الفترة المحدودة زمنيّا فيها العديد من الأحداث والوقائع والأطوار والمحطّات الحياتيّة سمتها التّغيير والتحوّل، إذا لا ثبات ولا إستقرار على حال .
وجود ظرفي مقيّد بشروطه الموضوعيّة والنفسيّة الذاتيّة، يخوض فيها الإنسان تجربته الحياتيّة ،فإمّا يتحقّق وجوده بوعي ذاتي وكينونة مستقلّة أو يعيش منساقا تابعا مهموما بمشاغل الدّنيا وشواغل الحياة.
إذا كان للإنسان نهاية حتميّة بفراقه ورحيله وغيابه ولو بعد حين، ليحتويه القبر ويواري جثمانه التّراب، وهي حقيقة  غالبا ما تغيب عن ذهن الإنسان وينساها في خضمّ  التّدافع والصّراع الإجتماعي، وكما في الحياة ألم الفراق والرّحيل الأبدي لأهلنا وأقاربنا وأحبابنا التّي تغيب صورهم لتبقى ذكراهم راسخة في القلوب والأذهان لا تنمحي بمرور الوقت.
فما هو إذا السرّ الكامن في الحياة الدّنيا الذٌي يجعل للحياة معنى ولوجود الإنسان قيمة معنويّة؟
لا بدّ أن يكون لوجود الإنسان وحضوره ولقانون الغياب والفراق ركائز ودعامة لكي يواصل الإنسان مسيرته الحياتيّة ويحقّق معناه ويتأكّد في واقع الحياة ويعلم ويعمل. وكما إستمتع وتمتّع بخيرات ووافر عطاء من غيره سوف يكون بدوره جسرا لمرور غيره بما سيُقدّمه من جهده وفكره وعمله وميراثه.
إنّ إطلالة على التّاريخ البشري وصيروة الحياة تُبرز جليّا أنّ الحياة الدنيويّة للإنسان في علاقة وثيقة مع التطوّر والنموّ والتحوّل؛ أجيال تتعاقب ومسيرة حياة  بشريّة متواصلة متّصلة بالأحياء وأفعالهم وتصرفاتهم، أحفاد وخوالف يرثون أجدادهم وسابقيهم لتستمرّ الحياة بالأحياء منهم، ويُفتقد فيها الأموات من رحلوا وغابوا عن مسرح الحياة. وتلك سنّة الحياة وحكمة الأقدار التي يخضع لها كافة البشر دون إرادة منهم.
فمن كان صغيرا سوف يكبر، ومن كان كبيرا سوف يهرم، ومن كان ولدا سيصبح والدا، ومن كان تحت الرّعاية والعناية الأبويّة سوف يصبح بدوره راعيّا لأبنائه، وهكذا دواليك في صيرورة حياتيّة متواصلة تتعاقب  فيها الأجيال وتُستبدل الأدوار ويتغيّر الزّمان، فلا يبقى حال على حاله، ليتكيّف معظم البشر عموما مُجبرين مع التّحوّلات ومسار التاريخ والزّمن خاضعين .
الحياة الدّنيا مدرسة الأحياء يتعلّم فيها الإنسان ويكتسب فيها خبرات ومهارات كلّ حسب طاقته وظروفه وحظّه. سعي بشري متعدّد الوجهات حسب المصالح والأهداف وحسب المبادئ والمعتقدات، حياة يؤثّر فيها الأقوياء بقراراتهم وأفعالهم ويتأثّر فيها الضّعفاء . تتراءى فيها مستويات مختلفة للإدراك  والممارسة والوعي البشري:
1_ المستوى الأدنى الحسّي الغريزي وهو في علاقة بالجسد وضوابطه الهرمونيّة والعصبيّة، تتجسّد بأفعال إنعكاسيّة تلقائيّة متهافتة أساسها الحرص والتسرّع.
2_ المستوى الإنفعالي التشنّجي الحسّي الحركي في علاقة مع الصّورة والحركة وظاهر المظاهر، ينغمس فيها الإنسان في وَهْم الحياة وزيفها دون تراجع ورؤية نقديّة.
