بالمناسبة

بقلم
نجم الدّين غربال
الفقر وكيفية التخلّص منه استئناسا بـ «التحرير والتنوير» - (الحلقة الأولى)
 1 - في معنى الفقر
بالرّجوع الى تفسير الشّيخ محمد الطاهر بن عاشور ندرك معنى الاستعمال القرآني لمصطلحات كلّ من الفقر والفقراء والفاقرة آية بآية:
ففي تفسيره للآية 268 من سورة البقرة: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ذكر إبن عاشور أنّ الفقر هو «شدّة الحاجة الى لوازم الحياة لقلّة أو فقد ما يعاوض به، وهو مشتقّ من فقار الظّهر، فأصله مصدر فقره إذا كسر ظهره، جعلوا العاجز بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة لأنّ الظّهر هو مجمع الحركات ومن هذا سُمِّيَت المصيبة فاقرة وقاصمة الظّهر».
وفي تدبر للآية 28 من سورة الحجّ: ﴿لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير﴾ ذهب قول جميع المفسرين الى أنّ الفقير هو البائس الذي أصابه البؤس وهو ضيق المال وعن ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه»(3) 
أمّا الفاقرة فهي الدّاهية العظيمة، وهي نائب فاعل وإفراد فاقرة إفراد الجنس، أي نوعا عظيما من الدّاهية وذلك تفسيرا للآية 25 من سورة القيامة: ﴿ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ (4) 
ومن خلال تفسير الآية 24 من سورة القصص:﴿فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ يتراءى للمتدبّر تعدّد معاني الخير ومنه تعدّد حاجات الإنسان له، وتبعا لذلك فإنّ الفقر لا يمكن أن ينحصر في دائرة محدودة هي الدّائرة المادّية بل يتّسع معناه ليشمل أبعادا أخرى معرفيّة وروحيّة ونفسيّة وكذلك اجتماعيّة، فموسى عليه السّلام لمّا استراح من مشقّة السّقي ووجد برد الظّل، تذكّر بهذه النّعمة نعما سابقة أسداها اللّه إليه من نجاته من القتل وايتائه الحكمة والعلم، وتخليصه من تبعة القبطي، وايصاله الى أرض معمورة بأمّة عظيمة. تذكّر جميع ذلك وهو في برد الظّل والرّاحة من التّعب، فأعاد الخير لصاحبه شاكرا له ومُثن عليه وداع له، مُقرّا بفقر الإنسان لخير اللّه ﴿إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، ومن الخير وجود مأوى له يطعم فيه، وبيت وزوجة يأنس إليها ويسكن(5) وانعدامهم حالة من حالات الفقر.
والفقير في سياق الآية 6 من سورة النّساء:﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ هو المعسر الذي لا مال له، والذي اضطرته الحاجة الى أن يستعين بمال اليتيم ليدفع عن نفسه عائلة الجوع وتوجيه له للأكل بالمعروف، ففي الآية تخصيص لعموم النّهي عن أكل أموال اليتامى في الآيتين السّابقتين للتّرخيص في ضرب من ضروب الأكل وهو أن يأكل الوصي الفقير من مال محجوره بالمعروف، وفي صحيح مسلم عن عائشة: نزلت الآية في وليّ اليتيم اذا كان محتاجا أن يأكل منه بقدر ماله بالمعروف، وقال عمر إنّي نزّلت نفسي من مال اللّه منزلة الوصي من مال اليتيم إن استغنيت استعففت، وإذا احتجت أكلت بالمعروف، فاذا أيسرت قضيت»(6)  
والغنيّ ضدّ الفقير، فالغنى هو عدم الاحتياج الى شيء. يقال فلان غني أي له ثروة يستطيع بها تحصيل حاجاته من غير فضل لأحد عليه فوجد أن مجود الاجراء غنى وإن كان المستأجر محتاجا الى أجراء لأنّ وجدان الأجور يجعله كغير المحتاج والغنى المطلق لا يكون الاّ للّه تعالى، وفي الآية 135 من سورة النّساء:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا، فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا، وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾
وقوله ﴿إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ أي أن يكن المقسط في حقّه أو المشهود له غنيّا أو فقيرا، فلا يكن غناه ولا فقره سببا للقضاء له أو عليه والشّهادة له أو عليه، والفقير هو المحتاج الاّ أنّه يقال: افتقر الى كذا بالتّخصيص، فإذا قيل هو فقير فمعناه في العرف أنّه كثير الاحتياج الى فضل النّاس أو الى الصّبر على الحاجة لقلّة ثروته، وكلّ مخلوق فقير فقرا نسبيّا، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾(محمد:38)(7)  
فالفقر إذا، واستنارة بما سبق من تفسير «التّحرير والتّنوير» للآيات الأربع السّابقة، يُمكن أن نُعرّفه وبلغة مُعاصرة بانعدام القدرة على تلبية الحاجة. ويُطلق الفقر على من هو العاجز عن تلبية حاجته من لوازم الحياة لعجزه عن الحركة الاقتصاديّة (تمويلا أو إنتاجا أو استهلاكا أو تجارة)
وقد رأى البعض أنّ القادر على الكسب لا يُعَدّ فقيرا ولا يستحقّ الصّدقة، وبه قال الشّافعي ويحيى بن عمر من المالكيّة، في حين أجاز البعض لمن كان قويّا ولا مال له أخذ الصّدقة وهو المنقول عن مالك. 
 من جهة أخرى، يُسَاعد هذا التّفسير من معرفة طبيعة الفقر وبعضا من أوجهه، كما يُمكن معرفة لمن يَكُون الإنسان فقيرا، ومِن ماذا يَكونُ كذلك وكذلك كيفية التّعامل مع الفقير؟ 
هذا ما سنبيّنه في العدد القادم إن شاء اللّه.
الهوامش
(1)  «التّحرير والتنوير» للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور(الدّار التّونسيّة للنّشر – تونس 1984)
(2)  العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (ولد بتونس سنة  1296 هـ/1879م وتوفّي بها في الثالث عشر من رجب 1393 هـ/12 أوت 1973م) عالم وفقيه تونسي، تعلّم بجامع الزّيتونة ثمّ أصبح من كبار أساتذته، كان أوّل من حاضر بالعربيّة بتونس في القرن العشرين، أمّا كتبه ومؤلّفاته فقد بلغت الأربعين وهي غاية في الدّقّة العلميّة.
(3) الجزء السابع عشر من تفسير «التحرير والتنوير» من ص242 الى ص248
(4) الجزء الرابع من ص 183 الى ص185
(5) الجزء العشرون من ص98 الى 103
(6) الجزء الرابع، من ص244 الى ص246
(7) الجزء الخامس، من ص224 الى ص 228