إنّها مستويات دُنيا ( 1+2 )للوجود البشري يظهر فيها الإنسان ككائن إستهلاكيّ فاقد للوعي الحقيقي المطابق لواقعه لوجودٍ حياتيٍ سالبٍ.
وهناك :
3_ مستوى أعلى من الإدراك والوعي في علاقة مع خبرات الإنسان بالواقع وممارساته الفعليّة، حيث يباشر مسؤولياته وأفعاله تحت نور العلم والمعرفة.
4_ ومستوى أرقى بنائي في علاقة مع الخبرة والممارسة والرّؤية الشّاملة والوعي بحقيقة الحياة يتجاوز فيها الإنسان الكيّس مرحلة الإستهلاك والتأثّر لينتج ويُبدع ويؤثّر.
إنّها مستويات عُليا ( 3+4 ) راقيّة للوجود البشري تجعل من الإنسان كائنا مُدركا واعيّا بحاله منتجا فهو  وجود حياتي موجب.
الحياة الدّنيا فرصة الإنسان  ومجال تأكّده وتحقّقه بمعناه الحقيقي، وهي فرصة أيضا لمعرفة الكون والعالم وفهم معاني الحياة .
 إنّه بالفعل والتّجريب والتّفكير في الفعل يكتسب الإنسان خبرة ملموسة في حياته من خلال ممارساته التّي تبرز وتتحقّق في الملاحظة العاكسة l›observation réflexive  التّي تخوّل له إكتساب تصوّر مجرّد يتبلور في نظريٌة أو فلسفة حياة تُغذّي أنشطته وأفعاله البعديّة، إذ أنّ عمل الإنسان على الواقع الفعلي يُغذّي تفكيره، وتفكيره يؤثّر على عمله.
ما وُجِد الإنسان على الأرض إلاّ ليعمل ويتعلّم ويفهم ويعي ويعلم ويفعل، ولا عزاء للقواعد والسّلبيّين والمتشائمين، فَهُمْ  القبور السّائرة في ركب الحياة. 
يعيش الإنسان فترات متعاقبة حياتيّة متتاليّة ميزتها الأساسيّة التطوّر والنموّ والتحوّل النّوعي والكمّي. ففي صباه وطفولته وخطواته الأولى يتلمّس ويتحسّس معانقا الحياة بكلّ شوق، ثمّ تتعمّق بعد ذلك أحاسيسه ومشاعره وعاطفته وذهنيته بالإختلاط والتّقليد والمنافسة، ثمّ تزيد خبراته بالممارسة والتّجارب بالإحتكاك بمشاغل وشواغل الحياة.
والكيّس الفطن من يهتدي إلى إكتناه معنى الحياة ويتبيّن حقيقتها، إذ أنّها فانيّة بفنائه وزائلة بزواله رغم إستمراريتها الحينيّة الظرفيّة فلا معنى لبقائها، إذ فُقِد وغاب عن مسرح الحياة وعليه بفرز ذاته بين الذّوات والنّفوس والمجتمع لكي يتحقّق فردا بفردانيته ووحدانيته بوعيه وإدراكه وعلمه ورؤيته الشّاملة لحقيقة الحياة ومعنى الوجود. فيتحرز من الدّنيا ويحذر زينتها وبهجتها، فلا يُعيرها إهتماما  وشغفا كبيرين لكي لا يغلب عليه التّفكير السّطحي السّاذج، فيسقط وينغمس في قعرها لامباليا بظاهر غرّتها وباطن عبرتها، فيسير مع «الهمج الرّعاع، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق».
ولن يهنأ  الإنسان بالعيش في الحياة ويستلذّ نكهتها ويستفيد من فرصة الوجود فيها إلاّ بعد الزّهد فيها ، «فمن أصدف عن شيء فقد أعذب منه»، ولينظر بعد ذلك إلى الدّنيا الفانيّة «نظر الزّاهد المُفارق لا نظر العاشق الوامق».
تلك حقيقة وجب على كلّ إنسان أن يعيها وأن لا ينساها، وأن تكون له همّة وعزم لبذل جهد طاقته لمغالبة ظروفه وشروط واقعه لكي«لا يرحل بدون عُدّة، لأنّ الطريق مُخيف».